ناصر سالم الجاسم - التكسرات

الموت يتنقل بين الأسِرّة.. يقفُ على النوافذ.. يختبئ خلف الستائر.. يسخرُ من وراء نظارات الأطباء.. يطل من ثقب الباب.. يأمر بفتحه في أي وقت يشاء.. كل شيء يوحي بالنهاية إلا وجه البيضاء الذي يجري فيه الماء.. طبيب التخدير بوجهه الممزق لا يأتي إلا وحقنة الراحة توازي أنفه.. يقيسُ الكمية المعطاة بعينه.. يدخلُ الغرفة ووجهه يفترس وجه المحتاج.. لا يلتفتُ إلى أحد برغم كل العيون التي تناديه.. والأسِرة التي تختزن الموت ثابتة ثبوت الموت في المكان.. زائر واحد في اليوم يدخل صامتاً ويخرج صامتاً.. لا كتاب.. لا هاتف واحد يرن.. طاولة الطعام المتحركة تجيء ممتلئة وتعود ممتلئة.. الليل طويل والموت فيه كثير.. الأطباء تحولوا إلى مسجلين وحافظي وصايا.. الأنّات دليل الحياة والهلوسة دليل اللاوعي.. أنّات الشيوخ واهنة ضعيفة.. وأنّات الشباب قوية موجعة.. قد يموت الإنسان من رؤية الموت.. أكثر المهلوسين ضحايا حوادث السيارات..

كل الراقدين يظنون الموت يحبو تحت أسِرّتهم.. يشدُّ لحافاتهم.. شيئان تعرف بهما موتَ جارِك.. عندما يأتي الحاملان ويغطيان وجهه وينقلانه إلى عربة عالية طويلة قصيرة العرض.. أو عندما تجترُ الليل ترقب تنفسه إما خائفاً أو مبدّداً للألم.. الكل يود الصعود إلى الطابق الثاني.. كان من ضمن الراقدين شاب ظل ساكنا مع الموت ثلاثة أشهر..

صبّي أيتها البيضاء الماء المحلى بالسكر في دمي، فدمي يسكنه سبخ.. اعذريني إذا سأرت أو رفضت الدواء كالطفل.. فأنا أصنع ذلك رغبة في مزيد من وقوفك.. احقنيني بحقنة توقف التكسر في دمي.. اختاريها حقنة توقف تكسر القوافي على أوراقي.. قصائد المحتضرين كلها سكرات.. اقرئي سكراتي منزوية تحت عمود.. أنا الذي سرقتُ ساعتك فلا تسبغي عليَّ في الدعاء.. سرق ساعتك كان ضرورياً لكتابة قصيدتك، فبها أعرف متى تأتين وأمتنع عن الكتابة.. ولكنك توقفين نبض الشعر بقدومك.. مواعيد نوباتك مضطربة.. أعرف أنك تبدئين النوبة بي وتنهينها بي وربما بكّرتِ قليلاً في الحضور وتأخرتِ كثيراً في الانصراف.. كان خوفي من وصول الموت إلى القصيدة ظاهراً.. استدرت على جنبي لتحقنيني فرأت عيناك الساعة تحت وسادتي لم تقولي شيئا.. ولكنني عرفت أنك اكتشفتِ سرقتي من طريقة دخول الإبرة في وركي.. لأول مرة منذ جاورني الموت تهتر الإبرة في يدك.. وقالت عيناك بعد الاكتشاف: اكتب..
أيتها البيضاء التي تطرد بابتسامتها الموت من دمي.. لقد تعبتُ من الغسيل كل ثلاثة شهور.. ليتك تعملين في الطابق الثاني..

قبل الغسيل رأيت دموعك ورأيت طبيب التخدير يحتقرك بنظراته المخدرة عندما سمع نشيجك.. لأول مرة يشغله شاغل عن تفريغ الحقنة ويجعله يتوقف ويلتفت.. لمحتُك باكيةً خلف طبيب التخدير تكتبين على غلاف عليه دوائي اسم فصيلة دمك.. ألا تعلمين أنه من سوء حظي أنها لا تتناسب مع فصيلة دمي؟!..

ماذا كنتِ تقرئين في ملفي ليلة البارحة؟.. عمري.. شقائي.. مرات غسل دمي.. الإصابات الناتجة عن سقوطي المفاجئ.. إجازاتي المرضية.. هل كتبوا في ملفي أنه يعاني من تكسر في الدم والشعر والحظ والحب؟!.. إن لم يكتبوا كل ذلك اكتبي عنهم واكتبي تاريخ لقائي بك في عنبر الموت وأوصيهم بمتابعة حالتي منذ اللحظة التي اهتزت فيها الإبرة في يدك، هل تدرين أيتها البيضاء كيف جئت إلى جاري الموت؟! لقد كنا يا مجبرة القوافي أنا ومقبل وسلمان نحتطب للشتاء فأنا أُنشد الشعر على رائحة اثنين: أعواد الغضا والمطر.

بدأ وجهي يتشنج وأنا محتضن حزمة أعواد الغضا حاملها على صدري والمطر يغسلها ويعطرها وابتدأ من تشنج وجهي تكسر الشعر على شفتيّ وابتدأ معهما جفاف دمي في ساقيّ وأخذتْ أعواد الغضا تنزلق على الأرض.. حملاني بعد ذلك مقبل وسلمان إلى المستشفى حطباً يابساً..

أخبريني أيتها البيضاء.. كم قرروا هذه المرة حاجتي من الدماء؟.. قولي لهم إن التقدير بالـ سي سي لم يعد مجدياً مع حالتي.. ليقرروا بالجالون حتى أستطيع كتابة قصيدتك.. خذي الساعة أيتها البيضاء فالموت يذكر بالوقت والشعر لا يعيد الحياة.. مات جاري الأيمن بعد كتابة البيت الأول.. ومات جاري الأيسر بعد كتابة البيت الخامس.. وجاء اليوم جاران جديدان ولم أمت.. أنتِ كتبتِ اسم فصيلتك على غلاف الدواء وأنا كتبتُ نصف قصيدتك على الوسادة.. سأرقد على جنبي عند العاشرة ليلاً.. سأستدير لأخذ حقنتك ولتقرئي نصف قصيدتك فلربما أموت قبل إكمالها.. سأتظاهر بالنوم فلا تهزي كتفي.. يجب أن تفهمي لغة الصمت التي بيننا حتى أموت.. قد أنام الليلة بحقنة طبيب التخدير فتعالي لتقرئي نصفها قبل أن يخدرني ويمحوها لعاب فمي..

أيقظتني للغسيل سمراء.. الموت يركض على عروق يديها.. وفتح الموت باب العنبر ودخل الحاملان والنقالة التي تدخر موتي تسبقهما.. خرجا بثلاثة من موتى الليل وعاد آخران بثلاثة من منتظري الموت.. لم أرَ طيلة مجاورتي للموت سريراً خالياً أكثر من ساعتين.. كان طبيب النوبة الصباحية يطوف على المرضى بسماعته وممرضتان تطوفان خلفه.. أخذتِ السمراء توقف الماء المحلى بالسكر عن الصب في دمي.. التفتُ إلى الوسادة فتشنج وجهي واصفرت ساقاي.. ظننتُ أن لعابي طمس أبيات نصف القصيدة.. امتدتْ يد السمراء إلى علبة دوائي تفتحها.. لاحظتُ وجود مجموعة من المناديل المطوية المبتلة على المنضدة..

سافرتْ البيضاء وتكسر الحظ والحب وما زالت الساعة تحت الوسادة تتكتك..


ناصر سالم الجاسم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى