حاتم الصكَر - صرامة البنيوية واكتناه الأعماق.. ثنائيات الخفاء والتجلي كما يراها كمال أبوديب

“شخصياً أسعى.. إلى تحويل النشاط النقدي من كلام على كلام إلى أمر يسمح بأن يكون النقد كلاماً أول.. وأطمح إلى منح النشاط النقدي حرية جديدة وتحريره من وحدانية المنظور... وإلى جعله قادراً على التعامل مع الانشطار واللاوحدة والتشظي والجنون، بجنون مطابق وتشظٍ مضاهٍ وفقدان للوحدة مماثل وانشطارمنافس”.

كمال أبوديب ـ جماليات التجاور

كان الدكتور كمال أبوديب من أوائل النقاد العرب المتحمسين للبنيوية والمعلنين صراحة أنه اتخذها منهجاً نقدياً شخصياً، فأصبح بذلك كمن يعلن صنف دمه النقدي، وراح يسعى من خلال تطبيقاته وتحليلاته للقصائد ودراسة الظواهر الفنية إلى تأكيد المستندات النظرية التي جاءت بها البنيوية، ردا على هيمنة الانطباعية واللامنهجية في الدراسات النقدية.

الثنائيات الضدية

وفي كتابه “جدلية الخفاء والتجلي ـ دراسات بنيوية في الشعر” 1979، اتضحت المنهجية الملتزمة من جانبه كما ينص العنوان الثانوي للكتاب، تأكيداً لهذا الإعلان المنهجي المبكر قياسا إلى الهبَّة البنيوية التي ستأتي من المغرب العربي عبر الترجمة، لتشيع في المشرق وتتعدد مناخاتها وتياراتها. ولكن كمال أبوديب ينفي في مقدمة الكتاب أن تكون البنيوية (فلسفة)، كما وصلت عبر الترجمات وكما تطعّمت في الغرب بجداول من حقول معرفية مختلفة صبت في مجراها الأدبي، لكنها عنده “طريقة في الرؤية ومنهج في معاينة الوجود”. ولذلك فهي ثورة جذرية للفكر والشعر معاً، تمثل عنده ثالث الثورات الجذرية في الفكر الإنساني بعد نظرية ماركس في الجدلية والصراع الطبقي، وثورة بيكاسو في الفن التشكيلي والكراسي التي رسمها فلم نعد نرى الكراسي كما هي عليه قبل رسمها، والبنيوية التي بمفاهيم التزامن والثنائيات الضدية والعلاقات بين العلامات، تعمل على تحول الفكر والشعر وتغييرهما، محتجا بما يراه في البنيوية من “صرامة وإصرار على الإكتناه المتعمق، والإدراك متعدد الأبعاد، والغوص على المكونات الفِعْلية للشيء، والعلاقات التي تنشأ بين هذه المكونات”. ولعل مقولة (الاكتناه) هي من أكثر المفاهيم إلحاحا على كمال أبوديب في اشتغالاته النقدية بدءا من دراسته الأكاديمية عن الحداثة النقدية في التراث مجسدة في كتابي عبدالقاهر الجرجاني “أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز”، ومرورا بمراجعته للموسيقى الشعرية التقليدية ودعوته لدراسة البنية الإيقاعية في الشعر العربي لتقديم (البديل الجذري لعروض الخليل)، وقراءته للتراث الشعري القديم ـ الجاهلي خاصة ـ في كتابه “الرؤى المقنّعة” واكتشاف (الوحدة الخبيئة) في القصائد التي تبدو متشظية الغر . كانت الميتافيزيقيا تلوّن مفهوم الاكتناه بما أنه غور على الجوهر وبحث في الاعماق، وترافقه عبر تحولاته من البنيوية الصارمة في نموذجها اللساني ـ سوسير خاصة وجومسكي ـ إلى منهجيات ما بعد البنيوية كالقراءة والتلقي وإعادة الاعتبار لدور القارئ وما يصبّه على المقروء من وعي وإدراك وتأويل وهو ماجسّده كتابه “في الشعرية” حيث تتردد أصداء فكر مدرسة كونستانس ونظرية الاستقبال، فتكون شعرية النص كامنة في الفجوة أو المسافة التي يخلقها بين كتابته وتلقّيه.

يتحدث أبوديب عن عملية متشابكة تحدث خلال القراءة النقدية أو (الإبداع النقدي) كما يسميه، حتى صار هدفه من دراساته “تأسيس شعريات جديدة تظل في حالة من التحول وتشكل فضاء إبداعياً تتشابك فيه بانتظام فوضوي أخّاذ شعريات الأبداع النقدي وشعريات الإبداع الشعري والسردي”. وبتدشين دعوة كهذه لنص إبداعي نقدي هو جزء من اشتباك أو تشابك فضائي مع إبداعات نصية أخرى، يتاح لذات كمال أبو ديب القارئة أن تظهر وبحضور كثيف، سواء بالطريق المعتاد في الخطاب النقدي، أي بحضور الذات كفاعل دلالي لفعل القراءة والمهيمن على الرؤية والموقف والمنهج، أو بالطريق المقترح من أبوديب، وهو ـ إضافة إلى الأول ـ الحضور الجثماني بالاسم وبالانطباع ومراقبة الذات والبوح بأسرارها أثناء الكتابة عبر تعليقاتها وتصحيحاتها، وحتى شطب ما تتفوه به، وإن ظل ذلك واضحاً للقارئ. وهو عمل ميتا ـ نقدي تراقب فيه اللغة الشارحة نفسها، وتستدرك على ملفوظاتها وتقطع وظيفتها الوصفية أو التفسيرية.

لقد خرج أبو ديب إذن من عباءة المنهجية الصارمة بنيويا ونموذجها اللغوي المغلق ليرى أن النص النقدي “هو أيضا نشاط إبداعي ذو علاقة معقدة بالعالم الذي ينتج فيه، وبالنصوص التي يقوم بدراستها... وحتى حين يبدو النقد مستغرقا في رصد ظواهر قد تبدو.. شكلية خالصة، فإنه يمارس عملية اكتناه تتجاوز مستوى الشكل.. إلى عالم الدلالات الغني الغائر الخفي، أو على الأقل هذا مسار الجهد الذي أقوم به شخصيا، والذي أسعى فيه إلى فهم الظواهر البنيوية في النص الأدبي، وعلاقته بالبنية الكلية للنص من جهة، وبالعالم الذي أُنتج فيه النص من جهة ثانية، ثم إلى فهم العلاقة المعقدة بين النص ذاته، من حيث هو بنية كلية، بالعالم”. ولعل هذا الهاجس الاكتناهي كان وراء بروز ثنائية الخفاء والتجلي في الكتاب، وإسناد الدور الميتافيزيقي للنص النقدي والشعري بالضرورة لأن الشعر هو أيضا كما يقول “فاعلية خلق ورؤيا متأصلة في الذات الإنسانية، واكتناه للحظة التوتر بين الإنسان والعالم”.

ويمثل خروج أبو ديب على النزعة الأكاديمية دعوةً لرفض العزلة المدرسية ولوازمها المتعالية، فكان أبوديب يعيش في القلب من حركة الحداثة العربية بتفاصيلها وموجاتها المتلاحقة، ومتابعته للمستجدات في الكتابة الشعرية العربية.

أما ملاطفاته واستطراداته ونقده الشارح واعتراضاته وإبدالاته المقترحة بين الأقواس وعلى الحواشي وهوامش الصفحات، فهي تجسيد لدعوته الآنفة لجعل النص النقدي متشظياً ممزقاً منشطراً مجنوناً، وفي تفسير آخر تمثل لي شخصيا تلك الملاطفات والاستدراكات (فوق ـ النصيّة) الشارحة محاولة لكسر غلاظة المتن النقدي وصلادته التي أسبغتها البنيوية عليه بلغتها الصارمة وآلياتها.

فعل الاكتناه نقديا

لقد كانت جدلية الخفاء والتجلي مقولة ـ لا عنوانا فحسب ـ لتوليد رؤيا نقدية قوامها فعل الاكتناه، التالي للاعتقاد بوجود بنيتين للنص الأدبي والشعري تحديدا، مادام أبوديب قد ظل في منطقة الشعر، تهمه منهما تلك العميقة التي لا تظهر إلا بالتحليل والاكتناه. هكذا صار هدف الكتاب كما تنص المقدمة هو “اكتناه جدلية الخفاء والتجلي وأسرار البنية العميقة وتحولاتها” مطورا بذلك ما جاء في النحو التوليدي التحويلي من تقسيم للبنية، وعلاقة كل من القسمين ببعضهما وتحولهما. ويمكن أن نعد أبوديب أيضا من أوائل من قرنوا النظرية البنيوية بالتطبيق، وصرح في المقدمة بأن الدراسات ذات طبيعة تطبيقية متذرعا بما لم نوافقه عليه من ان القارئ العربي سيخفق في فهم الجهاز النظري للبنيوية وإدراك قيمتها الثورية!، فكيف إذن سيدرك هذا القارئ التطبيقات والتحليلات التي سيقدمها الكاتب في ضوء النظرية التي تستعصي على الفهم؟ وكيف سيكون التعامل القادم للقارئ مع القصيدة كما لم يكن عليه قبل البنيوية إذا هو لم يدرك المحرّك الفاعل في التحولات النظرية وتجسيدها في النص النقدي؟ وهل سيكون الابتعاد عن الجانب النظري بإخفاء المراجع مثلا، وهو ما سنراه في كثير من أعمال أبو ديب، ومنها مسألة بنيتي القصيدة السطحية والعميقة مثلا والتي اخذت عن جومسكي دون تصريح من الكاتب، ومثلها استعارة مصطلح الفضاء الدلالي من موريس بلانشو دون نسبته إليه، وما مر بنا من مفهوم الشعرية وبأنها حسب تعبير أبوديب تكمن في الفجوة ـ مسافة التوتر. وهي من توصلات آيزر ومدرسة القراءة والتلقي، لكن أبوديب يهمش المرجع لأسفل صفحة من كتابه، زاعما أن أدونيس حدثه عن كتاب لآيزر في الشعرية والقراءة دون أن يطلع عليه. وإذا كان الجرجاني قد قاد أبوديب لاكتشاف العلاقات بين بنى النص الشعري فإنه يعترف في المقدمة بما وجد من علاقة بين فكر الجرجاني وسوسير حيث يقول “إن أهم أسس التراث اللغوي النابع من دو سسوسير هي جزء من التراث اللغوي العربي كما يتبلور في عمل ناقد فذ هو عبدالقاهر الجرجاني”، ولكن ذلك الحماس البنيوي والبحث عن آباء عرب للنظرية البنيوية لن يمنع أن تكون رؤية ابوديب النقدية مولفة تتجاوز الانضباط البنيوي لمؤثرات ما بعد الحداثة وتفريعاتها المنهجية ووقوعه تحت تأثير التفكيك ونظريات ديريدا حول السلطة والمركز، ثم تعديلات إدوارد سعيد على الصلة بين النص والعالم، والتي عني بها ابوديب حتى قبل نقله إلى العربية عددا من اعمال سعيد.

يفهم أبوديب التطبيقات والتحليلات بأبعد من مرماها المدرسي والنقدي العام، فكتابه عن الخفاء والتجلي ليس طموحا لفهم عدد محدد من الظواهر والنصوص رغم أن اختيارها منحاز لنظرية ابوديب ورؤياه، بل إلى ما يسميه “نقل الفكر من فكر تطغى عليه الجزئية والسطحية والوحدانية والشخصانية إلى فكر يترعرع في مناخ الرؤية المعقدة المتقصية الموضوعية والشمولية والجذرية أي إلى فكر بنيوي لا يقنع بإدراك الظواهر المعزولة بل يطمح إلى تحديد المكونات الأساسية للظواهر”.

عكس التيار

لقد لاقى عمل أبوديب منذ مقترحه في البنية الإيقاعية وفي جدلية الخفاء والتجلي عنتا كبيرا واستنكارا من اطراف بحثية وأكاديمية متعددة، وهو أمر متوقع في سياق التبشير بنبوءة منهجية ذات منظومة متكاملة عبر عنها المنهج البنيوي لا في النقد الأدبي فحسب، ولكن في فعل القراءة ذاته والتشكل النصي أولا. وكانت الدعوة المنهجية ولغة الدراسة وطرق التحليل هي ابرز ما هوجم من خلاله جهد ابوديب، رغم ما قدم للتراث الشعري العربي فكانت قصائد ابي نواس وابي تمام هنا جزءا من البحث عن ثنائية ما، ووصفها، وفي جهده اللاحق في قراءة القصيدة الجاهلية بمعايير بنيوية تكتشف العلاقات لتصل إلى البنى العميقة المختفية تحت المعمار الفني والهيكل البنائي للنص.

لقد كان جل ما قدمه أبوديب يهدف إلى هدم المراكز بشتى صورها خارج النص وداخله، والإفصاح عن الذات الناطقة في النص النقدي وحضورها الفاعل خلاصاً من الصوت الذي تمثله الجماعة كسلطة، وانهيار جماليات الوحدة والحلول الانصهاري لصالح جماليات التعدد والتشظي، واكتشاف الوشائج بين الفنون، وضرورة الحرية شرطا للكتابة. وتلك مطامح ما كان لها أن تمر دون معارضة، كونها تمثل موقفا ضد التيار السائد وعكس مجراه تماما، رغم ما شاب تجربة أبوديب من ارتدادات وتقاطعات لاسيما في طور حماسته التبشيرية بالبنيوية.



* عن الاتحاد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى