شهادات خاصة محمد بنيس - حياة في القصيدة.. شهادة كتابة القصيدة بصفتها سفرا في اللامسمي وتأكيدا علي المستحيل!

يمكن للكلمات أن تعطي الليل لما يبحث عن ليله، في زمن وفي قصيدة. تلك هي حياة (حياتي) في القصيدة، وأنا مقبل علي إصدار أعمالي الشعرية في ديوان. ولي هنا حالة الوقوف أمام شعر كتبته، أعدت كتابته، في مراحل من حياة . كأنما هي ليلة. واحدة. كأنما هي الأزمنة كلها. غموض هذه الحياة يسفر عن شقوق وعن ندوب. حياة متعددة الميلاد، وأنا اليوم أمامها أرجع الصمت إلي مكانه. ما كتبت (وما لم أكتب)، في الدهشة والرهبة والريبة. دواوين تحتضن القصائد مثلما هي الدواوين في القصيدة تهاجر.
وأنا الذي رافقتها في السراديب، ليلة لا تنتهي، أزمنة، ربما، أقول لنفسي وأنا أنظر الآن إلي حياة تنفصل عني قليلا : ألم أعش حقا إلا هذه الحياة، حياة في القصيدة؟ أو بتعبير متردد : هل جعلت من الحيوات الأخري عبورا، مجرد عبور، نحو القصيدة؟ ثم أصوغ القول علي نحو مباشر : أليست الحياة في الكتابة نفيا لكل انعكاس حياة شخصية (أو غير شخصية) في القصيدة؟ أسئلة تفضي إلي حياة ضاعفت فيها من أفعال اختراق مسالك خلفية، ما زلت أسمع في سفوح ذكرياتها أصداء السير علي قدمين داميتين، صاعدا نحو المكان الذي يدنو مني أو يبتعد. القصيدة. حتي أصبحتْ أكثر من مكان. إنها وطن. وحدها القصيدة. الكتابة. وطني.
حركة مزدوجة وأنا أحاول التأمل. من القصيدة إلي الصمت. لأجل ذلك حضر الليل، في الجملة الأولي، صادرا عن قولة ابن عربي التي جاء فيها : العلم ليلٌ لا صبح له . حضور الليل، هو حضور العلم، الذي هو هنا العلم بحياة في القصيدة. ليل بحري كما وصفه امرؤ القيس وليل كموج البحر أرخي سدوله / عليّ بأنواع الهُموم ليبْتلي . ليل في ليل. من القصيدة إلي الصمت. يقيم فيه كل من ابن عربي وامرئ القيس. وأنا أمد الخطو باتجاهه. مولوعا بما لا أبلغه يقينا.
حينما أستحضر قولة ابن عربي، متواشجة مع بيت لامرئ القيس، فذلك أيضا بهدف التحية. متصوف وشاعر خبرا معا عذابات الطريق. وفي الغربة تابعا السفر، باحثين عن المعني الأصفي للكلمات. لي مع ابن عربي نسب السفر بقدر ما لي معه نسب المكان. من ثم جاء الكلام بصيغة المتكلم عن قصيدة، وعن حياة فيها. بجرأة. ربما. وبتخل عن الندم. ولي نسب مع ابن القيس، هو العربية في حالة النشيد، وجها لوجه أمام الغياب الموت، وافقا علي أطلال، بعينين باكيتين، وحيدا في صحراء أرعاها داخل مكتبتي. بهذا النشيد أتسمي عربيا، وله أنصت كلما أبصرت القصيدة أو ما يناقضها. وعلي لساني يتكلم وديعة، هي ما أملك في حياة وفي سفر.
يتساوي لدي الإقدام علي التفكير في تهييء الديوان، أو الأعمال الشعرية في ديوان، مع تلك اللحظة الأولي من الكتابة. دهشة. رهبة. ريبة. لكن اللحظة الأولي لم تكن اختيارا. فالكتابة هي التي آنذاك اختارتني. ثم جاء اختياري لاحقا، عندما أصبحت أمام القصيدة، مسؤولا عنها. وهي التي تسألني، اليوم، عما أختار ضرورة. أمامي ما كتبت، وبقسوة أري وأختار، مستقصيا البداية، وأنا أعيد الكتابة والتفكير في الكتابة.
لست متيقنا من معرفة معني البداية في ممارسة كتابة قصيدة. الأبيض الواسع للسطوح الفاسية. النوافير الموزعة علي البيوت والمساجد. الصمت في الدروب والخوف. الضوء والعتمة وهما يتضاعفان مع الأيام. كل هذا لم يكن كافيا لأكتب. الحجة الأفضل هي ضرورة التخلي عما هو خارج القصيدة، والالتفات إلي سراديب ، فيها نشأت لي حياة في القصيدة، منذ سنة 1966، تاريخ كتابة أول قصيدة بها افتتحت ديوان ما قبل الكلام . قصيدة من الموت ومن الدم سمعتها تنزل. لن أقيس حياة في القصيدة بالسنوات، ولا بعدد الدواوين. أتحاشي كل تاريخ خطي، وبدلا منه أقترب من التاريخ العمودي، الذي تنشئه الكتابة. ذلك هو القياس الذي ينتج عن مفهوم الاختيار وقد أصبحت حياةٌ في القصيدة تجربةَ ذات ومصير.
الديوان نفسه يفرض ذلك. ثمة حياة قطعتها القصيدة. في مجاهل لا يمكن إدراكها تماما. قصائد ودواوين عاشت حياة الميلاد المتعدد، لأن الكتابة هي إعادة كتابة، ماحية سواها، مصاحبة للمستحيل واللامسمّي. تلك هي تجربة كتابة النقصان، كفعل لانهائي. فاليد التي كتبت كانت تعود لتكتب. والأمر بالكتابة، أعني إعادة الكتابة، يتكرر في كثافة الصمت، صامتا، أمام القصيدة.
كانت القراءة مستولية علي، منذ الصبا. ومع بداية الستينيات قرأت دواوين يلمع فيها الشخصي الحر من كل إلزام. قرأت الشعر بعد أن كنت قرأت القرآن من قبل. قراءة الشعر تمت خارج المدرسة وبدون أي مسؤولية جماعية أو تربية إرغامية. دواوين للشخصي، خاصة دواوين وأعمال أبي القاسم الشابي، جبران خليل جبران، أبي الطيب المتنبي، أبي العلاء المعري. وجدت في هذه الدواوين والأعمال الرحمة التي كنت أفتقدها. كانت حوارا متفردا بيني وبين هؤلاء الشعراء. ما قرأته في دواوينهم هو الشخصي. من حياة واقعية وخيالية. ما لا أحد يراه. عالم الوحدة، الألم، الشك، الجمال. بدون جنة ولا نار. ولا يقين. ولا واجب الخضوع.
وفي تأمل ما كنت أقرأ كانت اللغة، الصورة، اللمحة، البناء، التفاعل، التجانس، في القصيدة، هي ما ألتقي فيه بهؤلاء الشعراء. لأول مرة دب في أعضائي رنين لغة بشرية لها الصعق، حتي تبدي لي الفضاء الشعري متجسدنا في اللغة، بامتياز. حرية اللقاء بالشخصي، الذي يكتبه شخص عاش في زمن، تتعرف عليه. وفي القصيدة أسرار لا تدركها. قارئا. متوحدا في القراءة.
ثم الفراشة التي أحاطت باليد، نفخت فيها، وعلي الدفتر ألقت بها. يدي تكتب ثم تكتب. قصيدة. تنقلني إلي الشخصي، إلي ما لا يمكن البوح به للآخرين، أو بلغة الآخرين. كشف واستكشاف. منفـي. في القصيدة التي لا تكتب مرة واحدة، هاربة من كل كتابة متعجلة، تهفو إلي التخلص بسرعة من القصيدة. إنه العثور علي كتابة تستلذ البطء. للمرة الثانية والثالثة. كتابة كانت بالنسبة لي تعني إعادة للكتابة. تلك هي الحالة الأولي لحياة كنت أراها، وأنا في غرفتي المعلقة في الطابق الأعلي من بيت العائلة ب عرصة الطاهريين ، من أجل القصيدة، أو لربما كنت أجدها مفضية إلي حياة سرية في القصيدة، دون أن يعلم أحد ما الذي كنت أفعله بالضبط. حياتان. لا تتقاطعان إلا صدفة. في معبر. يطل علي هاوية. اسمها الموت. لذلك فإن الليل، قبل المكر، هو ما تبتغي الكلمات السفر نحوه. هاتفا فيك. موحيا. أو شبيها بالصمت.
في تلك السنوات الأولي، كانت القصيدة ملتزمة بالكتمان. ثمة ألم في القلب. وأنا أغادر البيت للدراسة في الثانوية (والجامعة) أو للبحث عن ديوان أو كتاب. في الصمت كنت أنتقل إلي الكتابة كلما أحسست أن نداء ما. وشوشة. تجر كلمات غريبة تلتئم في سطر لن يعود سطرا، بل سيحمل منذئذ اسم بيت. تلك اللحظة امتزجت فيها النشوة بالألم، امتزاجا هاجماً في سؤال: كيف أكتب؟ لحظة مفاجئة. وعندها حدث ما لم يعد بإمكاني التحكم فيه. تعلّمُ القصيدة. مغامرةُ. مسؤوليةُ. مخاطرةُ القصيدة. كيف أكتب؟ سؤال كنت أصطدم به فور الشروع في كتابة القصيدة. أولا، عندما كنت أتوقف بين كلمة وكلمة، أو بين بيت وبيت، متأملا، مكفهر الوجه، أو في صدري نغمة تحرق الشفتين. أقضي أحيانا وقتا، ليلة، باحثا عن كلمة وأنا في الطريق إلي بناء القصيدة، في نسق كنت أحسه متحركا. حركة دورانية. لها الشهوة والزوابع. لا يهم بالضبط لأي مكان من البيت كنت أحتاج إلي الكلمة. ربما للبداية. ربما لإتمام الصورة. ولربما أيضا لأجل قافية (أو ضد قافية) تدلني علي جمالية الغرابة. لكن الكلمة التي كنت أبحث عنها كانت تغري بالمزيد من البحث أو بمواصلة الكتابة؛ ثانيا، عندما كنت في الكلمة أقترب من معني المستحيل، ما يتعذر تسميته، اللامسمي، ومن العذابات التي عاشها الشعراء، باحثين عن الكلمة. عن الكلمات. في الحالتين أصبحت أتبين معني الشعر، الذي هو اشتغال علي كلمات قليلة، يتحول التعامل معها إلي تجربة، هي في حد ذاتها تجربة التفاعل. كل كلمة في مكانها من أجل صفاء الكلمات.
قصيدة آخر مذكرات المعتمد بن عباد ، في هذا السياق، المكتوبة سنة 1967، نموذج خاص بالنسبة لهذه المرحلة الأولي. فهي قصيدة تطلبت مني قراءات تتعلق بحياة المعتمد وبالجغرافية والتاريخ. وهي في الوقت ذاته تحولت إلي موقف مضاد لخطاب ثقافي مغربي وطني يتعاطف مع يوسف بن تاشفين فيما هو يعارض وينتقد المنتصرين للشاعر المعتمد بن عباد. شعرت آنذاك أن شيئا ما لم أكن أفهمه في الخطاب الوطني. كان استبطاني لمحنة المعتمد بن عباد علامة علي الرغبة في تملك وعي شعري، دونما اعتبار إضافي.
في هذه القصيدة كانت الكتابة فعلا لإعادة الكتابة، موزعا بين كتابات لاشعرية، (تخص تاريخ الأندلس وعهد ملوك الطوائف والدولة المرابطية وجغرافية أغمات) وشعرية (في مقدمتها ديوان المعتمد بن عباد، والمراثي التي قيلت في الشاعر) تحتاج إليهـــا القصيدة من ناحية، وبين بحــث عن معجم شعري، من ناحية ثانية، يتجاوب مع بناء قصــيدة متعددة الأصوات، ذات رؤيـــا شعرية، هي ما ســـأواصل محاولته في أعمالي اللاحقة. إنها قصيدة الاشتــــغال علي اللغة كفضاء (يتصارع فيها الرومانسي مع الرمزي). وهي أيضا لحظة فك الارتباط بين الشعري والوطني (الديني)، بخصوص الموقف من المعتمد بن عباد. وهما معا أعطيا معني جديدا للقصيدة التي أبحث عنها، وقد انتقلت بها إلي كتابة قصيدة طويلة، رغبة في بناء عمل ينتمي إلي الموسيقي مثلما هو ينتمي إلي القصيدة الحديثة، متخلصا من النزعة التقليدية في مقاربة الشعري. قصيدة طويلة كتبتها وأنا واع بأني أعيد فيها كتابة أعمال أخري بقدر ما أعيد كتابة القصيدة. هذه الخطابات المتوارية في القصيدة هي ما عثرت له، في عملي الجامعي، علي اسم النص الغائب . ومنذئذ أخذت القصائد الطويلة تستهويني. لكأنني لم أكن أريد الرجوع من السفر في القصيدة بحثا عن القصيدة. أبيات أولي ثم الرحيل الذي يبتعد بي ويبعد. في المناطق المرملة. المليلة. العديمة الوضوح.
تعلمت منذ البدء أن السفر إلي القصيدة يتطلب الصبر، وأن الفعل الشعري هو فعل كتابة يفرض اعتماد سلوك التخلي عما يشوش علي القصيدة. نسكية علمتها لي القصيدة. وبالضبط تلك التي كانت تمثل تجربة شعرية، لها قيم الحرية والجمال في آن. قدماء وحديثون يجتمعون في مكتبتي وذاكرتي. عرب وأروبيون. بذلك ارتبط فعل الكتابة الشعرية بمعرفة الكيفية التي لي بها أن أكتب قصيدة أسمي بها زمني. لم تكن القصيدة منفصلة لدي عن الزمن. وذلك كان يفضي إلي السؤال بلا مواربة عن معني الزمن وعن معني الشعر في أفق الحداثة. وهنا لربما يكمن السبب الذي جعلني علي الدوام شديد الحرص علي قراءة الأعمال النظرية والنقدية التي تضيء لي القصيدة الحديثة أو الشعر. أعمال فكرية، جمالية، تاريخية، علمية. وفي الفيزياء كان ثمة إغراء يتبلور، شيئا فشيئا، في مراقبتي لما يحدث في الكلمات وبين الكلمات. تلك القصيدة الأولي، الرومانسية، التي كنت عثرت علي ألفتها، لم تصاحبني إلا فترة قصيرة، عندما أحسست بأن قصيدة بدر شاكر السياب (ومعها القصيدة العربية المعاصرة) هي الأقرب إلي نفسي. ما زلت أتذكر العلاقة التي كانت نشأت لي مع بدر شاكر السياب، وأنا أقــرأ ثم أقرأ شعراً يؤالف بين الغنــاء والاستكـشاف والعذاب. دهشة القصيدة. ومنها أخذت أطل علي أرض هي الشعرالعربي المعــاصر. دواوين تتجمع في مكتبتي الصغــيرة وأنا أطـــوف بمكتبات المدينة القديمة، بين زنيقت الصوافين و الـطالعة الصغيرة . مجلات، منها الآداب . أسماء الشعراء المعاصـــرين تتضح. عبد الوهــــاب البياتي، يوسف الخال، صـلاح عبد الصبور، خليل حاوي، بلند الحـــيدري. واسم الحيرة الشعرية أدونيـــس، الذي كان آخر من تعرفت عليهم من هؤلاء الشعراء.
سنوات كنت فيها أنصت، أيضا، للقصيدة الأوروبية الحديثة، من بودلير إلي ملارمي، ومن هلدرلين إلي ريلكه، ومن ييتس وويتمان إلي إليوت وإزرا باوند، ومن لوركا إلي ماتشادو وبابلو نيرودا. أعمال أخري كانت بدورها حاضرة من ثقافات وحضارت. أذكر هنا الكوميديا الإلهية لدانتي التي كانت تتركني (في ترجمتها العربية) منبهراً لأيام. سلالة شعرية تتقاطع مع سلالتي العربية، من امرئ القيس إلي المتنبي، أو من طرفة بن العبد إلي ابن خفاجة، ومن جميل بثينة إلي الحلاج وأبي حيان التوحيدي. دواوين وكتابات عربية تتقاطع وتتناجي مع تجارب شعرية. كتابية. كونية. بها أتعرف علي الزمن الشعري الذي هو ما يعنيني في الكتابة.
لم أكن دائما أفهم قوة صدفة العثور علي دواوين وأعمال كما لو أنها كانت تنتظرني. ولربما كنت لا أغادر المكتبات ، بعد أن وجدت نفسي أتجنب المكتبة العمومية القديمة بفاس، مكتبة القرويين، لأنني لم أكن أعثر فيها بسهولة علي ما كنت أحب من الأعمال الحديثة، العربية أو الأوروبية علي السواء.
لكن السؤال عن كيف أكتب كان يعني أيضا العمل الملموس في القصيدة. كنت آنذاك انفتحت علي الكتابة الشعرية كممارسة، وعلي أسرارالقصيدة التي بدأت أتتبع آثارها في الوعي بمادية الكتابة. كنت، في الوقت نفسه، قرأت مجموعة من الكتب التي ربطت بيني وبين اللغة في القصيدة. أقصد بودلير ورامبو وملارمي، بالنسبة للأوروبيين، أو أبو تمام الذي حصلت علي ديوانه بأجزائه الأربعة سنة 1965، فكان اهتمامه باللغة باعثا علي حبي للنزول إلي أسفل الكلمات، كي أنصت إليها. لكنني كذلك كنت قرأت لاحقا كتاب فردناند دو سوسير، بعد عودتي من رحلتي الصيفية الأولي إلي باريس سنة 1968، أو بعد قراءاتي لموريس بلانشو في السنة ذاتها.
أعمال وكتب تثير معني الكتابة. وقصيدتي تستقصي الكلمة في القصيدة. بداية البيت الأول. المعجم. القافية. الصورة الشعرية. عدد الأبيات. المقاطع. ولم أكن دائما أعلن عما أفكر فيه. فأنا منذ ذاك الوقت، سنة 1967 وبداية 1968، كنت طرحت علي نفسي سؤال القرآن. كنت ارتأيت ملاحظة بناء الآية. لكني أيضا كنت أطرح أسئلة مزعجة علي نفسي. لماذا، مثلا، لم يبدأ التحديث الشعري (القصيدة المعاصرة) من البناء القرآني واختار، بدلا من ذلك، البناء الخاص بالقصيدة الأوروبية؟ كان هذا ملحا علي. لذلك اتجهت نحو القرآن لأفهم منطق بناء الآية القرآنية. كتبت آيات في جذاذات. عينة من الآيات القصيرة والطويلة. من الفاتحة إلي البقرة . هذا التآلف المعجب بين نمطين من الآيات. كنت أريد أن أتوقف علي سر ما في اللغة. خارج الشعر. في الشعر. كل ذلك كان بالنسبة لي متداخلا. علي الأرض الجذاذات. والكتب. والمجلدات. وأحافظ علي دفتر صغير كنت أكتب فيه القصيدة بالعناية الفائقة. في ضوء هذا البحث انتقلت بالقصيدة من البيت الشعري إلي الآية، كما هو في باب المراثي ، و الليلة الواحدة بعد الألفين ، المنشورتين في العدد 9 من مجلة مواقف (حزيران/يونيو 1970)، ذهاباً نحو ما لم أكن متعودا عليه في القراءة: التخلص من علامات الترقيم، التخفيف من حروف العطف (والاستغناء عنها كلما أمكن)، مغافلة الحدود بين الشعر والنثر، بين الموزون وغير الموزون، ثم بداية الانصراف إلي غواية المكان في بناء القصيدة.
ما تعلمته، منذ أيامي الأولي في البحث عن القصيدة ، عن كيف أكتب القصيدة، هو أن القصيدة لا تكتب مرة واحدة، ولا بشكل واحد، رغم أنها يمكن أن تكتب دفعة واحدة. بشيء من البديهة وشيء من الارتجال. مع شك واضح فيهما كقيمة شعرية. أولا، كنت أجد المتعة الكبري في الكتابة ببطء؛ ثم ثانيا، كنت باستمرار أحرص علي إعادة الكتابة. تبديل كلمة غير ملائمة بكلمة ملائمة. حذف الزائد، بيتاً أو أبياتاً. إضافة مقطع جديد، كلما أحسست أن الأبيات غير كافية. عملية تصحيح لا ينتهي، أو كتابة لا تنتهي في مغامرة بناء نسق القصيدة، حرصا علي حماية المعني الشعري من التبديد ، حفاظا علي الصفاء. كنت أحس أن الشعر هو اللغة الأصفي. وهو لغة التضحية. لذلك فالقصيدة كانت الوشم والوسم. الهدي. الأضحية. التضحية. تضحية بما ليس شعراً أو ما يهدد الشعري في القصيدة. كل ما تسعي إليه القصيدة. في إعادة الكتابة. حذفا وإضافة. تعديلا وتشطيبا. تفاعلا مستقلا بذاته.
ذلك ما لازمني وأصبح طريقة شخصية في الكتابة. ولم أكن مرة لأرهب رأيا صادرا عن مكان تنتفي فيه مضايق الشعر ، حسب عبارة أبي نواس. كثيرا ما تنتقل القصيدة من إلي حالة إلي حالات، كلما أقدمت علي إعادة الكتابة. تلك هي حريتي. ومسؤوليتي، في آن. أقول القصيدة وربما كانت العبارة تفيد الديوان، كاملاً أو بعضا. إنها تجربة الكتابة بصفتها مغامرة، سفرا في اللامسمي، تأكيدا علي المستحيل، المتكلم وحده في الكتابة. وبين المجهولين، تتضح الطرق لكي تضيع.
ما يستدعي حكما كهذا هو ما عاشته القصيدة في مستقبلها، لمدة خمس سنوات، في ديوانين كتبتهما بحثا عن القصيدة، في زمن شعري يختلف عن الزمن السابق. وجه متوهج عبر امتداد الزمن . في اتجاه صوتك العمودي . بعد هزيمة 1967، ظهرت في الثقافة العربية مقاومة الهزيمة. ولم يكن العالم العربي منفصلا عن العالم الرافض. العالم الثوري. العالم النقدي. كما أن البحث عن الذات في الثقافة المغربية كان له في المرحلة ذاتها معني يتخطي الاعتبار اليساري بمفرده. وسؤال كيف أكتب القصيدة، بتفاعل مع السؤال عن الذات وعن العالم، لم يعد يفارقني. وهو ما منح القصيدة حماية من الإيديولوجيا.
لست بحاجة إلي تبرير. لقد كتبت قصيدة. مضادة. بكل نشوة وبكل مسؤولية. قصيدة أو صرخة. حماقة لا تؤذي أحداً. أقول. إنها الوردة التي كانت اللحظة التاريخية تمنحها للقصيدة. وذلك هو منطق البحث عن المعني، في زمن كنا نحس فيه بأن القصيدة يتيمة المعني. لا خشية من المغامرة. لكن لا مغامرة بدون وعي نقدي. هناك تظهر التجربة وكأنها متناقضة مع كل قصيدة سابقة. وهو تناقض من صلب منطق المغامرة (منطق مضاد للمنطق الصوري). لقد كانت القصيدة تنتظر اختبارا للامسمي، بحثا عن الذات وعن العالم. ولربما كانت تلك التجربة أحد الاختبارات التي كان علي قبولها، وأنا أكتب بدم يحترق، في الكلمات.
في هذين الديوانين إعادة الكتابة كان لها تعبير طلقت ما قدمت (قصيدة رواه حفدة باب المحروق ، ديوان شيء عن الاضطها د والفرح ). بيت ورد في قصيدة مضادة لماضيها. لجوابها علي سؤال كيف أكتب. في السر. والصمت. والألم. حيث لا يكون للكتابة إلا هذه القوة التي لا يمكن خيانتها وأنا أكتب. شئ ما في الدخيلة وهو يترنح أو يهتز. مع التراب. والهواء. والزمن عناصر تطلبُ تسمية لا تعرفها ولا تعثر عليها إلا في القصيدة. لكنها تسمية قابلة في كل آن لإعادة التسمية.
ولي حالة كتابة القصائد التي حملت عنوان مواسم الشرق . لمدة لا تقل عن سبع أو ثماني سنوات. قصيدة في الصمت المتواصل وفي القلق. واليد المرعوبة تظهر في الأوقات المتتالية للكتابة. عبر دفاتر. وتشطيبات. لا تتوقف. في التشطيبات عثرت علي معني جديد للقصيدة. للشعر. جمالية التشطيب. الظنون وحدها طريق الكتابة. وهذه المواسم. من يوم ليوم. في الحياة السوداء. التي اختلط فيها الألم. الظلمات. بالغناء. دونما ندم. علي تلك الرغبة الجماعية في قول لا بما يعجز عن أن يكون كافيا من الكبرياء. قصائد مواسم الشرق ، وهي تتقدم، شيئا فشيئا، حتي لا أعرف ما الذي أنا حقا أكتب. صفحات تتوالي. وفي مسكن لدكنة الصباح كان لي ما يصاحب العواصف من تدمير. وخوف. ووحدة.
ال مواسم التسعة (المستقلة بالديوان في طبعتيه الأولي والثانية سنة 1985) ، إلي جانب مسكن لدكنة الصباح ، (المضافة إلي الديوان نفسه في طبعته الثالثة سنة 1990) يضيق عنها مصطلح القصيدة، الي كانت في حد ذاتها عاجزة عن إقناعي بما تكتنزه من حيوية المجهول فيها. إنها، بالأحري، كتابة. هذا المنهج تقاطعتُ معه في الممارسة النصية (والتنظيرية) الفرنسية، بالخصوص، دون أن يغيب عني ما كنت أقدمت عليه رجّاً وبعثرةً للحدود بين الشعر والنثر.
تبدي لي منهج الكتابة طاقة تكوينية لنسيج ما لا ينحد من التفاعلات، حيث الأجناس (الأدبية) والأصوات (الشعرية) تتواشج مع تقاليد عربية راسخة تنعزل عن مفهوم القصيدة، كما حددتها التقاليد النقدية. في الكتابة الجيشان ينطق، والتركيب يتعرض للحادثة. بين الاستعارة وبناء الجملة تصبح المغامرة الكتابية محملة بطاقة التقويض الذي يطال التركيب اللغوي. لا تنتظر من الكتابة بناء جملة منطقية، سليمة التركيب، بل انس ما تعلمت من تركيب. تراكيب. اتبع غواية ما تقرأ. علي صفحة متعددة. في الصفحة الواحدة. حاشية ومتنا. وارْفعْ إلي حبسة اليد المرعوبة. هذا التقويضَ. في اللغة يجري.
لذلك فإن هذه القصائد، التي تحولت إلي ديوان، لم أنشرها بسهولة، فيما أنا كنت مسكونا بالخط المغربي، بالمكان في القصيدة، بالموزون وغير الموزون، محتفظا لنفسي علي الدوام بجنون الحدود. هناك العين التي تعيد كتابة تاريخها، وتسمي الزمن. بخط يد مغربية. كانت في القبو الأسفل. ما بعد الأسفل. مغلولة. والألم في أنفاسها. بدون علم منا. حتي اتت لحظة البحث عن الذات. والخط المغربي الذي لم نعرف ما الذي يخفيه من جمالية أن نكتب ونري.
وها هي هذه القصائد تعيد كتابة ذاتها. مرة تلو المرة. تجربة لهذا المستحيل الذي يعود من القصيدة الأولي. وفي كل طبعة جديدة للديوان كانت القصائد تعيد كتابة ذاتها. في التركيب والمكان علي السواء.
بمنطق المغامرة كانت الكتابة إنصاتا لا يتوقف. ولا يخشي. في صنعاء سنة 1984. سمعت قصيدة ورقة البهاء . نازلة. مرة أخري. من الدم. ومن الموت. فاس في صنعاء. بهذه القصيدة تبين لي أن ضربة من المكان تؤدي بي إلي ضربة من الكتابة. إنه الاصطدام المولد للطاقة. لكنني في صنعاء كنت متخلصا مما كان يستبد بي في المغرب. منع الثقافة الجديدة . سيرة حياة معروضة للافتراس. وقطع الأطراف. والصلب. تمجيدا للضمير الثقافي. والألم الذي يتكلم. في صنعاء الصمت. والمكان. الذي ينفتح علي ما نراه بعين عاشقة. وحدها. المعمار. بيوت تصعد بزخارفها البيضاء إلي مناطق الحشرجات. الطبيعة الجبلية. الفواكه. العنب والزبيب. عبق ونفحات. جذور تاريخ وتجاوبات بلاد.
في صنعاء، كانت المقاطع الأولي من ورقة البهاء تتحرك علي الصفحة. وهي من جديد إعادة كتابة. بصيغة لم أكن اختبرتها، من قبل. ثم سميتها بـ كتابة المحو . تجربة منحتني ما به أري القصيدة، بما لم يكن لي به علم. فالقصيدة هي التي دلتني علي القصيدة. وفيها كان لي شأن إعادة التفكير في القصيدة.
مع ورقة البهاء تتأكد الصفحة المتعددة. وفيها أيضا طبقات من المعرفة بالمغرب. بفاس. وبما هو شخصي أيضا. لكن القصيدة لا تثبت إلا الشعري. تلك هي كتابة المحو، كتابة، إعادة كتابة. في الصمت الذي كان لي كل يوم. من صباح إلي صباح. وأنا أنصت للكلمات وهي تتوالج، في العلن، أمامي متقدة، ومتجردة مما كان لها من لباس. في الليلة السابقة علي الكتابة. الكرسي والصفحة، القلم والصمت، سماء تجاور النافذة، وفي الأفق النوارس، والأزرق. نخيل ويد مرعوبة.
في هذه القصيدة صيغة عمل. تنتفي المقاطع. الأرقام. العناوين. علامات الترقيم. ولا يشتغل في القصيدة غير المكان. الأبيض. الذي يتوزع بين الموزون وما ليس موزونا. يعيد بناء القصيدة. من صفحة إلي صفحة. وهو يتعدد أيضا ويمحو ذاته فيما هو يعيد كتابتها. قصيدة البياض. أو هي قصيدة البصر. العين. كما كانت شرعت في التكون في مواسم الشرق لتستحوذ علي المكان. بين حروف المطبعة وبياض الصفحة. علي حين غرة. في كتابة لها اسم ديوان. ورقة البهاء . تلك النبتةُ اليمنيةُ التي أنزلت ساعةَ الكتابة. سليمانيةً. كما يقولون. وفي الصفحة الراحلة بين المكان والزمان (الأزمنة) ذاتٌ مقطّعَةٌ، لا تستقر عند مربط الخيل. تقتحم علي اللغة حيادها في عمل شعري. صفحة. مكان يدلك وحده علي ما تقرأ وكيف تقرأ. علامة علي ميلاد جديد لهذا الديوان.
ولم أتخل بعد ذلك عن كتابة المحو . بها أقترب من الشعري. بالقصيدة وفي القصيدة. والأعمال الشعرية الموالية إلي كتابة المحو تسعي، متخفية، في صمت الدروب، المضيئة، المعتمة، علي حافة الضجيج الذي لا ينصت إلي الكتابة في عنفوانها، متحققة في ما تثبته الصفحة باسم القصيدة. ورقة البهاء ثم الدواوين اللاحقة، من هبة الفراغ إلي نهر بين جنازتين . تمثل اتباع خط المغامرة، متعرجا، متكسرا، مستوراً، حتي لا نكاد نلتقي في القصيدة بما يعيدنا إلي الخطوة الأولي إلا بالتأمل، من داخل القصيدة ذاتها. وتجربة كتابة المحو هي ما منحني، منذ 1993، حرية إعادة الكتابة من أفق يتخطي الأخلاقي، كي يلتقي بالكتابة، متخلصة من سواها.
كل ذلك لم يكن بالنسبة لي سوي بحث عن تسمية جديدة. للزمن. بالكتابة. عندما تصفو اللغة في القصيدة. مستقبلةً معرفتها. حقيقةً في حالة صيرورة. هبة الفراغ هي. وهي المكان الوثني . عودة إلي الأثر. الملموس. ما لم نعد ننصت إليه، أو نستشيره. الضوء. الحجر. البحر. الصحراء. الغمام. والقصيدة تواصل حفر أسرارها، بعيدة عمن لا يراها.
حينما اخترت الشروع، سنة 1993، في تهييء هذا الديوان، وجدتني أنظر إلي الأعمال الشعرية، التي كتبتها ابتداء من 1966، عبر العلاقة الأولي التي كانت لي مع قراءة أعمال شعرية وعبر اللحظة الأولي للكتابة. دهشة. رهبة. ريبة. في جارور متوسط الحجم، وضعت الدواوين. وعبر جلسات مطولة، كنت أدرب جسدي علي التشطيبات، المتكررة، من ديوان إلي ديوان، أو من قصيدة إلي قصيدة. قصائد في دواوين، ودواوين تجتمع في ديوان. وأنا أراقب كل قصيدة وقد أصبحت مندمجة في مجموع القصائد التي تتهيأ لتشكل الديوان. ثمة حالات كانت فيها حركة اليد تشطب علي قصيدة بكاملها. لكن إعادة الكتابة، التي حافظت عليها، ابتداء من 1993، لم تشمل جميع الأعمال.
الاندماج يفيد التكرير الذي ليس هو القصيدة ذاتها ولا العودة إلي القصيدة ذاتها. بين قصيدة وأخري سديم. ولكَ الواقعة. إن قراءتي للقصيدة (وبالتالي للديوان) أصبحت تختلف تماما عما كانت عليه في السابق، ومن ثم كانت إعادة الكتابة انتقالا من التعبير عن الخارج، كما حدث للقصيدة في الزمن السابق لكتابتها، إلي فضاء الشعر، الذي هو القصيدة. فالوقائع الخارجية والعوامل الظرفية تحولت إلي أشباح تنأي وتختفي خلف أسوار القصيدة . في إعادة الكتابة لما كتبته كان الحذف والإضافة، التعديل والتبديل، استمرارا لفعل الكتابة الذي كان في مختلف المراحل إعادة للكتابة. هذا هو الوشم والوسم. الهدي. الأضحية. التضحية. تضحية بما ينتفي فيه الشعري.
طقوس لأجل هذا الديوان، الذي يضم كل الأعمال الشعرية الصادرة في دواوين (من 1969 إلي 2000). إعادة الكتابة ظلت مصاحبة للكتابة، عبر ما صدر من دواوين لاحقة علي 1993. لم أجعل من الطقوس شيئا أعلي من القصيدة. ولم يكن الهدي ولا التضحية تعبيرا عن إثم أو خطيئة سابقين علي القصيدة ذاتها. هناك فقط ما يتنافي مع الشعري، وهو يستعجل التعديل، الإضافة والحذف. من قصيدة إلي قصيدة. ومن ديوان إلي ديوان. دواوين مندمجة. في هذا الديوان.
أما إعادة التفكير في القصيدة فهي التي نبهتني (وحرضتني) علي الفصل بين ما هو أخلاقي في المتخيل السائد عن الشعر والشاعر، حسب التقاليد الشعرية المتداولة، لا المتوارثة دائما، وبين الفعل الشعري. إن الشعراء العرب القدماء كانوا يصنعون دواوينهم في عمر متقدم من حياتهم. طقوس جمع (تنظيم، ترتيب) الديوان كانت شبه اعتيادية لدي الأساسيين من بينهم، تتصدرها إعادة الكتابة. وذلك الأخلاقي ( القاضي الذي لا يغادر قاعة المحكمة، ويصدر الأحكام في حق الشعر والشاعر، اتهاما وإبراء، ثلباً وتقريظا) أصبح باطلا وأنا أعيد التفكير في القصيدة. المادي. الملموس. ذو سلطة تفوق سواها في النظر إلي الكتابة كفعل لإعادة الكتابة.
فما الذي بقي في هذا الديوان من القصيدة بعد إعادة الكتابة؟ لا تحتاج كتابة المحو للتأشير علي ما يبقي، أو علي ما أصبح ملائما، حتي ما تم التشطيب عليه يتحول هديا إلي اللغة الشعرية، وتقربا إلي الشعري، في ليل القصيدة. وهي في الطريق إلي القصيدة المقبلة. ميلادا لا نهائيا للقصيدة.
الميلاد اللانهائي للقصيدة هو أن تنتهي القصيدة دائما لتبدأ، لا أن تبدأ لتنتهي. إنها النهاية المفتوحة علي اللانهاية، سفراً وعبورا، في الليل والسفر بالقصيدة، إلي القصيدة. هبوطا إلي المعتم الذي يتضح في الطريق، معارج للسفر ومقامات، هبوطا، نحو المجهول مضاعفا، تلك هي القصيدة، واضعة يدك (الكاتبة) علي جسد أملس، يكتب الزمن، ذاتا تهبط إلي السراديب، في الليل، مسافرة. إلي حيث البعيد. المستحيل اسم للقصيدة، كلما شرعت كان الزمن في ذات يتهدج. كاشفا عن الطريق. في الطريق نفسها. لا قبل. ولا بعد. في الهبوط. الكتابة. إعادة الكتابة. اللانهائي. طريق للسفر إلي الكل في الكل. مغامرا. بالكتابة التي توالي اصطدامها بفراغ تجربه. تحت إبطك. وأنت تهبط. ببطء المقيمين. في السفر إلي القصيدة.
سفر وعبور. يمكن بهما أن نري القصيدة وهي تنزل فيك. يدا تكتب. متبدلة. في المعرفة بالمستحيل الذي. يذكرك، علي الدوام، بالحدود، هاجما عليك كلما وهنت يدك. مرة، في الغفوة، سائلا : كيف تغفو يدٌ تكتب؟ حتي الوجوم لا ينفع. وأنت تعيد الكتابة. هابطا. لا تتذكر ماضيك. القصيدة مسافرة. في الهبوط. عبورا. إلي الكل في الكل. مستحيلا. مكتوبا. في التشطيب. التشطيبات. التي تتأكد. كلما دنوت. أي ابتعدت. في الهبوط.
للشاعر حياة في القصيدة. كل شاعر. قديم أو حديث. وإعادة التفكير في القصيدة هي التي دلتني علي أبجدية هذه الحياة، التي تظل محجوبة عن الآخرين. علبة داخل علبة. وصدور الأعمال الشعرية في ديوان لحظة من حياة. لا تتوقف. وإذا كان الموت يتحول إلي تجربة مأساوية، عندما يرتفع إلي مستوي تجربة المصير، فإن للقصيدة حياتها الثانية التي لا نعرف عنها شيئا.
وتلك القصائد. التي كانت تعثر عليك. تنظر إليها، اليوم، وهي تنفصل عنك أكثر مما كانت قد انفصلت. في مساء. يبرد فيه عظم الساقين. ضباب أراه ينزل وينتشر. وراء النافذة التي كانت معي لسنوات. ثم وراء جميع النوافذ التي أحببت دائما أن أجلس قبالتها. وأنا أواجه الموت في القصيدة.


* شاعر من المغرب، وهذه شهادة
حول تجربته الشعرية لمناسبة صدور اعماله الشعرية عن المؤسسة العربية للدراسات
والنشر في بيروت


المحمدية، في 2001.2.12
0

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى