منى بنت حبراس السليمية - الفتاة التي عشقت كرة القدم

الانحياز إلى الشغف بطولة

تنتعل حذاءها كل عصر، وتمضي بخطواتها الصغيرة المتحفزة تجاه الساحة المشتركة خلف بيت الجيران. مع الوقت ما عاد الفتية يستغربون حضورها وحيدة كل يوم، وربما اقتنعوا أنهم بحاجة إلى جمهور حتى وإن كان مجرد طفلة صغيرة وحيدة. يرتب لها ابن الجيران (طابوقة) لتجلس عليها قبل بدء المباراة، ثم أصبح يأتمنها على دشداشته و(كمته) بعد أن يخلعهما مبقيا على قميصه وشورته القصير.

تحرص على الحضور يوميا باستثناء أيام قلائل ثقيلة يقرر فيها الفتية تبديل اللعب، والاستعاضة عنه بالركض لكيلومترات خارج الحي. يقتلها هذا الانحراف وخيانة المستطيل الأغبر، الذي يضطرها لترك طابوقتها.

كبرت، وتجرأت بعد أعوام على الوقوف أمام مرمى يحدُّه (قوطِيّا نيدو)، عارضة على اللاعبين فكرة أن تكون حارسا لشوط واحد فقط، بعد أن عقدت طرف دشداشتها في وسطها كاشفة عن سروالها (التيدي) العريض. تعرف الآن أن ثمة ما كان يربي لديهم الإحساس بعدم غرابة طلبها. حضورها اليومي وصرخاتها المشجّعة جعلهم يوافقون على طلبها مكافأةً على لعبها دور الجمهور الوحيد على الدوام. وافقوا دون أن يتوقعوا الكثير بعد جدال استغرق وقتا يرميها كل فريق لتلعب في فريق خصمه. كانت ترضية وردا للجميل وحسب، ولكن لا يجب أن تكون نظير خسارة يتكبدها أحد الفريقين دون الآخر.

اخترقت كرات الخصم مرماها أكثر من مرة. لا شيء سيجعل منها حارس مرمى في فرصة طارئة ووحيدة. كانت تدرك أن الحدث لن يتكرر مجددا، ولكن تسديدة قذف بها أحدهم في زاوية ليست بعيدة عن امتداد يدها صدفة أكثر منها قصدا، أوجدت لها فرصة في الشوط الثاني.

في الأيام التالية رضيت بأن تكون حارس احتياط، فعلى الأقل أصبحت لاعبا معترفا به، وضمن دائرة الطلب وإن في ساعة الضرورة وحسب.

كبرت الفتاة، وصار خروجها مع الأولاد عصر كل يوم عيبا لا تطيقه أمها، فلم تحتج جهدا لتقنعها بأن هذا (عيب) حتى امتنعت. وصارت تعوّض اشتياقها للمستطيل الأغبر بمتابعة الكابتن ماجد ومباريات يحدث أن يقطع تلفزيون عمان بثه من أجلها.

مع الوقت تحوّل شغفها من المستطيل إلى (فكرة) المستطيل، والفاعلين فيه، وعلى محيطه، وزواياه، ومدرجاته الملتهبة والفارغة، والراوي الذي يسرد كل ما يحدث طوال 90 دقيقة أو أكثر. ومع انتعاش القنوات الرياضية، اكتشفت في العام 2004 تحديدا (إبان بطولة كأس آسيا في الصين) دهشة ما يسبق المباراة وما بعدها. تابعت بحرص تحليل كل مباراة، حتى شغفت بهذا العالم الذي يبدأ ولا ينتهي بإطلاق صافرة الحكم معلنا النهاية.

تستطيع الآن أن تلخص رؤيتها كالآتي: ليست المباراة سوى نص تدور أحداثه في مستطيل أخضر لمدة 90 دقيقة أو يزيد، يتقاسم بطولته 22 لاعبا من فريقين، ويروي أحداثه معلق رياضي يتفاوت مستوى سرده: بضمير المتكلم إذا كان أحدُ الفريقين منتخبَ بلاده، وبلغة أقرب إلى الراوي العليم عندما يكون معلقا محايدا. ويتلقى النص مستويان من الجمهور: داخلي عبر مدرجات، وخارجي يستقبله عبر قنوات يحدث أن تكون مشفرة غالبا. أما أحداثه فتأخذ خطين: خط عام يحدده شوطان تتوسطهما استراحة، أما الخط الأهم فهو خط التفاصيل: خطة اللعب، والتكتيك، والبدلاء، والأهداف، والبطاقات الحمراء والصفراء، وركلات الجزاء، وأحيانا الشجار داخل المستطيل أو خارجه.

في متابعة المباراة/ الرواية، تجد الفتاة متعة بالغة لا تضاهيها إلا متعة قراءة رواية جميلة، تتسرب نشوتها أو حسرتها أو رتابتها إلى روحها كما تفعل الروايات.

طوال سني حياتها، أخلصت للّعب وحده. لم تكن تعنيها الفرق كثيرا، فلم تستطع أن تعشق ناديا أو فريقا وتتعصب له، كل ما استطاعته أن تخلص لروح كرة القدم التي عشقتها مذ كانت تتسلل بحذائها الصغير إلى الساحة الخلفية لبيت الجيران لتتابع مباراة حية على مستطيل أغبر بين أخوتها وأولاد الجيران.

آمنت بأن عشق كرة القدم حق مشترك للجنسين، مشترك إلى الدرجة التي تغيظها فيها شوفينية الذكور في استنكارهم لاهتمام الفتيات بهذا العالم المجنون. قبل أيام كانت تتساءل في تويتر: لماذا تهمل قناة عمان الرياضية بيانات التوقيت والأهداف وتاريخ المباراة عندما يحدث أن تعيد مباراة قديمة؟ (كانت القناة وقتها تعيد مباراة من خليجي 17 بين منتخبي عمان والإمارات). تتذكر هذه المباراة جيدا، وتحفظ تفاصيلها رغم أنها حدثت قبل 13 عاما في قطر. يرد أحدهم ضاحكا وربما ساخرا: "شكلك أول مرة تتابعي مباراة" (خاتما رسالته بوجه ضاحك تطفر دموعه من محجريهما)!!

لم تكن تخبئ أحلاما كبيرة داخل تجويف المستديرة المطاطية بعد كل شيء. ولكن حبها بقي منقوصا على الدوام. ولم يستطع حوش بيتهم الكبير – الذي ركضت فيه عمرا خلف الكرة التي اشترتها منذ سنوات ولا تزال صالحة حتى الآن – ولا شاشات القنوات الرياضية بمبارياتها المتاحة والمشفرة أن يعوضا غياب الفريق الذي لا تكتمل الرواية إلا به.

ستتعلم لاحقا كيف تربي حلم شراء قطعة أرض مستطيلة تزرعها بالأخضر، وترسم فيها خطوط ملعبها بدقة، وتنصب على ضلعيه الأبعدين شباكين حقيقيين لا علاقة لهما بقوطيي النيدو في الساحة الخلفية لبيت الجيران. ولا تنسى أن تسيّج ملعبها بسور إسمنتي يحفظه من عيون الفضوليين. ستلتقي فيه مع فريق فتيات يحملن شغفها يوما ما بعيدا عن الإعلام والمتلصصين. فقد علمت أن لا شيء في مجتمعنا يُجهض الأحلام في مهدها كانتشار خبرها، وليس فريق الدراجات النسائي بسمائل عن ذاكرتها ببعيد!

منى بنت حبراس السليمية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى