سناء صليحة - القاهرة.. قراءات في فضاءات المكان ومدارات الزمان

السفر لا يعني مجرد الارتحال من مكان لآخر أو قطع المسافات فقط، بل أيضاً قد يعني الارتحال في الزمان، عبارة خانتني الذاكرة فلم أستطع أن أتذكر من قائلها أو أين قرأتها، وإن غلب علي ظني أنني سمعتها من الناقدة د. نهاد صليحة في معرض حديثها عن تجربتها في السفر مع فرق الثقافة الجماهيرية المسرحية في محافظات الوادي.
أيا ما كان الأمر فقد ظلت الفكرة تلاحقني طوال الأسبوع الماضي وتتقافز أمام عيني مع تكرار التعرض لفضاءات القاهرة عبر العصور من خلال مجموعة من الأحداث الثقافية بدءًا من حكايات عمارة الأسبلة في القاهرة مرورا بمحاضرة د. سامية محرز التي جاءت تحت عنوان "خطط القاهرة : تمثيل المدينة في الأدب العربي الحديث" وعرضت فيها لبعض ما جاء في كتابها أطلس القاهرة الأدبي، واحتفالية القاهرة ـ الجمال فضاء لحوار الثقافات ـ التي تقام في نهاية الشهر وانتهاءً بالأمسية التي عقدها المنتدي الثقافي النمساوي والمركز الثقافي المصري الألماني حول الحب والحياة في مصر الأمس واليوم من منظور نساء نمساويات وألمانيات. فعبر الفاعليات الثقافية السابق ذكرها يمكن للمرء أن يكتشف فضاءات القاهرة وأزمنتها المتعددة عبر شذرات وحكايات متنوعة وربما متضادة، لكنها في النهاية تمثل في مجموعها حالة تفاعل بين أماكن وأزمنة متناقضة، وأن تم تحديدها في نطاق مساحة مكانية وزمنية واحدة، وبين مجموعة بعينها من البشر، لتصبح القاهرة الراوية والبطل ومحور الحدث بل ومحركه وليبدو الحدث و كأنه ما كان له أن يحدث أو أن يتشكل أو يمضي في نفس المسار في أي مكان آخر.
ورغم أن القاهرة كانت موضع اهتمام الرحالة والباحثين علي مر العصور، إلا أنه من الملاحظ أن السنوات الأخيرة قد شهدت تزايداً ملحوظا في الدراسات التي تناولت كافة جوانب الحياة في مدينة الألف مئذنة سواء عمرانياً أم اجتماعيا أو ثقافيا، ربما كمحاولة لاستعادة ذاكرة مكان وحفظها أو محاولة فهم واستيعاب المتغيرات السريعة التي طرأت علي المدينة والتحولات التي طرأت علي أهلها. في هذا الإطار ظهر أكثر من كتاب دراسة من بينها ترجمة د. مي عبدالكريم لكتاب جيرار. جورج لومير المقاهي الأدبية من القاهرة إلي باريس وكتاب الأمريكية جي ويلسون القاهرة وكتابي القاهرة شوارع وحكايات وكتاب قهاوي الأدب والفن في القاهرة لعبدالمنعم شميس الذي عرض فيه للمقاهي القديمة في القاهرة التي كانت منتديات أدبية وسياسية وفنية، وكتاب محمد سيد كيلاني ترام القاهرة الذي رصد من خلاله أحوال القاهرة وسكانها وحدد عددهم وعدد البيوت والجوامع واعتماد أهل المحروسة علي مياه الآبار والصهاريج والسقائين في الفترة ما بين 1892 و1896 التي أطلق عليها القاهرة قبيل عصر الترام، ثم قارنها بدخول القاهرة عصر الترام والثورة التي شهدتها العاصمة آنذاك وتمثلت في الرواج التجاري وتحول العتبة الخضراء لمركز تجاري وانتشار المسارح وصالات الرقص. وقد عرض الكيلاني لمتغيرات العلاقات الاجتماعية في القاهرة بعد أن سهل الترام الانتقال بين أحيائها وظهور ما يسمي الأدب الترامي. أما أحدث ما صدر في هذا السياق فهو دراسة د. العربي أحمد رجب عن تاريخ شارع محمد علي ودراسة د. سامية محرز أطلس القاهرة الأدبي الذي تعرض من خلال فصوله صورة القاهرة ووجوهها المتعددة والمتغيرات التي ألمت بها عبر عيون عدد من المبدعين المصريين والعرب بالعربية والفرنسية والإنجليزية في القرنين العشرين والحادي والعشرين. فمن خلال تحليل نصوص 56 كاتباً ينتمون إلي أجيال وخلفيات ثقافية واجتماعية ودينية مختلفة منهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وألبير قصيري، وإسماعيل ولي الدين وغيرهم وصولاً إلي سلوي بكر ونعيم صبري وسحر الموجي ومي خالد وحمدي أبو جليل ومصطفي ذكري وغادة عبدالعال وآخرين، قدمت د. محرز معالم المدينة بكل دلالتها التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية والرمزية ورصدت تغير ملامحها عبر سطور أجيال المبدعين، وتحول صورتها الهادئة الواعدة التي قدمها الأدباء في مطلع القرن العشرين لصور كابوسية في قاع مدينة يوسف إدريس ولعوالم منقسمة مرعبة في أعمال الكتاب الجدد. وعلي امتداد فصول الدراسة حرصت د. محرز علي توضيح الرابطة بين جغرافية المكان الخاصة والعامة وبين حيوات البشر ولغة الكتابة وبنية الرواية، فأرخت أدبياً للشوارع والأزقة والبيوت والقصور والعشش والمقاهي والفنادق والأحياء الجديدة المغلقة، وأنعشت ذاكرة قارئها لاستعادة سطور وصور توارت في طي النسيان وأن لم تشر إليها، مثل جنينة ناميش يوسف السباعي وأزقة السيدة زينب وحلقة سباق مصر الجديدة وعربة حريم رشاد رشدي وغيرها، واستثارت فضوله لإعادة اكتشاف الكثير من الكتاب وقراءة العديد من الأعمال الروائية من منظور جديد.
وتأتي أمسية الحب والحياة في مصر الأمس واليوم من منظور نساء نمساويات وألمانيات لتضع المزيد من الرتوش لتكتمل بقايا الصورة وتكشف بعضا من نثار اللحظات وروح الأماكن، الظاهر المرئي منها والكامن المتواري فيها ولتقدم اطلالة علي الحياة وعلي زمن كامل وواقع تواري واندثر.
فعلي مدي ما يقرب من الساعات الثلاث التي قدم فيها د. طارق عبدالباري ترجمته لكتاب "ثلاثة رجال" للكاتب فالتر جروند، والذي يعرض لحياة جويدان هانم في فينا ثم انتقالها لبلاط الخديو عباس في مصر أوائل القرن الماضي، والتي قدمت فيها الكاتبة إيديت بيندرهوفر كتابها "ساعة سليمان نساء أوروبيات في الشرق" الذي تناولت فيه ذكريات نساء نمساويات وأوروبيات استوطن مصر بسبب الحب أو الزواج أو لأسباب أخري، وعبر الانتقالات السريعة والمشاهد القصيرة المتلاحقة ما بين مقاهي الأدب ومسارح ومقاهي فيينا وحياة البلاط الملكي في مصر وحكايات الحرملك في بداية القرن العشرين، وبين تجارب سيدات أجنبيات عشن الحياة اليومية في مصر وخالطن طبقات المجتمع المصري المختلفة في الريف والحضر، وفي مختلف أحياء القاهرة في النصف الثاني من القرن العشرين، تتكشف التفاصيل الصغيرة والمناطق الغامضة التي ربما تكون قد تلاشت من الذاكرة الواعية, وإن بقيت في المناطق المعتمة أو الرمادية من ذاكرة المدينة وأهلها لتكون المحصلة النهائية لكل ما سبق رصده في السطور السابقة مجموعة تداعيات تبلورت في فضاء اختلطت فيه الملامح والأماكن، فأصبحت شبه همزة وصل بين الماضي والحاضر وقدمت قراءات جديدة لتاريخ القاهرة عبر أسماء وكلمات ومعمار وذكريات وهواجس ورؤي، ربما تكشف دلالاته وامتدادته الآنية..

* المصدر: الأهرام اليومى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى