طارق الطاهر - حضرة المتهم نجيب محفوظ.. جرجرة الأدباء للمحاكم

ما عاناه محفوظ في عقود سابقة مازال‮ ‬يعاني منه المجتمع الثقافي،‮ ‬هنا تكمن أهمية الكتاب الذي سيصدر قريبا عن كتاب اليوم الثقافي برئاسة تحرير الزميل الكبير علاء عبد الوهاب،‮ ‬بعنوان‮ " ‬حضرة المتهم نجيب محفوظ‮.. ‬الملف القضائي لأديب مصر‮" ‬للزميل الموهوب أيمن الحكيم،‮ ‬الذي استطاع أن‮ ‬يلتقط هذا الخيط،‮ ‬ليقدم لنا كتابا هاما وموثقا،‮ ‬ويدعو للتأمل‮: ‬هل‮ ‬يمكن أن نضع أمام من حصل علي نوبل لفظ‮ "‬متهم‮".‬
للإبداع المصري حضور كبير في النيابات والمحاكم‮ !‬،‮ ‬قدمت بلاغات ضد المفكرين والمثقفين،‮ ‬بل واغتيالهم في أحيان،‮ ‬ومحاولة اغتيالهم في أحيان أخري،‮ ‬واغتيالهم معنويا في أحيان ثالثة‮.‬
القائمة طويلة تضم من بينها علي سبيل المثال د‮. ‬طه حسين،‮ ‬الذي أنقذه وكيل النائب العام محمد نور من الجرجرة للمحاكم،‮ ‬بعد أن حقق في البلاغ‮ ‬الذي‮ ‬يتهم طه حسين بالكفر،‮ ‬اعتراضا علي كتابه‮ " ‬في الشعر الجاهلي‮"‬،‮ ‬إلا أن محمد نور كان متفهما لمعني الثقافة وقيمتها واجتهاداتها،‮ ‬التي تخلو بالتأكيد من أي قصد جنائي،‮ ‬فحفظ التحقيق محتميا بهذا المعني القانوني،‮ ‬الذي عاد واستخدمه منذ شهور قليلة القاضي إيهاب الراغب قاضي جنح بولاق أبو العلا،‮ ‬عندما برأ زميلي أحمد ناجي وبرأ أيضا كاتب هذه السطور،‮ ‬فمن ضمن ما ساقه في حيثيات البراءة أن كلينا لا‮ ‬يحمل فيما فعله أي شبهة جنائية،‮ ‬قبل أن‮ ‬يتم إدانتنا في الدرجة القضائية الأعلي،‮ ‬التي قضت بحبس ناجي وتغريمي،‮ ‬وبالمناسبة رفض الاستكشال الثاني لناجي في مطلع الأسبوع الماضي،‮ ‬ليستمر في محبسه،‮ ‬الذي أرجو من الله سبحانه وتعالي ألا‮ ‬يطول أكثر من ذلك‮.‬
في هذا السياق حمي ذات‮ ‬يوم قاض جليل الثقافة المصرية من عار كان سيحسب عليها،‮ ‬عندما أقدم أحد الأشخاص علي رفع قضية لمصادرة ألف ليلة وليلة لاحتوائها من وجهة نظره علي ألفاظ خادشة،‮ ‬فجاء حكم هذا القاضي برفض الدعوي،‮ ‬بل ذكر نصا‮:" ‬أن من تستثيره ألف ليلة وليلة تافها مريضا‮"‬،‮ ‬وهو العنوان الذي حملته واحدة من أعداد أخبار الأدب،‮ ‬وذلك عندما تم تقديم بلاغ‮ ‬ضد د‮. ‬أحمد مجاهد بصفته وقتها رئيسا لهيئة قصور الثقافة،‮ ‬وضد الأديب الكبير الراحل جمال الغيطاني بوصفه رئيسا لتحرير سلسلة الذخائر التي أصدرت الليالي،‮ ‬إلا أن النائب العام حينها حفظ البلاغ‮ ‬لسابق الفصل في الدعوي،‮ ‬استنادا للحكم الذي أشرت إليه‮.‬
وللأسف ما عاناه المثقفون والمفكرون والأدباء في عقود سابقة،‮ ‬مازال مستمرا،‮ ‬رغم أن دستور‮ ‬2014‮ ‬الذي وافق عليه الشعب بأغلبية ساحقة،‮ ‬يمنع الحبس في مثل هذه القضايا،‮ ‬لكن للأسف مازال الدستور حبيس مواده‮.‬
ما عاناه محفوظ في عقود سابقة مازال‮ ‬يعاني منه المجتمع الثقافي،‮ ‬و هنا تكمن أهمية الكتاب الذي سيصدر قريبا عن كتاب اليوم الثقافي برئاسة تحرير الزميل الكبير علاء عبد الوهاب،‮ ‬بعنوان‮ " ‬حضرة المتهم نجيب محفوظ‮.. ‬الملف القضائي لأديب مصر‮" ‬للزميل الموهوب أيمن الحكيم،‮ ‬الذي استطاع أن‮ ‬يلتقط هذا الخيط،‮ ‬ليقدم لنا كتابا هاما وموثقا،‮ ‬ويدعو للتأمل‮: ‬هل‮ ‬يمكن أن نضع أمام من حصل علي نوبل لفظ‮ "‬متهم‮".. ‬وأي مجتمع‮ ‬يريد أن‮ ‬يتقدم،‮ ‬أليس من المفترض أن‮ ‬يلاحظ هذه المفارقة الدالة علي ضرورة مراجعة ترسانة القوانين التي أدت بمحفوظ وغيره إلي ساحة المحاكم؟
في العدد الخاص الذي أصدرته أخبار الأدب بعنوان‮ " ‬خفايا نجيب محفوظ‮" ‬ونشر في‮ ‬13‮ ‬ديسمبر‮ ‬2015،‮ ‬وضعنا علي الغلاف العنوان التالي‮ " ‬مبدع الحرافيش‮ ‬ينتصر علي صلاح نصر‮" ‬وقصدنا أن نقدم جانبا من الجوانب التي خاضها محفوظ في حياته وهو الجانب القضائي،‮ ‬وضربنا مثلا بهذه القضية التي شغلت الرأي العام،‮ ‬وكان طرفها الرئيسي صلاح نصر مدير المخابرات العامة سابقا ضد نجيب محفوظ مؤلف رواية‮ " ‬الكرنك‮" ‬التي تحولت لفيلم سينمائي،‮ ‬رأي فيه نصر أن شخصية صفوان تتعرض له،‮ ‬ومن الممكن أن تفهم أنها شخصيته،‮ ‬مما‮ ‬يسيء إليه،‮ ‬واختصم صلاح نصر بالإضافة لمحفوظ‮: ‬منتج الفيلم ممدوح الليثي،‮ ‬والأبطال‮ : ‬سعاد حسني،‮ ‬كمال الشناوي،‮ ‬نور الشريف،‮ ‬وطالب بمنع العرض،‮ ‬ووقف محفوظ ليدافع بنفسه عن عمله مؤكدا أنه لم‮ ‬يمس شخصية صلاح نصر،‮ ‬وفي النهاية رفضت المحكمة الدعوي،‮ ‬وانحاز المستشار منير محمد الصايغ‮ ‬رئيس المحكمة التي أصدرت الحكم،‮ ‬للإبداع،‮ ‬بل ذكر نصا‮: " ‬أن الفيلم لم‮ ‬يمس شخصية صلاح نصر،‮ ‬وإنما‮ ‬يصور أحداثا عاما وأشخاصا بأسماء وهمية ليحكي تاريخا للبلاد في حقبة معينة تاركا للمشاهد بخياله الخصب أن‮ ‬يبحث في تاريخ مصر في تلك الفترة‮"‬،‮ ‬وهذا الحكم بحيثياته‮ ‬يضاف لأحكام كثيرة أعطت للخيال حقه وقيمته،‮ ‬بل أن الحكم لم‮ ‬ينتصر لخيال المبدع فقط،‮ ‬انتصر ‮ ‬أيضا لخيال المشاهد‮.‬
في كتاب أيمن الحكيم‮ ‬يوثق‮- ‬علي حد تعبيره‮- " ‬للدعاوي القضائية التي كان أديب مصر طرفا فيها‮: ‬متهما‮ ‬غالبا ومجنيا عليه أحيانا،‮ ‬وبريئا دائما،‮ ‬وينفرد الكتاب بنشر مذكرات دفاع نجيب محفوظ كاملة في قضيتين من أخطر القضايا التي أقيمت ضد كاتبنا الكبير،‮ ‬كانت الأولي بسبب روايته الأشهر‮ " ‬أولاد حارتنا‮" ‬وطالب فيها صاحب الدعوي بالتفريق بين نجيب محفوظ وزوجته،‮ ‬لأن الرواية‮ ‬حسب إدعائه تحوي علي ازدراء بالدين من وجهة نظره‮ ‬يستوجب تفريقه عن زوجته،‮ ‬ورغم أنها دعوي‮ ‬غريبة ومريبة بل وهزلية،‮ ‬لكن ما تضمنته من تفاصيل ووثائق‮ ‬يمنحها أهمية خاصة وموقعا فريدا في الملف القضائي لنجيب محفوظ‮!‬،‮ ‬والدعوي الثانية كانت بسبب مذكرات نجيب محفوظ التي كتبها أستاذنا رجاء النقاش وأصدرها العام‮ ‬1998،‮ ‬,أحدثت دويا هائلا وردود أفعال واسعة،‮ ‬لكن محفوظ والنقاش فوجئا بدعوي قضائية تقودهما إلي المحكمة بتهمة السب والقذف،‮ ‬من آخر شخص‮ ‬يتوقعانه‮: ‬ابن شقيقة نجيب محفوظ‮ ‬يطالبهما بتعويض مالي ضخم،‮ ‬ومصادرة المذكرات لحذف أجزاء منها رأي أنها تتضمن إساءة بالغة له ولأسرته‮!".‬
في‮ "‬أخبار الأدب‮" ‬ننشر وثائق الدعوي الثانية ولمذكرة الدفاع التي تعتبر وثيقة أدبية لكيفية قراءة الأدب عموما والسير الذاتية علي وجه الخصوص،‮ ‬والأهم هو إثبات أن للأدب لغته وخياله،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن أن ننظر إليه دون هذا الاعتبار،‮ ‬والأهم من وجهة نظري هو المقارنة التي وردت في هذه المذكرة بين ما‮ ‬يحدث لمثقفينا من جرجرة للمحاكم وما‮ ‬يحدث لمثقفين آخرين في بلدان أخري من تعامل مختلف مع إبداعاتهم،‮ ‬فقد جاء في المذكرة نصا‮: " ‬ومن منا لم‮ ‬يقرأ‮ ‬أو علي الأقل‮- ‬يسمع عن‮ " ‬اعترافات جان جاك روسو‮" ‬وما تضمنته من تعرية شاملة لحياته وحياة كل من اتصل أو ارتبط به صراحة لا مثيل لها‮.. ‬ومع ذلك فقد نالت تلك الاعترافات مكانها ومكانتها في عالم الفكر والفن والأدب،‮ ‬ولم نسمع أن من تناولتهم‮ ‬وكشفت المستور في حياتهم‮- ‬وجدوا في ذلك شيئا‮ ‬يضطرهم إلي أن‮ ‬يعرضوا الأمر علي القضاء،‮ ‬أو‮ ‬يصلوا به إلي ساحات المحاكم‮".‬
وجاء في المذكرة انتفاء الركن الجنائي في الكتاب،‮ ‬مما‮ ‬يجعل البراءة،‮ ‬هو الحكم الذي‮ ‬يتفق مع صحيح القانون،‮ ‬وهو ما حدث فقد تم رفض الدعوي،‮ ‬وتبرئة محفوظ والنقاش‮.‬
إن الكتاب‮ ‬يتضمن مادة ثرية عن جانب لم‮ ‬يكن خفيا تماما،‮ ‬ولكن تجميع القضايا التي رفعت ضد محفوظ،‮ ‬تبين مدي الاستهلاك النفسي والعصبي الذي تعرض له هذا الأديب الكبير في الجرجرة للمحاكم،‮ ‬هذه الجرجرة التي نتمني أن نجد لها حلولا قانونية تتسق ليس فقط مع صحيح الدستور،‮ ‬ولكن تتفق مع طموح أن نكون في مصاف الأمم المتقدمة‮.‬

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى