خضير ميري - بوابات لا وجوه لها

الإهداء
إلى حسن متعب ناصر مع إن الصداقة فن الفهم لا بذل الإخلاص


" أنا مدين بكتابة هذا النص إلى الصديق الروائي عزت القمحاوي مدير تحرير أخبار الادب يوم طلب مني أن اكتب عن الباب أو البوابة أو ماذا يعني الباب بالنسبة لك؟ وقد نشر النص في ملفه الرائع في جريدة أخبار الأدب دون أن تحذف منه كلمة واحدة وتلك شجاعة أحييه عليها مع إنه أهلا لها بلا تنويه"

***

"ليس للسجين حرية سوى الذكريات، فالسجن لن يكون حاضرا لطالما نحن فيه"

***

لو طلب مني أن أرسم على كارت صغير للذكرى، البوابة الكبيرة لمديرية الأمن العامة في بغداد، فأنني قطعا سأرسمها على طراز بوابات القصر الجمهوري، منفوخة الأضلاع متكبرة جدا يشرف عليها من عل أسد من الرخام عاجز عن طرد الذباب أو قذف العصافير بعيدا، البوابة شاهقة ومن الصعب التحكم فيها يدويا، بينما لو كان الطلب يقتضي أن أرسم بوابة مستشفى الرشاد للأمراض النفسية والعقلية فأنني سأرسمها بوداعة أكثر لطفا، بوابة رفيعة وشاحبة ومصابة بفقر الحديد، من السهولة معرفة همومها من الغبار والذباب الذي يجلب بالأطنان إلى وجهها البسيط، وملامحها العتيقة وأسنانها الخربة ولا يمكن إغفال ذيلها الطويل المصفف بالإسفلت والذي تبصق على زوايا شفتيه زنازين متلاحقة، مخصصة لاعتقال المرضى المزمنين من نزلاء المكان، ما أن دخلت بوابة هذا المستشفى العريق (المولود عام 1889، بينما كان بلا بوابة أصلا بل يروى بأن الباب الرئيسي كان عبارة عن كوة كهفية يتم الدخول إليها من تلة ترابية مجاورة ومن السهل الاهتداء إلى إن ذلك كان خيالا شعبيا) ولكن البوابة التي اشهد بقاياها الآن كانت قد شيدت بعد انقلاب عام 1968 وهو الذي تم بفضله حتما إنشاء جدران لغرف المرضى مزودة بقضبان حديدية وعدد من البوابات الغليظة المناسبة لردع وترويع المجانين من السياسيين المصابين بانهيارات من أثر التعذيب والتعرض إلى صدمات عقلية غير مبررة أو فقدان مفاجئ للذاكرة أو بنوع باثولوجي من الانسحاب اللاشعوري أو كف نفسي مفاجئ عن التواصل مع العنف المنطقي للنظام السياسي بشكل عام، بالطبع كانت البوابات الداخلية ومازالت تتمتع بهيبة خاصة إذ يقف خلفها ذلك الشرطي الأسمر على الأغلب حيث أكثر أوقاته سوءا هي أوقات العمل الرسمي داخل الردهة من الصباح حتى الثانية بعد الظهر وبعدها يستطيع ترك الأمر على حاله والذهاب إلى النوم العملي الذي يتوق إليه، لا يمكن لنا إغفال الحديث عن عائلة أخرى من البوابات الداخلية التي تكون أبوابا كالحة ذات ظلفيتين وهي الأبواب المناسبة لسجن "السجن " من الداخل، فهذه بوابات صغيرة لا تقفل من الداخل قط ولا تحتوي على أية راتج أو مقبض يدوي أو ما شابه، عندما سجنت بعد وصولي إلى المستشفى بشهرين في سجن انفرادي تعرفت على بوابة كلاسيكية كانت تسجنني هنا، وهي بوابة من النوع الفخم تقف مسمرة ومغلقة ومحترمة طوال الوقت كما أن أضلاعها مزيته جيدا ولا تكاد تطلق شخيرا مخزيا وهي تُفتح بمرونة من قبل أكثر من شرطي واحد وفي داخلها كلابات معلقة وما يشبه الستارة المصنوعة من الألمنيوم الناشف المطروق بمهارة غير مألوفة ولايمكن التكهن بمن هم صانعيها وهو ما يؤهل الستارة للنزول كلما صار ممكنا تأديب النزيل المخالف للتعليمات وهنا يمكن لنا إظلام الغرفة وجعل البوابة أكثر صمتا مما هي علية .

بالطبع إن الداخل الرسمي للمستشفى العقلي لا يسمح بنظام إغلاق البوابات من الداخل مطلقا وحتى أبواب الحمامات الخلفية التي تحوي صفا واحدا مؤلفا من ستة أبواب حديدية مكشوفة الركبتين وهي لا يمكن لها أن تستر مؤخراتنا القاعدة في خلواتها الزائفة هناك وهو المكان السحري المخصص لإنتاج الغائط وتهريب البول من المرضى الذين مازالوا يتمتعون بذاكرة ما للتقاليد المرحاضية المعروفة عند عامة الناس من شد السيفون أو ماشابه.

سوف يكون مناسبا الحديث بفعل المقارنة عن البوابة الأخرى التي تشكل الممر الإنساني الوحيد لهذا المكان الصعب المراس واعني بها بوابة المطبخ الخارجي وهو المبنى المربع المنزوي قليلا حيث يمكن أن تكون سحابة الدخان الطالعة من رأسه المصفح والمبُوق من الأعلى دليلا على الطبخ والنفخ والمسح الجاري بأيادي مرضى مزمنين ،مرضى مستعملين ،مرضى مُسخرين حيث تصبح هذه البوابة والعمل خلف ظهرها نوعا من الحلم بالنسبة لمرضى آخرين مجبرين على ممارسة التحنيط اليومي داخل الردهة الأبدية،وكنت قد ذهبت هناك بفعل سمعتي الأدبية لتفقد هذا الجناح المهم الذي يعد عصبا أساسيا لتشغيل أمعائنا الداخلية وإنتاج الحياة في دمائنا الفاسدة وأرواحنا الرخيصة، وهناك عرفت نوعا جديدا من الطعام القابل للهضم وهو وجبة مؤلفة من نفايات الخضروات وبقايا أشباح اللحم وعدد من السوائل الأخرى غير مدونة بكتب الطهي أو في رؤوس النساء المطبخيات المنقرضات هذه الأيام .وإذا ما عرفنا بأن المرضى هم الذين يطبخون طعامهم بأنفسهم فان الحديث عن معجزة الحياة في هذا المكان يكون كشفا علميا مذهلا...ولكن ما لذي توشوشه لنا وجود بوابات عالية لمستشفى أفقي اقل شانا واهون خطورة من مستشفى الرشاد للأمراض النفسية والعقلية واعني بذلك البوابة الكبيرة التي تم دفعي في جوفها في مستشفى "إبن رشد" التعليمي الكائن في ساحة الأندلس وهو تعليمي لأنه مستشفى مخصص لتزويد الطلبة بدروسهم التطبيقية ،مرات عديدة كنت أخرج وأدخل من البوابة الحديدية الكالحة المنتصبة فوق ساق واحدة ممدودة على سلم طويل لأقابل عدد من شباب الطلبة المزودين بالمريلات البيضاء النظيفة وهم يرطنون علي باللغة الإنكليزية المتعالية ويشخصون افكارنا من خلف نظاراتهم الطبية الواجبة الارتداء ،كنت طوال الوقت أتطلع إلى التمثال النصفي لأبن رشد وأحاول تنظيفه من لطخات ذروك الحمام التي تكسبه مظهرا لعامل بناء يجلس في قيلولة بين أشجار حديقة، وكنت أجيب كذبا على أسئلة روتينية اعرف ماذا تتطلب من إجابات.

بالرغم من أن البوابة الأمامية لمستشفى أبن رشد التعليمي تطل من خلفها على كنيسة حزقيال الأنيقة الرائعة الصامتة المستريحة من الوافدين إليها طوال أسابيع إلا أن البوابة الخلفية للمبنى كانت تفيض علينا بنعم نفيسة، يمكن لنا الحصول عليها من يد الحارس الأمين الذي يجلب لنا الخمره المغشوشة التي يعبئها بقانيي الدواء المعتمة والسجائر الباذخة الممنوعة عن النزلاء وعدد من الحاجيات الصغيرة التي لا تخلو من صور خليعة ومجلات أزياء مستعملة وهو لا يتردد من جلب ملابس نساء داخلية لا نعرف مصدرها للذين يغوون الفيتشية أو يفتعلونها هدايا لنساء وهميات لايمكننا العثور عليهن إلا تحت وسائدهم المتسخة أو بين زوايا أفخاذهم الهزيلة و المطالب الأكثر خطورة تتمثل ببضع سكاكين حادة سهلة الطي نستطيع تبادلها من كوة جحريه مصنوعة بعبث الأقدار وتقلبات الطبيعة في أسفل البوابة الخلفية المطلة على الشارع الخارجي ، حتى صارت بديلا للحانوت الصغير الذي يُنفس لنا حاجاتنا داخل رقابة مشددة لمستشفى مهيب لاشك فيه، وحيث أن الممر الرفيع الجانبي المؤدي إليها يكون عاملا مثل بنطلون ضيق لعملاق ينام على جنبه الأيسر فقد كنا نندس فيه مثل جرذان صغيرة ترتدي دشداشات مقلمة وبذلك يسهل علينا الذهاب والإياب إلى هذه البوابة الخلفية دون أية مخاطرة كبيرة وهكذا لمعت لنا فكرة مقايضة سخية مع حارس البوابة لجلب قحبة حقيقة إلى هناك واستحصال تفريغ نوعي لحصارنا الجسدي الذي أخذ يتعفن بأرواحنا وينز قيحا وصديدا، كان علينا الحصول على مبلغ كبير يكون كافيا لإرضاء الحارس الشخصي للبوابة الخلفية وهنا لابد لنا من ابتزاز عدد من صغار المدمنين المجلوبين هنا عقابا من عوائلهم المنكوبة وكذلك سرقة عدد من النقود من الشيوخ المزمنين هنا وهم في الغالب يعشقون النوم كثيرا تهربا من فكرة الموت السريع ودفعا لكل بلاء قادم، بينما قمت أنا ببيع راديو الترانزستور الصغير الذي يعاني من التهاب الكتروني مزعج في حنجرته المبحوحة لأكثر من واحد ولأ كثر من مرة وهكذا تم لنا أعطاء المبلغ المطلوب على دفعات ذكية يتاح لنا فيها معرفة مصداقية الحارس القائم علينا من خلف بوابته المغلقة منذ دهور وصار موعدنا عند البوابة الخلفية الساعة الثانية ظهرا حيث تدخل المستشفى في قيلولتها ويأخذ الطعام وقته المناسب لصنع الخمول البشري وتبطئ الدورة الدموية من عملها وبعد أن ذهب أكثر من واحد منا وعاد منتشيا مصفر الوجه ولعابة يسيل على شفتيه جاء دوري أنا وكنت الرابع حسب مستلزمات الخطة الجهنمية وصار بمقدوري أن أرى وجه الحارس الشخصي بالمقلوب وهو يتطلع ألي بنظرة جادة ويقول لي اجلس وارفع ثيابك وكأنك تقضي حاجة طبيعية .

وفعلت ما أمرني به ونظرت إلى أسفل لأرى وسادة لحمية تلتصق على فم الكوة المبتسمة المسورة بأسنانها المنخورة المتآكلة وهي تتحرك متململة وينكشف بياضها المحرز المُحمر من جانبيه وصار خيالي سريعا والبوابة تهتز ويُسمع لهاثها بينما القحبة تبدو فزعة وهي ترسل بصرها نحو الشارع العمومي وتحاول إتقان عملها الذي لايختلف كثيرا عن خياطة المستحيل ،الشمس تترك لسعة ساخطة على رأسي الصغير المكشوف والعرق يعترض جفوني وكنت أشعر بان غيابا مهما كان يحدث لي وأنا الصق وجهي بأحضان البوابة الحديدية الساخنة بينما جزء من كائن آخر لا أعرف بعد من يكون.. كان يتطلع إلى البعيد حيث سيارات العاصمة تسحق الإسفلت العتيق المستعمل بينما المارة يركبون سيقانهم ويحصون مشاغلهم فيما بعد الظهيرة كان الوقت يتنفس قانونا آخر للجاذبية لم يفكر فيه أبن رشد ولم يخط نيوتن حرفا فيه حتى اليوم .

كانت البوابات تنام واقفة وتضيق ذرعا بالوجوه التي تفكر بها ميتة ولا ذكريات لديها.تماما كما لو كان ذلك واقعا تم تقشير الحلم عنه. وصار بريئا كموزة عارية أو كقطة تدفن حياءها في الرمل أو كسمكة على موعد مع حوت صديق..و لو بعد قليل.


--------------
* عن موقع ادب فن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى