سعد عودة رسن - البحث عن وسط المدينة.. قصة قصيرة

علتْ الدهشةُ وجوه كل من صعدَ الجسر وهو ينظرُ الى وسط المدينة الذي أختفى في ذلك الصباح مخلفا بركة كبيرة تستمدُ مياهها من النهر القريب عن طريق ساقية صغيرة.الجميع اصابهم الوهمُ وكأنهم مازالوا نائمين في بيوتهم .لم يستيقظوا بعد.أو يتناولوا فطورهم ويرتدوا ملابسهم .لم يصعدوا بالسيارات التي تندفع باتجاهِ الجسرِ الذي خلا في ذلك اليوم من كل شيء وهو يرزخُ تحت هذا الكم من الأسئلة التي تدور في رؤوس الناس.

انكسارات ضوءِ الشمسِ على مياه البركة يولدُ موجاتٍ قوس قزحيه تلف ُالمكان لينتشرَ نوعٌ من السكون لم يشعرْ به أحدٌ منذ وقتٍ طويل .مياهُ النهرِ الرمادية المليئة بالطمى يتحول لونها الى الأزرق بمجرد أن تدخلَ البركةَ التي كانت على خلافِ النهر تعجُ بالحياة .أسماكٌ ملونة .إخطبوطات صغيرة لم يرَّ مثيلا لها من قبل .ورودٌ صغيرةٌ تتناثرُ على سطحِ البركة تفوحُ منها روائح مختلفة يصلُ شذاها الى أطرافِ المدينة بينما ظهرتْ انكسارات الضوءِ على مرايا العماراتِ المجاورة للنهر.

صمتتْ المدينةُ كلها وهي تغوصُ في هذا الصباح السماوي الخالص .

يحدُ البركةَ من الجنوبِ سوقُ الكتبِ وتمثالُ شاعرِ المدينةِ الذي أدارَ رأسهُ نحوها في ذلك الصباح دون أن ينتبه اليه أحد .من الشرقِ يحدها خطُ المرورِ السريع ومن الغربِ تقفُ على حافتها وزارةُ الجيشِ التي تُبرز من أحد أركانها قاعةً للرقصِ الشعبي لتشكلَ أحد مظاهر التناقضاتِ التي تعجُ بها المدينة .

على الجانبِ الأخر تقع المدينة الطبية وبقربها ثلاجات الموتى التي غالبا تعج بالصراخ والعويل.من الشمال تقعُ كليةُ الفنون وسفارة لأحدى دول الجوار……..

عمَّ الهلع جموعُ الناسِ المتجمهرين على حافةِ البركة من جميع جهاتها التي بدتْ وكأنها موجودة في هذا المكان منذ مئات السنين.بدأ الناس يتذكرون الشوارع.الدكاكين.باعة الصحف.الكليات المختلفة.أكوام المزابل.كراج السيارات. بيوت الدعارة. الكافيتريات. المطاعم. سوق الخضار.أحدى الوزارات المهمة المكونة من نصفين متماثلين يربط بينهما ممر مكون من الواح زجاجية ضخمة . تعالت تكبيرات الجوامع القريبة بينما بدى صوت أحد الشيوخ متشنجا قبل أن يغط بموجة من البكاء والعويل وهو يصرخ أنها علامة من علامات يوم القيامة وأن هذا اليوم أقرب اليكم مما تتصورون .في الجانب الأخر كان أحد الشيوخ يصرخ أنها بحيرة المنقذ الذي سيخرج من أعماقها ليملأ الأرض عدلا وسلاما بينما حاول رجال الشرطة تفريق الجموع وهم يحملون قاربا رموه في البركة قبل أن يمتطيه غواصين بكامل معداتهم يرافقهما أحد الضباط الذي يبرز مسدسه من جانبه الأيمن .شغلوا محرك القرب واندفعوا الى وسط البركة

ساد الصمت جموع الحاضرين قبل أن يرمي الغواصان نفسهما في البركة ,موجة من النعاس تملكت الناس .أغمضوا عيونهم دفعة واحدة وعندما فتحوها كان الضابط قد أختفى .أحسوا بنوع غريب من الراحة وكأنهم رقدوا لعشرات الساعات . بعضهم أحس بالجوع والعطش لكنهم نسوا كل ذلك وهم يراقبون بذهول القارب الذي رجع تاركا الغواصين والضابط . البعض منهم لم يكن متأكدا أنهم ركبوا القارب اصلا , لكن أحدهم بدأ يدفع الناس مبتعدا وهو يصرخ.

- لقد اختفوا……. اختفوا

أبتعد الناس عن البركة تاركين مسافة امتلأت بأنواع الأزهار وأشجار الآس التي طوقت البركة من جميع جهاتها بمجرد ابتعاد الناس عنها.نزل الناس من جسر المرور السريع وكم التساؤلات يغزو الجو رافعا درجة الحرارة الى اللامعقول. مضتْ خمسة أيام لم يجرؤ أحد خلالها الاقتراب من البركة .

نشرات الأخبار الحكومية أذاعت الخبر بشكل موجز بينما انتشرت صورة البركة على الصفحات الأولى من الجرائد ماعدا الصحف التي اختفت في ذلك اليوم .

الحكومة بدت مرتبكة وحائرة خاصة وأن اختفاء الوزارة المهمة قد أثر تأثيرا كبيرا على عملها .تعطلت المدارس بصورة غير إرادية وترك أغلب الموظفين دوائرهم ليملئوا عيونهم من هذا الجو الملائكي.

عمت الخلافات داخل الشرطة والجيش وهم يحاولون أقناع أحد أفرادهم بالنزول الى البركة ورغم استخدام كل الطرق معهم من ضمنها اتهامهم بالخيانة وعدم أطاعة الأوامر لم يستطيعوا أقناع ولو فرد واحد بذلك .

في اليوم الخامس كان الملل بدأ يتسلل الى الناس الذين ينتظرون أن يحدث شيئا ما بينما كم طائرات الهليكوبتر التي تجوب سماء البركة لم تعثر على أي شئ غير عادي داخلها صاحب المقهى التي تقع بالقرب من سوق الكتب لم يتذكر ذلك الشاعر الذي طرده من المقهى لأن عدد أقداح الشاي التي شربها تجاوز المئة دون أن يدفع ثمنها .كان قد حلف أغلظ الأيمان أنه لن يدخل المقهى الا بعد أن يدفع المبلغ بالكامل لذلك أفترش الشاعر الرصيف المجاور للمقهى متوسدا كتبه وأوراقه التي أصبحت من دون أن يخطط مكان للتسول بينما لم ينقطع صاحب المقهى عن تقديم الشاي وهو يخاطبه بخجل .

– لقد حلفت .. أنت تعلم

أنتشر الشرطة ليشكلوا حاجزا يمنع الناس من الاقتراب من أشجار الآس التي خرج منها الشاعر متجها الى الضابط المسؤول وهو يصرخ .

– سأنزل الى البركة …نعم سأفعل ذلك

وافق الجميع على التضحية بالشاعر .في لحظة واحدة أقنعوا أنفسهم أن وجود الشاعر واختفائه لن يشكل فرقا كبيرا في حياتهم .

قبل أن يصعد القارب وقف بين أشجار الآس نافخا نفسه وهو يطلب مجموعة من الأوراق والأقلام والا فأنه لن يفعل ذلك .

– أحتاج عشرات الأوراق…..ها لا لا… مئات .. مئات لم يساله أحد عن حاجته للورق بينما تعالت الصيحات مستعجلة الجنود لجلب مايحتاجه الشاعر …بعد دقائق امتلأ القارب بالأوراق وعدد من الأقلام .صعد معتليا كل هذا وأندفع الى وسط البركة .

بعض الأقدام كانت قد تجرأت على شجيرات الأس والورد وهم يراقبون الشاعر الذي ما أن وصل الى منتصف البركة حتى بدأ بالكتابة . يكتب وهو يضع الأوراق باعتناء الواحدة فوق الأخرى بمجرد الانتهاء من كتابتها . لم يسال أحد عما يكتبه الشاعر ولكن الكل كان ينتظرون لحظة اختفائه. صرخ أحدهم بالجموع

– أحذروا النوم .. أفتحوا عيو.نكم جيدا والا سيفوتكم المشهد بعض القنوات نصبت كاميراتها لتغطي الحدث الذي ظهر أنه المشهد الوحيد في معظم القنوات في ذلك اليوم.

صورة واحدة لرجل يكتب شيئا ما داخل قارب في وسط بركة رائعة الجمال . لم يشعر العالم بالملل .الانتظار هذه المرة كان مختلفا . عندما ساد الظلام كانت أضوية الهليكوبترات تحاول أن تضئ المشهد لكن أضاءتها كانت متقطعة . كان القارب يختفي ويظهر, يختفي ويظهر, ليختفي الشاعر فجأة تاركا كم من الأوراق داخل القارب الذي بدى ساكنا في تلك اللحظة.

في الصباح أفاق الناس وكان القارب قد تمدد على ساحل البركة وفي داخله الأوراق على شكل رزم اصطفت الواحدة قرب الأخرى ….

سحب رجال الشرطة القارب الذي ترك أثرا واضحا في أشجار .تدافع الناس محاولين معرفة ما كتب ذلك الشاعر لكن الضابط بدى مندهشا وهو يقرأ جملة واحدة كتبت بخط واضح وعلى طول الورقة (أبحثوا خارج البركة)سحب ورقة أخرى وجد نفس الجملة .بدأت الأوراق تتناقل بين الناس عندها أدركوا أن الساعات الطويلة التي قضاها في الكتابة كان من أجل جملة واحدة فقط.

بعد ساعات كانت الأوراق قد ملأت شوارع المدينة بينما أندفع الناس الى بيوتهم محاولين تناسي أمر البركة والشاعر مضت خمس سنوات أصبحت البركة خلالها جزء من المدينة .بدأت تفقد لونها الأزرق لتشابه لون النهر التي تستمد مياهها منه.أغلب المخلوقات اختفت لتغوص داخل البركة بينما تحولت حدائق الورد وأشجار الآس الى بقع متناثرة من الثيل التي حاولت الحكومة زراعتها في أوقات متفرقة بعد موت الأشجار .تجمعت قاذورات المحلات والبيوت المجاورة على سواحل البركة.كنتُ جالسا أتأمل كل ذلك عندما أحسست أن شيئا ما يقف ورائي .التفتُ لأرى صاحب المقهى الذي ما أن راني حتى علتْ الدهشة وجهه

– أنه الشاعر … أين اختفيت ..أنه الشاعر..لقد عاد .. عاد بعد دقائق تجمع الناس حولي وكأنهم يتجمعون حول جثة هامدة بينما كم الأسئلة غطاني تماما .تذكرت حينها الأيام التي قضيتها خارج المقهى لذلك التفتُ نحوه وسالته

– أريد أن أدخل المقهى

– ها.. نعم… تعال.. أجابني بتردد

استقريت على أحد الكراسي عندها تجمع الناس فوقي ينتظرون أن أخبرهم ماحدث لي خلال تلك السنين التي قضيتها بعيدا عن المدينة .كان شيء رائع هذه اللهفة التي بدت علىوجوههم .نظرت اليهم بنوع من التكبر وسالتهم

– أعرف ماتريدون ولكن لماذا لم تبحثوا خارج البركة أصاب الذهول الجميع وهم يتذكرون الأوراق التي غطت شوارع المدينة في ذلك اليوم وكي لايتسلل الملل الى نفوسهم ابتسمت في وجوههم .بعد لحظات تحولت ابتسامتي الى نوع من الضحك يشبه الصراخ .ضحكوا كلهم بنفس الطريقة دون أن يفقهوا سببا لذلك الضحك .تعالت الأصوات لتغطي البركة التي بالكاد تقوى على التنفس أما صاحب المقهى فكان ينظر الينا مندهشا وهو يرمي فضلات الشاي في البركة.




* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى