إبراهيم مشارة - المعاناة الخالدة أو الإبداع في حضرة الألم

الألم كظاهرة جمسانية أو نفسية مظهر من مظاهر النقص في الكائن البشري وآية عدم سويته إنه يصيب الإنسان بالعجز ويحسسه بانسحاقه وبعدم قدرته على مزاولة حياته اليومية كغيره من بني جنسه.
وسواء أكان الألم جسديا أو نفسيا فإنه يلقي بظلاله الشاحبة على عالم اللاوعي ويمسح بكآبته على سراديب الروح فيحس الفرد بنقصه وربما عدم كفاءته -على الأقل- في ممارسة الحياة العادية كعامة الناس.
ولأن الإنسان أناني بطبعه، وغريزة البقاء متأصلة فيه تأصل خلاياه وأنسجته ولأن الموت والنسيان هما خصماه اللدودان، فإنه يسعى لاستكمال ذلك النقص المتجلي في المعاناة بضربيها الجسدي والنفسي بالتطلع إلى عوالم لا يرقى إليها الأشخاص العاديون وبالتحليق في سماوات تقصر مدارك الناس عنها إنه اللاوعي
يقاوم الفناء ويؤكد خصوصية الذات ويستنبت بذور البقاء، ويشفي الغليل -غليل نفس مهما كانت إنسانية-
فهي حاقدة على الصحة الموفورة والإتزان النفسيى للجماعة -القطيع- ولهذا كان شاعرنا الكبير المتنبي على حق حين قال:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وإذا كان فرويد يفسر الإبداع على أنه التحول في الليبدو فإن كارل جوستاف يونغ السويسري يفسره على أنه إحساس بالدونية ومن ثمة التسامي -عن طريق الإبداع- بهذه الذات إلى الظهور في مستوى الناس العاديين بله والتفوق عليهم والإستعلاء على مداركهم وطموحاتهم.
وقد كانت العرب على حق حين قالت كل ذي عاهة جبار وهو قول علمي أكثر منه أدبي مضمونه جمع بين الفلسفة والعلم، وترك لعقل القارئ تحليل هذا القول واستقصاء جزئياته لإدراك مرامية البعيدة التي شرحناها من الوجهة النفسية والوجودية في بداية المقال.
وفي أدبنا العربي قديمه وحديثه مبدعون كبار –نثار وشعراء- ينسحب عليهم هذا القول وذلك التحليل المقدم آنفا.
لقد كان الألم مهمازا للقريحة، ووقودا للسير في طريق الإبداع والخلود وأجنحة حلق بها أصحابها في عوالم الفكر والشعور، ومعارج عرجت بهم إلى قمة الأولمب بين أقدام أبولون فباركها بأن منحها الخلود ومنح إبداعها إكسير البهاء والبقاء.
والعجيب في أدبائنا الشعراء والكتاب المتألمين كانوا كالشهب في سماء الخلق الفني أضاءوا إضاءات سريعة واختفوا عن الوجود لم يثبتوا ثبات النجوم حتى ليملها الرائي، فقد كانت حياتهم قصيرة كان الألم والنشيج والأنين حجر الزاوية فيها، وأشد ما يلفت في الشهاب سرعة حركته واندفاعه في السماء وشدة ضيائه الذي يكاد يخطف الأبصار ويكسف ماحوله من نجوم عتيقة. وكذلك كانت حياة هذا النفر من الأدباء ولعل شاعرنا الصداح فوزي المعلوف ( 1899/ 1930) خير من يمثل هذه الفئة وهو إن لم يصبه الداء العياء في صدر شبابه، بل كان مثالا للصناعي الناجح في البرازيل والغني المتألق الوسيم، ولكن معاناته كانت نفسية وجودية رأت الحياة بمنظار أبي العلاء، وتشربت معاني رباعيات الخيام فبدا لها الوجود غفوة والموت صحوة والمال والبنون والصحة والوسامة مظاهر خداعة تتستر على هاوية العدم وقاع الفناء، وعانى هذا الشاعر من النفاق والرياء والكذب والغرور والحسد تلك الصفات المميزة للانسانية في ملمحها العام اسمعه يقول:
من يمت ألف مرة كل يــــــوم
وهو حي يستهون الموت مره
تعب كلها الحياة وهـــــــــــــــذا
كـل مـاقال فيلسوف المــــعره
واقرأ معي هذا المقطع الذي تجد فيه الشاعر قد نفذ إلى لباب الوجود
– حسب رأيه- فإذا هو الزوال والفناء:
نـظرت وردة إلـي وقـالت
أنت مثلي في الكون للكون كاره
ويـح نفسي مـن الربيع ففيــــــــه
أجتـنى بـين آسـه وبـهـــــــــــاره
ومن الصيف فهو يحرق أكمامي
علـى رغـمها بـلفحة نـــــــــــــاره
والـنسيم البـليل هــــــــــــل هو إلا
قـاتلي بـين وصـــــــــــــله ونفاره؟
يتصابـى حـتى أســـــــلمه نفسي
فـيجفو والـعطر مـــــــــلء إزاره
وكان آخر ما نظم هذا الشاعر:
مرحبا بالعذاب يلتهم العي
ن التهاما وينهش القلب نهشا
مشبعا نهمة إلى الدم حرى
ناقعا غلة إلى الدم عطــــشى
وقد خاطب قلمه أجمل خطاب مرة:
يايراعي مازلت خير صديق
لي منذ امتزجت بي وستبقى
باسما من سعادتي حين أهنا
باكيامن تعاستي حين أشقى
وأما الشاعر اللبناني الآخر إلياس أبو شبكة (1903 / 1947) بودلير الشرق هذا الشاعر الذي أبدع في وصف الغواية، وتتبع العورة والسقطة، فقد كان الألم دافعه في الإبداع وحاديه في الكتابة اسمعه يقول:
من لم يذق في الخبز طعم الألم
ولـم يـنكر وجـنتيه الســــــــــــقم
من لـم يغـمس قي هواه دمـــه
من يمنع الأهـوال أن تطعمــــه
من ليس يـرقى ذروة الجلجـــــله
ولم يسمر في الهوى أنمـــــله
لن يعرف الـعمر شعاع الإله
ولـن يــــــــرى أمـاله في رؤاه
وفي البيت الثالث استلهم الشاعر قصة صلب المسيح أجمل استلهام واللافت في هذا الشاعر البارع في وصف الغواية والمدرك لحقيقة الشعر والحياة معا وهي قول وليم بليك (اذهب وطور قابليتك على رؤية الرؤى حتي تصل بها إلى أفضل مايمكن أن تكون عليه) . أنه عانى ألما جسديا ونفسيا معا عجلا به إلى هاوية العدم وماأجمل قوله:
إن الشقا سلم إلى السما
فعدن ميراث لمن تألما
وأجمل منه هذا المقطع الظاهر فيه التأثر بالرومنطيقية الفرنسية الحزينة:
إجرح القلب واسق شعرك منه
فـدم القـلب خمرة الأقلام
وإذا أنت لم تـعذب وتـغمس
قـلما فـي قـرارة الآلام
واشق ماشئت فالشقا محرقات
صعدت من مذابح الأرحام
رب جرح صار ينـبوع شعر
تلتقي عنده النفوس الظوامي
وزفير أمسى إن قدسته الروح
ضـربا مـن أقدس الأنغام
وعذاب قد فاح مـنه بـخور
خالد فـي مجـامر الأحلام
وكذلك كان شاعر مصري الذي لايعرفه إلا القليل صالح الشرنوبي ( 1924-1951م)
رفيق صالح جودت، جرته كآبته ومعاناته النفسية وقلقه الوجودي إلى الموت تحت عجلة القطار وهو القائل:
غدا يا خيالي تنتهي ضحكاتنا
وآمالنا تفنى وتـفنى المشاعـر
وتسلمنا أيدي الحياة إلى البلى
ويحكم فينا الموت والموت قادر
وقد كان الشاعر خليل شيبوب(1891م-1951م) صريع الداء مكدود البدن تساقط نفسه أنفسا على حد وصف امرئ القيس لعلته، وزاده الألم النفسي قهرا وعذابا فانفجر يقول:
أنا بين الأمراض والحسرات
ذهبت صبوتي وضاعت حياتي
كم دعوت السماء دعوة يأس
عالما أن راحتي فـي ممـاتي
حبذا الموت يـاظلام فـإني
تاعس الحظ قد سئمـت حياتي
وأما الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير ( 1912-1937م )
فقد كان الألم هو الأخر -وألمه هنا نفسي- كألم صاحبه دافعه إلى الإبداع وسلمه إلى التحليق في سماء الإبتكار، وقد كان كسابقيه شهابا خطف الأبصار سناه ثم انتهى رمادا اقرأ معي هذا المقطع الدال على معاناته:
ثـم مـاذا جـد مـــــــــــن
بعد خلوصي وصفائي؟
أظلمت روحي ماعدت
أرى مــــــــــــــاأنــاراء
أيهذا الـعثير الغـــــــائم
فـي صـحو سمــــــائي
للمنايا الـسود آمـالي
وللـموت رجـائـــــــي
في قصيدته قلب الفيلسوف يقدم لنا الشاعر ملامحا لشخص مرهف الحس، شديد الألم، تغطيه أسمال بالية على هيكل مكدود وهو يعني نفسه ومن على شاكلته:
أطل من جبل الأحقاب محـتملا
سفر الحياة على مكدود سيمـاه
عاري المناكب في أعطافه خلق
من العطاف قضى إلا بـقايـاه
مشى على الجبل المرهوب جانبه
يكاد يلمس مهوى الأرض مرقاه
هنا الحقيقة في جنبي هنا قـبس
من السموات في قلبي هنـا الله
أما شاعر العربية الكبير وبلبلها الصداح ونسمتها المنعشة وعبيرها الفواح شاعر تونس الخضراء أبو القاسم الشابي (1906 / 1934) فالألم الجسدي وقصور قلبه كانا سبب نكبته ومعراجه إلى سماء الخلود وطريقه إلى الشعر بعد أن امتلك أسبابه وتهيأت له فواتحه، ولست نتحدث عن الشابي المجدد والرومانسي وصاحب رائعتي إلى الطغاة وإرادة الحياة وإنما نتحدث عن الشابي المكدود العليل الصارخ من الألم المستشعر نهايته القريبة في شرخ الشباب ونضارة العمر ونكتفي بمقطعين يعبران عن معاناته الجسدية والنفسية من قصيدته الصباح الجديد وكأنه يؤمن في هذه القصيدة بتناسخ الأرواح، أو بفكرة البعث بعد الموت واستمرار الحياة إلى الأبد في أطوار وحيوات مختلفة، ولكنها حيلة اللاوعي وغريزة البقاء تسكن لوعته وتهدأ من روعه حتى تحين القاضية إسمعه يقول مخاطبا آلامه وجراحه:
أسكـني يـاجـراح
واسكـتي يـاشجـون
مـات عـهد النواح
وزمـان الـجـنـون
وأطـل الصـبـاح
مـن وراء الـقـرون
في فجـاج الـردى
قـد دفـنـت الألــم
ونـثرت الدمـوع
لــريـاح الــعـدم
واتخـذت الـحياة
مــعزفـا للنــغـم
أتـغـنى علـيــــــــه
في رحـاب الـزمـان
أما شاعر العراق الكبير ورائد شعر التفعيلة بدر شاكر السياب (1926 / 1964) فكانت معاناته جسدية جسد ذاوي كأوراق الخريف ونشاز خلقي سبب له الألم وهو الشاعر المفتون بالنساء العاشق للمرأة الراغب في استملاكها الساعي إلى مواقعتها نزولا عند رغبتها واستجابة لاستعطافها، لقد كان السياب ظاهرة فريدة طواه الموت قبل الأربعين وأخرس صوت الألم فيه ولكن الألم خالد في شعره يصيبنا بفيروسه كلما قرأنا شعره وإن كنا لسنا كالقابض على الجمر، وفي قصيدة دار جدي وهي من أجمل قصائده التى توحي بهيبة صاحب الجلالة الزمن وتشعرنا بتفاهتنا وتفاهة الموجودات أمام عرشه الأزلي الأبدي، في هذه القصيدة إشارة إلى مرضه وألمه وآهته وإنه ليؤثر تأثيرا بالغا في وجدان قارئه حين يقول:
وفي ليالي الصيف حين ينعس القمر
وتذبل النجوم في أوائل السحر
أفيق أجمع الندى من الشجر
في قدح ليقتل السعال والهزال
ولما استبد بالشاعر الألم وأعياه الصراخ وجفاه النوم وانتحرت خلاياه يأسا وسكن الموت في سراديب روحه وتلافيف مخه، ورأى هاوية العدم تنفتح لتبتلعه لم يجد غير الله يلوذ به ولربما أدركه اليأس حتى من الله ولكنها حيلة اللاوعي وغريزة البقاء تعمل عملها وتحيي سنتها في مخلوقاتها إقرأ معي قوله:
شهور طوال وهذي الجراح
تمزق جنبي مثل المدى
ولايهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح الليل أو جاعه بالردى
وقد جاءه الردى أخيرا فمسح الأوجاع وطوى الآهات وأخرس الأنات ولكنها خالدة في دواوين الشاعر.
هذه لمحة عجلى عن الألم -النفسي والجسدي- وعلاقتهما بالإبداع، استقصيناها عند بعض شعرائنا المحدثين، وإن كانت ثنائية الألم والإبداع ظاهرة موجودة في كل آداب الدنيا قديما وحديثا، وسيظل الألم هو الطريق إلى ذروة الجلجلة على حد وصف شاعرنا إلياس أبي شبكة، ولكن المشكلة أنه ليس في مقدور أي إنسان أن يخلد معاناته ويؤبد ألمه ويفرض على الزمان اسمه وإبداعه وبذلك ينفلت من هاوية النسيان، فالإبداع في الأصل موهبة لها ملكاتها الفطرية في وجدان صاحبها ويكون الألم عند البعض الوقود الذي يلهب مشاعر الأديب فيسابق الريح ويحرق المراحل ويخلد في شرخ الشباب وفي نضارة الصبا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى