حجي جابر - "سمراويت".. والبحث عن الهوية الضائعة

قبل أكثر من عقد من الزمان اتّجهتُ مساء صوب مبنى القنصلية الإرتريّة في جدّة للمرّة الأولى طوال إقامتي في السعودية. كان الأمر مربكاً للغاية، كنتُ كمن يغادر مكانه المريح إلى آخر لا يعلم تماماً كيف سيكون شكله. لم يكن مشواراً عادياً، كان تغييراً كبيراً، أو هكذا توقّعت.
حين دلفتُ إلى الساحة المحاطة بأسوار عالية وجدتُ الباب يفصل بين عالمين؛ عالم جاف متعكّر في الخارج وآخر مختلف في الداخل، حيث الموسيقى والصبيات الأنيقات يتجولنّ دون أن يثير وجودهنّ أي اضطراب جماعيّ أو فرديّ. أحببتُ كوني لم أثر انتباه أحد، كان ذلك مؤشراً لكوني لا أبدو مختلفاً. تقدمتُ قليلاً وأنا أنقّل بصري في المكان، كنت أبحث عن وجهة أولى داخل هذا المكان، وجهة تصلح مفتتحاً لهذا القرار، حتى وجدتها أخيراً. رأيت مجموعة تتحلّق حول شابّ يعزف على البيانو. من بعيد أخذ صوت الموسيقى يتسلّل إليّ، وكلما اقتربتُ ازداد وصولاً إليّ. ثمّة ألفة غريبة جمعتني بهذا اللحن، هذا أسعدني للغاية. حين وصلت لم يلفت ذلك انتباههم، كان ذلك يعني أيضاً أني مثلهم تماماً. لكن الأهم أني تعرّفتُ على اللحن، كنت قد سمعته مرات كثيراً. حاولتُ تذكّر الأغنية دون جدوى، وفي النهاية اكتفيت بنصف المعرفة هذه ووجدتها أكثر من كافية لأصرخ بها على الملأ: “أنا أعرف الأغنية بس ناسي اسم الفنان”.
ما حدث أن العازف توقّف عن العزف والشباب غرقوا في ضحك هستيري، وعرفتُ أن اللحن لم يكن سوى النشيد الوطني الإرتري.
قبل هذا الموقف بثلاثة عقود كنتُ رفقة عائلتي نعبر البحر الأحمر على عجل تحت القصف من مدينتي الساحلية مصوّع صوب مدينة جدة. هناك كبرتُ وبدأتُ تشرّب الحالة الجداوية، لهجة وسلوكاً وطباعاً، حتى أصبحتُ آخر المطاف جدّاوياَ جداً دون أن تربطني أي علاقة بالمدينة التي غادرتها مصوّع. أصبحتُ أحفظ السلام الملكي السعودي، وأطرب لطلال مدّاح وعبادي الجوهر، وأشجع الأهلي. هذا لم يكن حالي فقط، فمعظم أقراني الإرتريين كانوا مثلي سعوديين قبل أي شيء آخر. هذا الأمر استمرّ حتى تأريخ أستطيع الإشارة إليه كموعد لبدء تبدّل الأحوال، إنه حرب الخليح الثانية، حين غزا العراق الكويت. هنا حصل الانتباه لدى السعوديين وعموم الخليج بهويتهم في مقابل الهويات الأخرى، وأصبحنا نحن، الغارقين في الهوية السعودية، بدءاً من ذلك التأريخ أصحاب مسمى جديد هو “الأجانب”. أصبحتُ أسمع هذه المفردة بشكل شبه يومي في المدرسة. كل قرار إداري كان ينقسم إلى قسم يخص المواطنين، وآخر يخصنا نحن الأجانب. لهذا كنا نقف أو نجلس أو نصطفّ يميناً أو يساراً فقط كي نتمايز عن أصحاب البلد، وما كان يميّزنا شيء لا على مستوى الحديث أو طريقة اللباس.
تسارعتْ وتيرة تمييزنا حتى ترسّختْ القناعة لديّ أنني وبشكل كامل أصبحتُ شخصاً آخر لا ينتمي إلى جدة التي ما عرفتُ مدينة غيرها. لهذا جاء القرار أخيراً بالبحث عن هويتي الضائعة، بالعودة إلى جذوري كإرتري غادر موطنه صغيراً بفعل الحرب، والحرب فقط. وكان المشهد الذي استفتحتُ به شهادتي هذه هو أول خطوة نحو العودة إلى الوطن الأم. وهو وإن بدا مخيّباً للآمال فإني واصلتُ رحلة حقن أشيائي بكل ما يخصّ إرتريا، فحلّ النشيد الوطني الإرتري الذي حفظته أخيراً محل السلام الملكي السعودي، وجاء المطرب إدريس محمد علي في مكان طلال وعبادي، غير أني لم أستطع العدول عن تشجيع النادي الأهلي لأني لم أجد في إرتريا ما يقابله، فكل فريق أو منتخب يتم تشكيله كان يهرب من البلاد في أول فرصة لمشاركة خارجية.
تُوّج هذا الامتلاء المتعمّد بأول زيارة لي إلى أسمرا في العام ألفين وعشرة. حينها عدتُ ممتلئاً بمشاعر متناقضة. لم يكن سهلاً اختبار العديد من المفردات التي كنت أعتقد أني أعرفها. هناك لمستُ المعنى الأول لفكرة الحياة في بلادي، وليس في بلاد الآخرين كما فعلتُ على الدوام. هناك جربتُ أن أصرخ بملء صوتي دون أن أخشى ملامة أحد. لكن ومع هذا فقد عدتُ بخيبة أمل غير متوقعة. إرتريا لم تكن تشبهني أبداً، لغة وملابس وأسلوب حياة. كنت الكائن الأكثر غرابة ونشوزاً في شوارع أسمرا، ولم يكن السكّان هناك يفوّتون فرصة لتذكيري أني شخص مختلف. لم أكن في نظرهم سوى سعوديّ اقتطع وقتاً لزيارتهم.
بمجرد عودتي محتشداً بهذه المشاعر كتبتُ روايتي الأولى “سمراويت”، وهو عمل عكس حال اضطراب وتشظي الهوية التي كنتُ أعيشها. كان قرار الابتعاد عن السعودية حاضراً لكني في المقابل لم أجد إرتريا، فأصبحتُ معلّقاً بين وطنين دون القدرة على الالتجاء لأحدهما.
كتبتُ “سمراويت” في غرفة الأخبار، في ذروة أحداث الربيع العربي، بين الخبر والخبر، والموت والموت. الآن حين أعود بذاكرتي لتلك الأيام لا أعلم بالضبط كم تسلل إليها من تلك الأجواء الساخنة، لكنّ الأكيد أنها كُتبت بصدق عزّ استحضاره بعد ذلك.
وجدتْ “سمراويت” بعض القبول لأنّها تقاطعتْ مع حالة كثيرين، فوجئتُ بشساعة الأماكن المؤقتة على حساب الدائمة، بأفواج العالقين في الأوطان البديلة ينتظرون التفاتة من الوطن الأم، بالهائمين على وجوههم دون وجهة أخيرة. تغيّرتْ أمور كثيرة لكني بقيتُ على حالي، تُمثّلني “سمراويت” دائماً، أسافر من بلاد الآخرين إلى بلاد آخرين، ولا وطن في الطريق.



ــــــــــــــــــــــــ
الرواية نت – خاصّ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى