فردريك نيتشه - هكذا قال زرادشت.. ترجمة الأستاذ فليكس فارس

بقية كلامه عن (الفداء)

لذلك تهب الإرادة وقد تملكها الغيظ مقتلعة الأحجار منتقمة من كل من لا يجاريها في كيدها وثورتها. وهكذا تصبح الإرادة المنفذة قوة شريرة تصبّ جام غضبها على كل قانع بعجزها عن الرجوع إلى ما فات. وهل انتقام الإرادة إلا عبارة عن كرهها للزمان لأنه أوقع ما لا قبل لها برده؟

والحق أن إرادتنا مصابة بالجنون، وقد نزلت لعنة على البشرية منذ تعلم الجنون أن يتفكر. فإن خير ما طرأ على الإنسان حتى اليوم إنما هو فكرة الانتقام؛ وهكذا سيبقى العقاب ملازماً للألم في كل زمان وفي كل مكان. وهل فكرة الانتقام إلا العقاب بذاته، فما كلمة الانتقام إلا كلمة مكذوبة يقصد بها التعبير عن الضمير.

إن كلَّ مُريدٍ يتألم لأنه لا قِبلَ له بالرجوع إلى الماضي لردّ مافات، ولهذا لزم أن تكون الإرادة بل كل حياة على الإطلاق كفّارة وعقاباً.

بمثل هذه الاعتقادات تلفّع العقل بالغيوم فأنبثق منه الجنون هاتفاً: كل شيء يزول، فكل شيء يستحق الزوال.

إن العدل نفسه يقضي بأن يفترس الزمان أبناءه، هذا ما أعلنه الجنون.

لقد وضع الناموس الأدبي وفقاً للحقوق وللعقاب، فأين المفر من نهر الحياة الجارف وما الحياة إلا عبارة عن عقاب؟ وهذا أيضاً ما أعلنه الجنون.

ليس من حادث واحد يمكننا أن نزيله من الوجود، فكيف للعقاب أن يمحو الحادثات؟ وهل من خلود لغير الأعمال في وجود لا ينفك يحول العمل عقاباً والعقاب عملاً؟ ولا مناص من هذه الحلقة المفرغة ما لم تتوصل الإرادة إلى الفرار من ذاتها فتصبح حينذاك إرادة منفية.

إنكم تعرفون، أيها الأخوة، هذه الأغاني التي يتشدق بها الجنون. وقد أقصيتكم عن سماعها عندما علمتكم أن الإرادة مبدعة. كل ما فات يبقى مبدداً منثوراً كأنه أسرار ومصادف رائعة إلى أن تقول الإرادة: إنني أردت هذا. ثم تقول: وهذا ما أريده الآن وسأريده غداً.

هل نطقت الإرادة بمثل هذا حتى اليوم؟ وإلى متى ستنطق به؟ هل هي تملصت من قيود جنونها فأصبحت تفتدي الحادثات بعزمها وتبشر بالحبور؟ هل هي اطرحت فكرة الانتقام وتوقفت عن حرق الأرم من كيدها؟ من ترى تمكن من تعليمها مسالمة الزمان بل ما يفوق هذه المسالمة؟

يجب على الإرادة ولا أعني سوى إرادة الاقتدار أن توجه مشيئتها إلى ما هو أعظم من المسالمة. ولكن أنى لها ذلك ومن سيعلمها أن توجه هذه المشيئة إلى ما فات؟

وتوقف زارا عن الكلام فجأة كأن رعباً شديداً حل به فاتسعت حدقاته وشخص بأتباعه سايراً أفكارهم وما وراء أفكارهم غير أنه ما لبث أن عاد إلى الضحك فقال بكل هدوء:

- ما تهون الحياة بين الناس لأن الصمت صعب على المرء وخاصة إذا كان ثرثاراً.

هكذا تكلم زارا. . . .

ولكن الأحدب الذي كان يصغي إلى هذا الحديث وهو يستر وجهه بيديه سمع قهقهة زارا ففتح عينيه مستغرباً وقال: - لماذا يخاطبنا زارا بغير ما يخاطب به أتباعه.

فقال زارا: - وهل من عجب في هذا؟ أفما يصح أن يخاطب الأحدب بأقوال لها حدبتان.

فقال الأحدب: - ولا عجب أيضاً في أن يخاطب زارا تلاميذه كمعلم أولاد، ولكن لماذا يخاطب أتباعه بغير ما يخاطب به نفسه. . .

هكذا تكلم زارا. . . .


مجلة الرسالة - العدد 218
بتاريخ: 06 - 09 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى