محمد خضير - المهرجان

انطلقت رحلة الشعراء في قطار سريع، من المحطة العالمية في بغداد، جنوباً باتجاه آخر محطةٍ في البصرة. ومن هنا نُقل الضيوف تحت الحراسة إلى فندق "شط العرب" الكبير.

كانت قائمة المهرجان تضمّ أسماء مئتي شاعر، من المتزوجين والعزّاب، ضجّت صالة الفندق الاستعماري الفخمة بأصواتهم. خُصّصت غرف خاصة للضيوف الأجانب، فيما حُشِر العزاب في مهاجع مشتركة، أما الشواعر الأوانس والعوانس فرُفعِنَ إلى مهجعٍ قريب من سطح الفندق.

أبقتني حقيقةُ سكني مع الأدباء العزاب، في مهجع عمومي، مذهولاً مدة الليالي الأربع للمهرجان. والحقيقة كنت أشعر بالتوهان، لأنني لا أشترك مع الأدباء العموميين، بأيّ ملمح عُمريّ أو أسلوب أو جنس أدبي، وكنت أجهلُ أكثرَهم، وبدوا لي حثالةً مشتتة بعد أن عُزِلوا عن النساء وأصبحوا كالدبابير الهائجة، دائبة الصعود والنزول على السلالم العريضة للفندق.

لم أعلم بهذا التوزيع المتعمّد، إلا في ليلتي الثانية. قيل لي حالما وصلنا الفندق، وأُرشِدنا إلى مهجعنا: "اختر سريرك". وضعتُ قدمي على عتبة واحد من المهاجع الجماعية، الموزّعة على دورَي الفندق، مع عشرين شاعراً. وهكذا أتيح لنا _ نحن العموميين _ أن نهيم في الممرّات البهيّة بغياب مرشدينا الذين اختفوا فجأة. استمعنا خلف الجدران إلى خبط قصيدةٍ عشواء يتمرّن على إلقائها شاعر، وصادفتنا هوامٌّ من الشعراء الضائعين مثلنا يبحثون عن نسائهم، حتى إذا استقررنا أخيراً في مهجعنا، عزّ علينا النوم، مرهفين سمعنا للصرخات المكتومة خلف الأبواب.

غالباً ما ألفي زملائي الشعراء يتمدّدون على أسرّتهم المرتبة في صفوف متقاربة، رأساً لقدم، وقدماً لرأس، وقد سكنَ شغبهم، وأرهقَهم صعود المنبر، فبدَت وجوههم صفراً مرمدَّة، أو زرقاء مسودَّة؛ فأختارُ سريراً فارغاً وأستلقي عليه بجسدي المنهك من طول الخبب العابث هنا وهناك، كأنّي اخترقتُ عصوراً طويلة، متعاقبة بأسواق الشعر، وكانت الأجساد هامدة، غير معرَّفة إلا بخطوط باهتة، ما تعتم أن تغشاها سحابةٌ هابطة، تتخللها دقاتُ ساعة جدارية، معلقة في عمق المهجع المستطيل.

صرفتُ اهتمامي بشعراء الغرف الخاصة، وركزته على شعراء القسم العام (نزلاء مهجعي العشرين تحديداً) وبحثتُ عن شيء لافت يضبط إيقاعَ لياليهم، فوجدتُه في "الغيمة الدقاقة" لمهجعنا، وقد ضمّنه أحد الشعراء قصيدته. علِقَ في ذهني الاقتباسُ الشعري من قصيدة مايكوفسكي: "حملتُ دقاتها في بنطلوني" يردّده "الشاعر الأحدب" وقد انتبه قبلي إلى ساعة المهجع الجدارية واقتبسَ إيقاعَها المجلجِل ليحشره في جيب قصيدته. انتبهتُ إلى هذه الكتلة المنكمشة تحت شرشف السرير المجاور لسريري، قبل ظهوره، بشكله الغريب، في قاعة بهو الإدارة المحلية المخصصة لإلقاء القصائد، على بعد بضعة كيلومترات جنوبي الفندق.

اهتزّت ستارة المسرح، واقترب الشاعر الأحدب من منصّة الإلقاء، وتسلّقها بخفّة مثل عنكبوت، ثم أخذ بالتجرّد من ملابسه ليكشف عن حدبته. وبعد فترة صمت، اختطفَ الميكروفون من المنصّة، وألقى المقطع الافتتاحي من قصيدته "ساعة في بنطلون":

"النهر مرقّش بالأضواء

السفن تطفو كسلاحف مقلوبة

والسلطعونات تُنشِب فكوكَها في عنقي،

انهضي أيتها الأرواح الغريقة

سأعزِفُ الليلةَ على مزمار عمودي الفقريّ".

تلَت المقطعَ المتناصَّ فترةُ صمت أخرى، اتخذ الشاعر الأحدب خلالها وضعَ العقرب الذي يعقف ذراعه فوق رأسه بترفّع وازدراء. طالت الوقفة العارية، فوق رؤوس قاعة البهو، المطعونة بدعابة الشاعر. بلعَ الشعراء الخصوصيون ألسنتهم، فيما اشتدّ لغط شعراء القسم العام كغيمة من الدبابير راحت ترتفع وتدور تحت سقف القاعة. وفجأة نطَّ الشاعر الأحدب ورمى بالمقطع الثاني كخيط لزج من قصيدته العنكبوتية:

"دعوا الروسيَّ المشاغبَ ينهض من الأعماق ويغنّي معي

أغنيةَ الزمن المعروضِ كسمكة مملّحة

تعلّقُها امرأتي الجميلة في ردهة الفندق الفارهة"

لم أتثبّت من موقع الساعة الدقّاقة المعلّقة في عمق المهجع، فقد حجبتْها عن مخيلتي غيمةُ الشاعر الأحدب ودبابيرُ القسم العام، ثم انتبهتُ إلى إشارات الشاعر وكأنّها هبطت من موقع آخر، من قسم النساء، من إحدى الغرف المخفيّة بين الأدوار، أو من جهة النهر الذي يطلّ عليه الفندق. تذكرتُ أنّي في الليلة الأولى كنت قد سمعت النبرَ الخافت لتمريناتهنّ خلف بابٍ قرب سطح الفندق. وفي طريقي إلى المهجع تهتُ بين الطوابق، وكدتُ أقتحم أكثر من بابٍ مردود على صمت نزلائه المجهولين، ولم أدرِ أنّي أقترب من باب السطح، حتى صرتُ وسط عراءٍ وسيع، باردٍ، ونورٍ أرمد يتأرجّح فوق رأسي كرقّاص ساعة عملاقة حجبتْها غيوم متفرقة.

طيلة الليالي الأربع أفتقدتُ شيئاً، أفتقدتُ خطواتٍ عجلى أضاعت طريقها إلى مهجعها، أفتقدتُ رائحةَ امرأةٍ تائهة مثلي بين الغرف، غيمةً معطّرة فلتتْ من جلباب الشاعر الأحدب. وحين تحصُون مثلما أحصيتُ، فسيصدقُ حدسُكم، وينتهي اللقاء الشعري بدعابة أكبر وأقسى.

حصلتُ على إذنٍ بالمكوث صباحاً خامساً في الفندق، ريثما أتمّ تقريري عن المهرجان، وبعد تناول فطوري في المطعم، ارتقيت السلم إلى مهجعي. كانت أسرّة المهجع خالية تماماً، لكني فوجئتُ بجلوس الشاعر الأحدب على حافة سريره المقابل لسريري. كان قد التقط مجموعة قصص "الرقاص والبئر" من المنضدة الفاصلة بين سريرينا.

"قرأتُ هذا الكتاب ثلاث مرات".

قلت: "وماذا عنَتْ قراءتك الثالثة للكتاب؟".

"أشياء كثيرة. أحبّ قصص الرعب".

"أدغار ألن بو مؤلّفه.. رجل حادّ الطبع، ذهانيّ فذّ".

"نعم. نحتاج أحياناً إلى شخص يساعدنا على كشف مخاوفنا في أوضاع خاصة، كوضعنا في الفندق؟".

أخرجَ علبة سجائر من حقيبةٍ ملقاة على السرير، واختار لفافةً رفيعة، وسأل عن عود ثقاب. أحملُ علبة ثقاب لمثل هذه الأوضاع التي تضعنا وجهاً لوجه مع الرعب الحيّ. أحنى رأسه ليوقد لفّافته فارتفعت حدبتُه أمامي كزعنفة مرتجفة. نفثَ الدخانَ بقوة، وقال: "أأنت مدعوّ للمهرجان؟". وافقتُه في ظنّه، فقال: "أأنت شاعر؟" قلت: "أنا صحفيّ".

" يا إلهي. أنا لا أحبّ الصحفيين. هل صادفتك امرأة قبل صعودك؟".

"لا. وأين سكنتْ في الليالي الماضية؟".

"إنها زوجتي. ولقد سمحتُ لها بالمبيت مع الشاعرات العزباوات. لم أنم منذ ليلتين. كنت أطاردها من قسم لآخر. هل تتصور ذلك؟".

تصورتُ الشاعر العنكبوت يتسلّق جدران الفندق باحثاً عن زوجته. قلت: "هذا شيء مذهل.. ألم تتصل بها؟".

"كانت الهواتف مشغولة دوماً".

"وهل تعلم أنّ قطاركَ تحركَ هذا الصباح، عائداً إلى بغداد؟".

نترَ ضحكةً جافة، وقال: "وهل نحن الاثنين من تخلّف عن الجميع؟".

"أظنّ ذلك يا صديقي".

"شيء هذياني".

بحث في حقيبته عن شيء ما، ثم استلقى على جانبه، مديراً حدبته، وسحب الشرشف على جسده. سمعته يقول: "يحدث أحياناً أن يتعطّل كلّ شيء.. ينطفئ النور ونغرق في البئر".

أحسستُ فعلاً بعُطل ما، بتوقّف الرقّاص عن التنبيه والإنقاذ. استأنفَ كلامَه الهامس: "انتهى المهرجان ورحل القطار. خلَلٌ ما غير مُحتسَب في القصيدة. وما الغرابة في ذلك؟ إننا نحاول أن نتكيّف مع الأوضاع الخاصة، بمفردنا أو مع امرأة تائهة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى