فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. الخيال في الأدبين العربي والإنجليزي للأستاذ

الخيال، أو القدرة على انتزاع شتى الصور الذهنية من الواقع واستحضارها والتصرف فيها، من المواهب التي يمتاز بها الإنسان على سائر الأحياء، ويمتاز بها النابغة على سائر الناس. رقي العلم رهين برقيه، واتساع الأدب متصل باتساعه، وهو بين الجماعات الأولى مصدر تلك الأساطير والأوهام التي تسود بينهم، كما أنه مصدر ما تغص به اللغات من مجازات وتشبيهات، بها تتسع جوانب اللغة وجوانب التفكير معاً أيما أتساع، ولولا الخيال لالتزم الفكر الإنساني الواقع المتحجر أي التزام

والخيال قوام جانب عظيم من الأدب، إن لم يكن قوام الجانب الأرقى فيه، إن لم يكن قوام الأدب جميعاً: فبالمجازات والتشبيهات يتأتى للأديب أن يصور شعوره ويبرز تفكيره، إذ يمثل لنضرة الخد بنضرة الورد، ولطلعة البطل بهيبة الأسد، ولجيشان المعركة بتدافع الآذى، وهلم جرا. وبالخيال يستطيع الأديب أن يسبك موضوعه ويجمع أطرافه، وينبذ ما لا حاجة به إليه من تفصيلات قد تشوه ما هو بسبيله، ويضفي ثوباً من الجمال والانسجام على ما ينشئ. والخيال أظهر ملكات الشاعر وأول مميزات الشعر التي تفرق بينه وبين النثر

وارتقاء الخيال واتساعه وكثرة آثاره أهم ظواهر دخول الأدب في طوره الفني: فإنه إذا خرجت الأمة من بداوتها وعزلتها وبسطت سيادتها واتصلت بجيرانها القريبين والبعيدين، وتحضرت وتثقفت، اتسعت أذهان أبنائها وترامى خيالهم وتصوروا من الحقائق والمعاني والممكنات ما لم يكونوا يتصورون، وغزر المعين الذي يستمدون منه التشبيهات والاستعارات، وينتزعون منه الحكم والأمثال، ويتوفر الفراغ ويتسع للمجهود الأدبي المتصل، فتظهر القصة والدرامة والقصيدة الطويلة، ويحلق الأدباء في أجواز الخيال وآماد الماضي والمستقبل، مبتعدين عن دواعي الحاضر الحازبة ومجالاته الضيقة، ولا يبلغ الأدب أوج رقيه حتى يرتقي الخيال فيه هذا الارتقاء وحتى يشغل أكثر جوانبه

وللخيال في الأدب الإنجليزي مكان رفيع وأثر بعيد شامل يتمثل في موضوعات وأشكاله وطرائق تناول الأدباء لما هم بسبيله: فالأديب الإنجليزي غزير العاطفة، إذا جاشت أطلق لها العنان واسترسل مع خياله، وأثار به منظر طبيعي أو غناء طائر أو ذكرى طارئة أو أثر من آثار الغابرين أو أسطورة من أساطيرهم شتى الأحلام والأطياف، وتناهت به عاطفته إلى حدود الأماني وآفاق الماضي والمستقبل، وهذا الاسترسال مع الخيال إذا أثارته فكرة رئيسية هو مرجع وحدة القصيدة في الإنجليزية

وهناك عدا هذا الخيال المنبث في كل مناحي الأدب أشكال خاصة من الأدب قوامها الخيال، ينهض بكيانها ويوثق وشائجها. وهذه هي الملاحم الطوال في الشعر والقصص الممثلة أو المقروءة شعراً أو نثراً، ففي هذه لا يلتزم الأديب الواقع المجرد بل يفترق عنه افتراقاً جسيما، ويؤلف من شتى أفكاره وتجاريبه وأمانيه وصور الحياة التي مرت به، عالماً يجيش بالحياة والحركة ويموج بالعواطف والنوازع ويفيض بالجمال والإمتاع؛ بهذه الضروب القائمة على أساس من التخيل المحض يحفل الأدب الإنجليزي

فقد عالج الملاحم والمطولات من القصائد ملتون وسبنسر وهاردي ووردزورث وكثيرون غيرهم. وأشعار الملاحم تعج بالمردة والجبابرة والآلهة، وتحفل بخوارق الأعمال وجسائم البطولة، وهي على رغم هذا لا تخرج عن عالمنا الإنساني ولا تغفل النفس الإنسانية، بل تظل نوازع تلك النفس ومشاغلها هي الهدف الوحيد الذي يرمي إليه ناظموها: إذ فيها يتخذ أولئك الأرباب والجبابرة طبائع الناس وميول الأفراد، وإن فاقوا البشر قوة وعظما؛ ومن هنا يتأتى للشاعر أن يبسط آراءه في ميدان متسع وإلى مدى فسيح، فيستعرض مشاغل عصره ويبث خوالج نفسه، فالخيال هنا لا يعدو الحقيقة وإنما يوضحها أحسن توضيح، فضلاً عما يمتع النفس به من قصص متسق وجمال وجلال

وفي الأدب الإنجليزي ما لا يعد من قصص في الشعر والنثر ممثلة ومقروءة، وقوام القصة بطبيعتها الخيال، وإن تراوح نصيبها منه، فهناك القصص التي ترمي إلى أغوار الماضي وتدور حول عظماء التاريخ والأساطير، من طموح يبيع نفسه للشيطان كي يعينه الشيطان على إدراك مطامحه، إلى دائن يتقاضى دينه من لحم غريمه ودمه، كما في روايات مارلو وشكسبير. وهناك القصص الواقعية التي تلتزم الحقيقة إلى حد بعيد، وتصور المجتمع الحاضر تصويراً دقيقاً لا يدع شاردة ولا واردة، كقصص هاردي، ودرامات جالزورذي، ولكل من الضربين متعته

ولشغف الإنجليز بسبحات الخيال، وميلهم إلى إطلاق الفكر في أجوازه، لجأوا في شعرهم ونثرهم إلى تصوير حوادث التاريخ وغرائب الأساطير، فاستقى شعراؤهم وكتابهم عذب القصص وممتعه من تاريخ إنجلترا وتواريخ اليونان والرومان وبني إسرائيل وغيرهم، واتخذوا من خرافات الأمم مجالاً لفنهم، فعرض سبنسر وتنيسون وكولردج وغيرهم تلك الخرافات عرضا شعريا رائقا مرصعا بجميل الوصف وبدائع المناظر الطبيعية، وشائق مواقف الحب والبطولة.

ومن ثم امتلاء الأدب الإنجليزي بأسماء الشخصيات الخيالية التي اخترعها الأدباء من مخيلاتهم ولم يكن لها قبلهم وجود أو كان لها وجود مبهم في عالم الخرافة فأخرجوها بعبقرياتهم إلى عالم النور والوضوح، وألبسوها ثوباً من الجمال والجاذبية، وأصبح بعض هؤلاء الأشخاص الخياليين الذين امتلأت بذكرهم وأخبارهم الملاحم والقصص والشعر والنثر، أعلاماً على طبائع في الإنسان معروفة، ورموزاً على حقائق في النفس البشرية مشهودة، فشكسبير مثلا لم يكن يدع خلقاً إنسانياً نبيلا أو وضيعاً إلا صوره في رواياته وخلق ما لا يعد من الشخصيات الحية، مثل هملت وروميو وجولييت وياجو وشيلوخ، وغيرهم ممن صار لهم وجود قائم في عالم الأدب كوجود أعلام الماضي في عالم التاريخ

لم يجر الأدب العربي إلى هذا المدى من الخيال، فلم تكن فيه ملاحم ولم تكن المطولات من هم شعرائه، ولم يرتق فيه القصص ولم يحتو على شخصيات متخيلة من خلق الأدباء، وظل الحاضر القريب والواقع المحقق ديدن أدبائه، فالأديب العربي كان شديد الإيجاز في مقاله وتعبيره عما يحس، يعبر عن أفكاره أشتاتا كلما عن له حافز إلى الكتابة، لا يدخر أفكاره ولا يربط منها حاضراً بماض، بل يرسلها الشاعر على السجية أبياتاً محكمة النسج موجزة البيان، ويرسلها الكاتب روايات قصيرة متتابعة منسوبة كل رواية منها إلى صاحبها أو راويها أو شهودها؛ فأحسن أشعار المتنبي حكم موجزة متتابعة مستقل كل منها ببيت لا تكاد تجمعها علاقة؛ وقوام كتب كثيرة كمؤلفات الجاحظ والثعالبي وابن عبد ربه روايات وشواهد متتابعة، لا يكاد يكون للأديب فضل غير جمعها وتبويبها

كان الشعر الجاهلي محدود الخيال قريب المأخذ لمكان أربابه من البداوة وبعدهم عن الثقافة، فلما تحضر العرب وتثقفوا واختلطوا بالأمم واطلعوا على أحوال الأقطار البعيدة، أتسع من جراء ذلك خيالهم وبان أثره في شعرهم ونثرهم، فالمحدثون من الشعراء لاشك أبعد خيالاً وأكثر تفنناً في التشبيهات من الجاهليين. وظهر ضرب من القص الخيالي يتجلى في مقامات بديع الزمان، ورسالة الغفران، ففي هذه وتلك مواقف وحوادث كلها من اختراع الخيال؛ ثم هناك الروايات والأخبار العديدة التي كان يخترعها الرواة والكتاب، يطلبون الأغراب والتطرف والرواج، أو يؤيدون الحجج والمذاهب.

بيد أن هاتيك جميعاً آثار ضئيلة الشأن، وهي إذا قيست بما في الإنجليزية من سبحات الخيال، لم تكن إلا شبيهة بطيران الدجاجة الخفيف مقيساً بتحليق البازي الكاسر؛ ورسالة الغفران على جمال فكرتها ومشابهتها لما في آداب الأمم الكبيرة في جريان حوادثها في عالم الخلد، وامتلائها بممتع المواقف والمحاورات، مكتظة بمسائل النحو والأدب النظرية العقيمة، التي كان كثير من الأدباء ينفقون أعمارهم في غياهبها غافلين عما هو أهم منها من حقائق الحياة وجمالها، ولم يكن الخيال ولا الجمال ولا القصص غرض المعري الصحيح حين أملاها، وإنما كانت تلك المسائل اللغوية هي مقصده الأول؛ ومقامات البديع على جمالها واهتداء البديع إلى اختراع شخصية أبي الفتح فيها، مكتظة كذلك بالألاعيب اللفظية والبراعات اللغوية؛ فالمقامات ورسالة الغفران جميلتان على أن تكونا خطوتين إلى ما بعدهما، ومرحلتين في طريق نمو القصص الصحيح وازدهار الخيال الراقي؛ بيد أن ذلك النمو لم يطرد وذلك الرقي وقف في أول الطريق. وإن من العجائب حقاً أن يكون أعظم أثر خيال في الأدب العربي من صنع شاعر كفيف محجوب عن آفاق الحياة ومباهجها

فكبح عنان الخيال كان دأب أدباء العربية حتى بعد دخول الأدب عصره الفني، فالفكرة التي تخطر للأديب الإنجليزي فيحوك حولها قصة تموج بشتى الصور المنتزعة من الحياة، أو ينظم حولها قصيدة طويلة تجمع أشتات الأفكار والمعاني، يكتفي الأديب العربي بصوغها في بيت شعر محكم يذهب مثلا ويروع بإيجازه وشموله، لا بتقصيه واستيعابه، فكل بيت من أبيات المتنبي السائرة يحوي نظرة نافذة إلى حقائق الحياة، هي بنفسها محور صالح أن تدور حوله قصة أو درامة، بينما الأديب العربي قد أودعها أوجز لفظ وأعمه وقد نظم شلي قصيدة في قرابة مائة بيت، حين استرعى تفكيره هبوب ريح الشتاء الباردة في إيطاليا، فصور عصفها بالأوراق الجافة، ودفعها البذور إلى حيث تنام في التربة حتى ينبهها الربيع بدفئه وطيب أوانه، وشبه ثوران عاصفتها على الأفق بالشعور المتهدلة عن رأس ما يناد إحدى العرائس الخرافية، ووصف اقشعرار النبات المائي في قاع المحيط لدى إحساسه مرور تلك الرياح، ثم طلب إلى الريح أن ترفعه كما ترفع تلك الأوراق وتدفعه كما تدفع تلك البذور، وتنفخ فيه من قوتها، وتتخذه ناياً لها، عله يستطيع أن يطير بأجنحتها، ويبذر بين الخلق بذور أفكاره الإصلاحية التي كان أميناً لها طول حياته. ولشكسبير مقطوعة عن ريح الشتاء أيضاً في رواية (كما تشاء)، يسترسل فيها في التأمل على ذلك نحو؛ أما الشاعر العربي فإذا استرعى انتباهه هبوب الريح فيودع خاطره أوجز لفظ، واصفاً تهييج الريح لذكرياته أو محملاً إياه سلامه إلى أحبائه، كما قال بشار:

هوى صاحبي ريح الشمال وإنما ... أحب لقلبي أن تهب جنوب

وما ذاك إلا أنها حين تنتهي ... تناهى وفيها من عبيدة طيب

والغريب أنه برغم غنى الأدب الإنجليزي بآثار الخيال وندرة تلك الآثار في الأدب العربي، ترى كلمات الخيال وخيال الشعراء والمخيلة وغيرها كثيرة التداول في العربية نادرة الورود في النقد الإنجليزي؛ وإنما كان نقاد العربية يطلقون اسم الخيال على أبعد الأقوال عن مجال الخيال الصحيح، يطلقونه على ما درج عليه الشعراء المداحون من اختراع مواقف الغرام في استهلال قصائدهم، وتلفيق صفات الجود والبأس لممدوحيهم، ومن ثم اشتهر البحتري بالخيال، لا لأنه دبج القصص المحكم أو نظم المطولات الرائعات بل لأنه كان من أمضى الشعراء في بابي المديح والغزل الاستهلالي، ومن أكثرهم ذكراً للأطياف والوداع واللقاء، وليس تحت مثل هذا الخيال طائل، إذ قوامه التكلف والمحال والإيغال في البعد عن حقائق الحياة والشعور، بينما أخص خصائص الخيال الفني الصحيح صدق البيان للشعور الصحيح في أعمق أعماقه وأرحب آفاقه

فإذا قال بشار إن الجود من كف ممدوحه يعدي، وقال أبو تمام إن ممدوحه لا يستطيع قبض أنامله لأنه تعود بسطها بالعطاء، وقال المتنبي إن أسنان صواحبه برد خشي أن يذيبه من حر أنفاسه فكان هو الذائب من حر أشواقه، وإذا شبه ابن المعتز الهلال بمنجل يحصد نجوم الليل حصداً، أو شبه ابن خفاجة النهر وعشب ضفافه بهدب يحف بمقلة زرقاء، فقد باعدوا جميعاً وأغربوا وخالفوا حقائق المنطق والشعور، وجاءوا بما هو أشبه بعبث الصبيان وهذر المخمورين، وكان قولهم أبعد الأشياء عن الخيال، فالخيال ليس هو تجاهل حقائق الحياة وتحديها والتفنن في مناقضتها، وإنما هو قدرة الفكر على استيعابها والاشتمال على قريبها وبعيدها، والتصرف فيها والتفنن في عرضها، ولا غرو إذ كانت تلك نظرة نقاد العربية إلى الخيال أن قالوا إن أعذب الشعر أكذبه، والحق أن أعذب الشعر أصدقه، وأجود الخيال أكثره اشتمالاً على الحقيقة

وغزارة آثار الخيال في الأدب الإنجليزي ترجع لاشك إلى اختلاف مناظر الطبيعة في إنجلترا وتعددها وتقلب أحوال الجو، ثم هي ترجع إلى اتساع أذهان الإنجليز باقتباسهم حضارة أوربا ومساهمتهم فيها، وإلى الكشوف الجغرافية العظيمة التي عاصرت نهوض الأدب الإنجليزي، وهي ترجع أيضاً إلى اطلاع الإنجليز على الأدب اليوناني الحافل بروائع الحوادث والأساطير، المملوء بأشعار الملاحم والدرامات، فقد كان لشعراء الإنجليزية وكتابها من ذلك معين لا يفنى، وكان الاطلاع على التراث الكلاسي بمثابة كشف جغرافي آخر واطلاع على عالم ثان غير هذا العالم المعهود، مما أطلق الأذهان إلى غايات الخيال، وكان للأدب العامي في ذلك أثره أيضاً

وترجع ضآلة حظ الأدب العربي من الخيال الصحيح السامي، وكثرة ما به من آثار التخيل الزائف، إلى نزعة الجمود التي كانت تسوده وتقره دائماً على محاكاة الأقدمين واحتذاء الأدب الجاهلي، وهذا بطبيعته المتبدية وبيئته الصحراوية التي ترعرع فيها، أدب أولى قليل الحظ من الخيال كثير الالتزام للواقع الحاضر؛ هذا إلى اشتغال الأدباء بمدح ذوي السلطان واجتهادهم في تخيل كل منقبة وإضافتها إليهم؛ أضف إلى ذلك أن الأدب العربي لم ينتفع كما انتفع الأدب الإنجليزي بأدب الإغريق، فحجبت عنه تلك العوالم الزاخرة بالحقائق والخيالات. وقد اطلع العرب على فلسلفة الإغريق فحاكا غير واحد من فلاسفتهم جمهورية أفلاطون بتخيل المدينة الفاضلة، ولو اطلعوا كذلك على أدبهم لاستفادوا منه فائدته المحتومة

ظل الأدب العربي مكبوح الخيال ملتزماً للواقع مؤثراً للإيجاز متشبثاً بالرواية التاريخية المسندة، وترك الخيال الواسع للعامة يسبحون في عوالمه التي تستهوي النفس الإنسانية، فجالوا في نواحي القصص يودعونه أفكارهم على ما بها من قصور، وآمالهم على ما بها من سذاجة وما يشوبها من شهوات الحس، وثقافتهم على ما يخالجها من جهل واضطراب، وجاء الأدب العربي الفصيح في أزهر عصوره مشتملاً على ضروب من التخيل الفج لا يستسيغها لب، ولا يقرها فن، مشتملاً بجانب ذلك على وجدانيات صادقة وحكم وأمثال رائعة موجزة، هي خير ما في الأدب العربي من لباب الفكر والشعور، فالأدب العربي يبلغ قمة مجده بما فيه من آثار الحكمة، لا بما يحويه من صور الخيال


مجلة الرسالة - العدد 201
بتاريخ: 10 - 05 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى