إبراهيم أصلان ـ الرجل الذي عاد

قرأت مرة فى واحدة من صحفنا السيارة أن مواطنا عاد من العمل، وعندما اقترب من البيت رفع رأسه ووجد أن زوجته تطل من البلكونة شبه عارية، وأن عشيقها يقف إلى جوارها بملابسه الداخلية ويدخن السيجارة، وفى حينها، أسرع هذا المواطن إلى قسم الشرطة واشتكى.
أنا استغربت من المشهد وسويت عنه حكاية صغيرة تلبية لمطلب أحد الأصدقاء ونشرتها فى مجلة عربية. ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فالمواطن هذا راح يتبدى لى فى أشكال شتى ويخايلنى بين يوم وآخر ولا يغادر الذاكرة، أى أنه كان يرمقنى بجانب عينه، على حين غرة، وهو يعبر مطرقا فى انكسار من الناحية التى هنا إلى الناحية التى هناك. حينئذ أدركت أن الحكاية التى سويتها عنه لم تكن مرضية، بالنسبة له على الأقل، وأننى لو كنت عبرت عنها بصورة جيدة ما كان صادفنى سواء كنت واقفا عند الدولاب أو طالعا السلم أو حتى نازلا منه، فالتعبير الجيد عن أية حالة هو السبيل الوحيد لتجاوزها إلى غيرها.
هكذا فكرت أن أحاول سرد الحكاية بطريقة أخرى قد ترضيه، وفكرت أن المواطن فلان الفلانى عندما عاد من عمله قبل موعده اليومى بفترة ليست طويلة جدا، تمهل فى الناحية الأخرى من بيته الذى يتصدر الميدان الصغير، ثم ألهمته أرغفة العيش الطازج التى رآها على طاولة البقال الذى على الناصية، هكذا مال وانتقى عدة أرغفة دفع ثمنها وضمها إلى صدره قبل أن يرفع رأسه إلى بلكونته العالية، حيث رأى زوجته تميل من هناك مكشوفة الكتفين والذراعين، أما ساقاها البضتان فقد كان عريهما واضحا وراء شرائح الحديد فى سور البلكونة، وإلى جوارها يميل رجل لا يعرفه أبدا فى ثياب داخلية صغيرة وبيضاء، فى حين كان جلبابه المعروف منشورا هناك على الحبال الممتدة مثل الشاهد الصامت، وكانت زوجته تلتفت إلى الرجل وتتحدث متهللة والرجل يسمعها دونما اهتمام ويدخن.
وعلى الفور سمعت هذا المواطن وهو يتقدم نحو البيت ويصيح صارخا مما لفت الناس ولحقوا به نحو البيت وكلهم ينظر إلى أعلى وبعضهم يضرب كفا بكف ويرى الزوجة وهى تسرع بالدخول والرجل الذى فى ثيابه الداخلية يلحق بها ويغلق وراءه على عجل. ولكننى ما إن كتبت هذا الكلام حتى انتبهت، ونحن وسط الزحمة، إلى أننى عملت له فضيحة، الأمر الذى سوف يغضبه أكثر ويجعله يروح يخايلنى بين يوم وآخر ويرمقنى بجانب عينه، على حين غرة، وهو يعبر مطرقا فى انكسار من الناحية التى هنا إلى الناحية التى هناك. لذلك عدت وكتبت أننى رأيت، بدلا من سمعت، هذا المواطن وهو يقفز فورا إلى أعلى ويقول:
ــ حوش يا جدع. امسك.
ثم لاحظت أن قدميه لم تغادرا الأرض لما قفز كما أن صوته لم يطلع منه لما صرخ، هكذا لم ينتبه إليه أحد بل ظل واقفا عند البقال العجوز مثل مواطن مصدوم لا يفعل إلا أن يشرئب برأسه وهو يضم أرغفة العيش الطازج إلى صدره.
وهنا ثبتُّ الصورة وتركته واقفا هكذا لأننى فى ذلك الوقت لم أكن أعرف ما الذى عليه أن يفعله. وقمت اتجهت إلى المطبخ وأحضرت الكوب الزجاجى وأمسكت بالملعقة وفتحت العلبة ولقمته وأسقطت من علبة السكر الدايت الأبيض حبتين فوق الشاى الجاف الأسود ثم ضغطت زر السخان الكهربائى الذى أنا سعيد به بعدما أهلكت عدة عشرات من برادات الألومنيوم بسبب تركها بقية اليوم على نار البوتاجاز ورحت أتردد بين المطبخ والصالة حتى سمعت صوت الزر وهو يطق عائدا إلى موضعه، حينئذ صببت الشاى وغادرت المطبخ إلى الصالة وقعدت على الكنبة الطرية أشربه وأتفرج لماما على التليفزيون حتى انتهيت فكرت أن أقوم أغسل الكوب الفارغ ولكننى تركته على الطاولة وانتقلت للجلوس أمام الكمبيوتر حيث رأيت المواطن ما زال ثابتا فى مكانه كما تركته قبل الأحداث الأخيرة لا يفعل إلا أن يشرئب برأسه إلى أعلى ويضم أرغفة العيش الطازج إلى صدره ولا تطرف له عين.
فكرت أن أيسر ما يمكننى عمله أن أجعله يتراجع بهدوء ويغادر الميدان ينزوى فى ناصيته من الخارج ويسند ظهره إلى جدار قريب يلتقط أنفاسه وينشغل بالفرجة على الشارع حتى يتمالك نفسه ويتدبر أمره ويحسن التصرف فى هذا الموقف الطارئ.
تركته هكذا يستريح وخرجت إلى الصالة تناولت كوب الشاى الفارغ ودخلت المطبخ غسلته ووضعته مع بقية الأكواب وتلكأت قليلا ثم تفرجت وأنا واقف على الشوط الأخير من مباراة قوية جدا فى التنس بين اليوغسلافى المصنف الثالث عالميا والفنلندى المصنف الحادى والأربعين فى مدينة بازل السويسرية حيث يعيش صديقى جميل عطية إبراهيم، والمباراة حسمها اليوغسلافى بصعوبة بالغة لذلك عدت إلى الكمبيوتر وجلست ورأيت المواطن فلان الفلانى وهو ما زال ينزوى فى ناصية الميدان. وفى اللحظة التى جلست فيها كان تدبر أمره فعلا ورأى، وأنا أيضا، أن يتقدم بهدوء داخل الميدان من دون أن يرفع وجهه إلى البلكونة وكأنه مجرد مواطن عائد من العمل قبل موعده بقليل يضم عيشا طازجا إلى صدره وفاته أن يلقى نظرة على بلكونة شقته التى فى الأعلى.
كان المتوقع أن نطلع السلم سويا ويفتح باب الشقة بالمفتاح وأنا أتبعه لكى يباغتهما وننظر ما الذى يمليه الموقف وقتها.
وكلما كنت أتمهل على السلم حتى تهدأ أنفاسى لأنه كان أصغر منى سنا، طبعا، باعتبار أننى مهما تلفّت لم يعد يصادفنى إلا أعداد قليلة جدا ممن يكبروننى فى السن.
أقول إنه كان يسبقنى بعدة درجات وكلما تمهلت كان ينتظرنى ويلتفت إلىَّ من أعلى وقد ضم أرغفة العيش الطازج إلى صدره، وأثناء انتظارى كان ينتهز الفرصة ويفكر فى بلكونته والأوقات الطيبة التى طالما قضاها فيها يتفرج على الناس آخر النهار أو يشرب الشاى أو يضيع الوقت ويراقب نجوم الليل حتى تروح هى فى النوم ثم يدخل بهدوء وينام حينئذ تتملكه الرغبة فى نزول السلم مرة أخرى مباغتة أحد ولكننى كنت أسد عليه الطريق وأنا أتكئ بكفى على ركبتى المثنية على الدرجة التالية.
هكذا جرى الأمر حتى وصلنا الطابق الرابع ووجدنا باب شقته مفتوحا عن آخره. وهو سبقنى مترددا وأنا تبعته وسمعته يقول:
ــ سلام عليكم.
ومن فوق كتفه رأيت كيف أن زوجته تجلس فى الصالة بجلباب البيت الطويل المغلق تغطى رأسها ورقبتها بطرحة لها ألوان باهتة، وقبالتها من الناحية الأخرى كان رجلا فى منتصف العمر يرتدى قميصا وبنطلونا ويضم ركبتيه إلى بعضهما، وهذا الرجل قام واقفا وهو يقول مبتسما:
ــ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
والزوجة قالت وهى تشير بيدها:
ــ الأستاذ عباس. أخو منيرة. أم سامية.
والمواطن فلان الفلانى قال:
ــ أهلا وسهلا.
واستدار وضع أرغفة العيش على الطاولة الجانبية تحت الساعة البلاستيك المعلقة وزوجته أسرعت أحضرت الفوطة من ظهر المقعد وراحت تزيل له الردة التى خلفها العيش على صدره. والمواطن تابع يدها وهى تعمل فى تنظيفه ثم تعيد الفوطة إلى مكانها والتفت إلى شقيق الست منيرة الذى كان ما زال واقفا وقال وهو يجلس:
ــ اتفضل.
وجلس المواطن وكذلك الرجل الذى تناول الكوب وشرب ما تبقى من الشاى وقال:
ــ أستأذن أنا بقى؟
والزوجة قالت لزوجها إنه جاء يخبرها أن منيرة محجوزة فى المستشفى، ثم أكدت عليه وقالت لازم نزورها قريب.
والزوج قال:
ــ إن شاء الله.
والرجل ابتسم:
ــ أنا جيت مخصوص لأن نفسها تشوفك قبل ما يجرى لها حاجة.
كانوا وقفوا جميعا وأنا لاحظت أن جسد الزوجة من الخلف كان يمتلئ امتلاء محببا وهى تقول:
ــ كلها يومين ونروح نشوفها.
والرجل مد يده يصافحهما:
ــ على خيرة الله.
واتجه إلى الباب والزوجة تلاحقه:
ــ مش كنت اتغديت معانا؟
وقال:
ــ يجعله عامر.
وانصرف.
أغلقت هى الباب والتفتت سألته:
ــ جاى بدرى يعنى.
قال:
ــ يعنى
قالت:
ــ على العموم الغدا جاهز.
واتجهت إلى المطبخ بينما أسرع هو إلى باب البلكونة المغلق وفتحه ودخل. بحث عن جلبابه المعروف المنشور على الحبال الممتدة والذى رآه وهو تحت لكنه لم يجده، ونظر إلى أسفل ورأى الرجل الذى فى منتصف العمر وهو يبتعد بين الناس ويغادر الميدان ولاحظ أن مؤخرة رأسه خالية تماما من الشعر.
حينئذ تراجع إلى الصالة وأغلق باب البلكونة واتجه إلى حجرة النوم قلع هدومه وأخرج جلبابا من الدولاب وقبل أن يرتديه نظر فى المرآة ورأى نفسه هو الآخر بثيابه الداخلية البيضاء وخرج إلى الصالة.
كانت وضعت صينية عليها صحن من الكوسة المطبوخة بها قطعة لحم وإلى جوار هذا الصحن رغيفان سخنتهما على البوتاجاز ووضعتهما داخل كيس شفاف من البلاستيك، وعندما همس وهو يجلس:
ــ مش حتاكلى والا إيه؟
قالت فى أسى:
ــ حكاية منيرة سدّت نفسى. بيقولك اللهم احفظنا عندها المرض البطّال.
جلس يأكل وهو مشغول البال جدا ولا يعرف ما هو الشىء الذى يجب أن يفكر فيه الآن أو يستقر عليه.
أنا أيضا لم أكن أعرف.
ولكنه توجه بالسؤال إلى نفسه بينما يمضغ وقال:
ـ طيب لو كانا هما اللذان فى البلكونة أين ذهب الجلباب المنشور؟ وهل شعرا بحضوره وهما يقفان فى البلكونة ولحقا غيّرا هدومهما وعادا يفتحان باب الشقة ويجلسان يشربان الشاى هكذا مع أنه لم يقض وقتا طويلا وهو يستريح عند ناصية الميدان؟، وفكر مرة أخرى قائلا:
ــ هل من رآهما كانا فى بلكونة طابق آخر غير بلكونة الطابق الرابع التى هى بلكونته؟ وشعر بالحسرة أنه لم يعدّ الأدوار بدقة وهو تحت، وقال إن هذه هى غلطته، ثم ابتلع ما مضغه وكرر متمهلا بينه وبين نفسه:
ــ «فعلا. هى دى غلطة عمرى».
وقام غسل يديه وجففهما وعاد وجدها وضعت الصينية المعدنية بينهما على الطاولة الصغيرة وراحا يشربان الشاى ويتكلمان على الكنبة، وأنا تركت الحياة تسير بينهما مثل أى حياة متوقعة، إلا أن هذا لم يمنع أنه فى بعض الأيام، خصوصا عندما كان يراها تتربع على الكنبة فى ضوء الشباك وقد عرَّت ركبتيها وبان شىء داخلى من لحمها العارى ترفع قطعة المرآة المكسورة أمام وجهها بينما تمسك الملقاط الصغير بين إصبعيها تنتف جذور الشعر من تحت حاجبها المقوس بعناية، أو عندما كان يلاحظ امتلاء جسدها من الخلف وهى تخطر أمامه فى الصالة، عندما كان يحدث شىء من هذه الأشياء وربما أشياء أخرى قليلة، لم يكن يملك إلا أن يقضى الفترة القادمة يغلبه القلق سواء كان يشرب الشاى أو لا يشربه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى