وداد سكاكيني - نهضة القصة في لبنان

كان من حظ لبنان أن هبت عليه ريح الثقافة اللاتينية بعد الحرب الكبرى، فدبت في أرجائه حياة أدبية جديدة نفخت في أبنائه روحاً طوحاً، فذاق المتعلمون منهم أطيب ثمار الآداب الفرنسية؛ ومنها فن القصة الذي كان له في نهضة فرنسا الحديثة تأثير كبير سايرها في شتى مناحي الحياة. وليس بغريب أن يسمو فن القصة في أمة ناهضة استيقظت على صرير الأقلام الحرة، فقد عرف قادتها في الرأي والتفكير كيف يشقون الدروب للموهوبين في القصة والأقصوصة فكرموهم اجمل تكريم وضمنوا لهم حياة راضية حفزتهم للإجادة بالتنافس، فتسابق البارعون منهم إلى المجامع العلمية والندوات الأدبية يرفعون إليها قصصهم لينالوا جوائزها المعدة للفائزين.

وأولى هذه الجوائز التي ظهرت في فرنسا اعترافاً بالسمو الأدبي جائزة غونكور، وما تزال موضع رجاء يتطلع إليه الأدباء بلهفة وإكبار. وقد تعد لديهم أعلى مكانة وأرفع قدراً من مقعد خالد في الأكاديمية. وهناك جائزة فمينا وميركورد وفرانس والشاعر مالارميه، كما أن المجمع الفرنسي يهب كل عام آلاف الفرنكات للمجيد في كتابه القصة.

ليس بعجيب كما أسلفت إذا كانت الأمة الفرنسية تعني وهي في أوج مجدها بالفن القصصي وتحذو حذو الروس لتمهيد السبيل لعباقرة الرواية الذين استطاعوا أن يخلقوا بفنهم الرفيع آفاقاً جميلة تعيش فيها جماعات وأفراد تترفع عن الإسفاف وتدنو من الكمال، إذ ليس مثل القصة وسيلة لسرور الأسرة ورفعة الوطن ورقي المجتمع. ويحق للقصة أن يسطع نجمها في الآداب العالمية لأنها اصدق مصور للحياة بأفراحها وأتراحها، تؤدي أغراض الإنسانية المنوعة على الوجه القريب الكامل، وتبث في النفوس ما ترمي إليه من أهداف وآراء بسهولة وإغراء.

ولقد تأثرت ناشئة لبنان في عهده الجديد بآداب الفرنسيس الطريفة فذاقوا حلاوتها، ونشقوا عبيرها، وكان من إقبالهم عليها وفهمهم إياها ما نراه اليوم من شغف ظاهر بفن القصة ومحاولات موفقة في إنشاءها وترجمتها، وتوجيهها إلى الصدق والإبداع.

إذن لم يشهد لبنان نهضة في الفن القصصي إلا منذ عهد غير بعيد لأنها في أدبه العر الحديث وليدة الأمس القريب، وكما يكون كل عمل في أوله غثاً وكل غيث قطراً، فكذلك ابتدأت القصة حياتها في لبنان، وكان أول من اطلع من أفقه شمسها في نهضتها الحديثة كرم ملحم كرم، فقد انشأ مجلته (ألف ليلة وليلة) لتكون عاملاً قوياً في بناء القصة العربية، فكان يزجي لقرائه كل أسبوع هدية أدبية إما من وضعه أو تعريبه، وما يزال هذا دأبه منذ عشرة أعوام ونيف، ولكنه برغم ما أوتي من موهبة فنية مرهفة ولسان عربي مبين لم يطبع قصصه الأسبوعية إلا قليلا بطابع الآداب الرفيعة، فقد دعته مساوقة اكثر القراء إلى أن ينزل بقصصه إلى مراتبهم ووفق متناولهم من ثقافة أو معرفة؛ وعذيره في ذلك أنه يقدم للمجموع ما يفهم ويرغب ويعود عليه بما يثبت قدمه في عمله الصحافي. فلو أن الحكومة اللبنانية تسير على غرار الحكومات في الغرب فتخصص الإعانات المالية والجوائز للكتاب الذين لهم في يقظة الشعب وتغذيته وإصلاحه أكبر الأثر كي يتوفروا على أعمالهم الأدبية ويخلوا إلى تجويدها والتفوق بها بسكينة واطمئنان للمعاش - لكان هذا الأديب زعيم القصة بلا منازع في نهضتها الحديثة بلبنان. بيد أن الأستاذ كرماً مع انهماكه بجهده المرهق الموزع بين الصحافة والأدب استطاع أن يخلد فنه القصصي في روايتيه (صرخة الألم) و (المصدور) وبعض أقاصيصه البارعة التي كفلت له منزلة القصصي العربي في عصرنا الحديث. على أن مجهوده في سبيل القصة بلبنان سيسجله تاريخ هذا الفن العريق بأحرف من نور. ولن ينسى فضله المنشئون المخلصون الذين عرفوا من تأليفه وتعريبه معنى القصة فسلكوا سبيله، بالاقتداء والاحتذاء، فكان له فضل البادئين السابقين إلى توجيه الفن القصصي اتجاهه الراهن.

وحين ملأ الأستاذ كرم أجواء لبنان وبيئاته بشذا رواياته قام نفر من نوابغ الكتاب ينشرون القصة والأقصوصة في معناها الحديث. وهذه الطائفة من الأدباء وفقت في محاولتها ففتحت في الأدب القصصي فتحاً مبيناً، إذ اتسع أفقه وتوفرت موضوعاته ورأينا من اجله حدباً عليه وتشجيعا لكتابه، فقد أقامت مجلة (الدهور) البيروتية مباراة للأقصوصة عام 934 فاز بجائزتها الكاتب فؤاد الشايب وهو من أدباء الشام الذين يملئون ما يكتبون بأدب الصراحة والحياة.

وفي العام الماضي تبرع الشاعر يوسف غصوب بجائزة للأقصوصة العربية في جريدة (المكشوف) اللبنانية تعزيزاً لهذا الفن الذي يقدره الشاعر وله فيه صور خالدة. وقد نالت جائزة غصوب كاتبة هذه السطور. وما انفك الأدب العربي في لبنان مولياً وجهه شطر القصة موالياً السير إلى الأمام بهمة المضطلعين بتسديد خطواته من الأعلام الغُيُر.

على أن من البر بالحقيقة ومن الواجب عليّ - خدمة للتاريخ - أن أذكر أديبين كان لهما اثر واضح في النهضة القصصية الجديدة، فقد كتبا الأقصوصة ببراعة وشجاعة فوفقا فيها وتهافت قراؤهم عليها، فاستحقا الشكر لدفعهما النشء العربي عن تلك الأقاصيص المبتذلة التي تنشرها الصحف التجارية لتسلية القراء ولهوهم.

لقد نوهت الأقلام في العامين الماضيين بقصص الأديب الموهوب توفيق يوسف عواد الذي أكب على كتابة الأقصوصة التي تمثل الطبقة الدنيا في المجتمع اللبناني، وكان الفن معواناً له على وصف البؤس العنيف الذي يفتك بأبناء الشوارع والصعاليك وذوي العاهات. غير انه يغلب على نسج قصصه الأسلوب الصحفي بحكم عمله اليومي. وقد نشر مجموعتين: (الصبي الأعرج) و (قميص الصوف) والأمل معقود بهذا الشاب، فان له شأناً في القصة اللبنانية. وأقول اللبنانية لان قصصه موسومة بكل ما هو لبناني إقليمي. وليس هذا بضائره فإن أكابر القصصيين في عصرنا يمتاز كل منهم بوصف ناحية من نواحي الحياة أو بدرس أطوار جماعة من الناس أو بتصوير الألوان المحلية في البيئة التي يعيش في جوها، ويتنفس هواءها ويرى نورها.

وبينما الناس معجبون بباكورة عواد القصصية أقبل عليهم أديب رفيع العماد هو خليل تقي الدين. لقد نشر قصصه العشر أو التسع على الأصح لان إحداها مترجمة لا موضوعة فرفع بأسلوبه المشرق وديباجته الأنيقة قدر الأقصوصة العربية، ورأينا في قصصه التي سلخها من صميم الحياة ما هو حري بأن يتخذ مثالاً للرواية الفنية الحديثة.

لا أعدو الحقيقة ولا أغلو إذا قلت إن هذه البوادر الطيبة كانت تباشير النهضة القصصية في لبنان ففيها الأمل كل الأمل بتقدمها وازدهارها. وكيف كان الأمر ليقظة القصة ونهضتها في لبنان، فإن مصر اليوم زعيمة القصة العربية، وهي السباقة في حلبتها والقدوة لغيرها، ولن ينزع منها زعامتها الأدبية هراء حاسد ولا حملة حاقد.

هذا قول عاجل. وسأعود قريباً إلى دراسة المؤلفات اللبنانية في القصص وتحليل مضامينها وألوانها.

وداد سكاكيني



مجلة الرسالة - العدد 235
بتاريخ: 03 - 01 - 1938

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى