عواد علي - جماليات المكان

افتتحت مجلة “الأقلام” العراقية عام 1980 سلسلة كتبها الدورية بكتاب “جماليات المكان”، لغاستون باشلار، ترجمه الروائي الأردني غالب هلسا، فكان صدوره حدثا ثقافيا احتفى به الأدباء والكتّاب والمثقفون بشكل عام. وقد شكّل لي شخصيا مرجعا مهمّا في مقارباتي النقدية للأعمال المسرحية (نصوصا وعروضا) كون المكان، أو الفضاء عموما، مثل مكونا أساسيا فيها.

يبحث باشلار في تحديد القيمة الإنسانية لأنواع المكان الذي يمكننا الإمساك به، والدفاع عنه ضد القوى المعادية، أي المكان الذي نحبه، ذاهبا إلى أن المكان الذي ينجذب إلى الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ذا أبعاد هندسية فحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيّز، فالخيال يتخيل ويغني نفسه دون توقف بالصور الجديدة. ويتحدث عن البيت وسماته ورمزيته، مبيّنا أن كل الأمكنة المأهولة تحمل جوهر فكرة البيت، ويعتبره كونا حقيقيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالإنسان يختلق لنفسه بيتا، ويصمم له جدرانا ويعيش تجربة البيت بكل واقعيتها وحقيقتها من خلال الأفكار والأحلام.

النقطة الأساسية التي انطلق منها باشلار هي أن البيت القديم، بيت الطفولة، هو مكان الألفة ومركز تكييف الخيال، وعندما نبتعد عنه نظل دائما نستعيد ذكراه ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية، ذلك الإحساس بالحماية والأمن اللذين كان يوفرهما لنا البيت، فالبيت القديم يركز الوجود داخل حدود تمنح الحماية، ونحن نعيش لحظات البيت من خلال الأدراج والصناديق والخزائن، التي يسميها باشلار “بيت الأشياء”. العش يبعث إحساسنا بالبيت لأنه يجعلنا نضع أنفسنا في أصل منبع الثقة بالعالم. وانطلاقا من تذكّر بيت الطفولة تتخذ صفات المكان وملامحه طابعا ذاتيا، وينتفي بعدها الهندسي.

إن المكانية في الأدب هي الصورة الفنية التي تذكرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة. ويقول باشلار “لو طلِب إليَ أن أذكر الفائدة الرئيسية للبيت لقلت إن البيت يحمي أحلام اليقظة والحلم، ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء”. ونظرا إلى أن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة، فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة، أي أن البيت يمكن اعتباره واحدا من أهم العوامل التي تدمج أفكار الإنسان وذكرياته وأحلامه.

ويرى باشلار أنه لا يوجد في دراسة الخيال موضوع دون ذات، بل إن الخيال خيال، نسبة إلى المكان، يلغي موضوعية الظاهرة المكانية، أي كونها ظاهرة هندسية، وتحل مكانها ديناميته الخاصة، المفارقة، وعندما يتحول الخيال إلى شعر فهو يلغي السببية ليحل مكانها “التسامي المحض”. وميّز باشلار بين نوعين من الخيال “الخيال الشكلي” و”الخيال المادي”، وكلاهما فاعل في الطبيعة وفي العقل الإنساني.

ففي الطبيعة يخلق الخيال الشكلي كل الجمال غير الضروري داخل الطبيعة، مثل الأزهار، في حين أن الخيال المادي يهدف إلى عكس ذلك، حيث يسهم في إنتاج ما هو بدائي وخالد في الوجود. وفي داخل العقل الإنساني يكون الخيال الشكلي مغرما بالطرافة والجمال الفاتن وبالتنوع وبالمفاجأة في الأحداث، بينما يتركز الخيال المادي على عناصر الديمومة في الأشياء. فمن دون البيت يصبح الإنسان كائنا مفتتا، إذ أنه يحفظه من عواصف السماء وأهوال الأرض.

وبعد أكثر من عقدين على صدور كتاب باشلار هذا، وجه نقد شديد إلى غالب هلسا لأنه أشاع مصطلح “المكان” بدلا من “الفضاء”، وعدّ البعض من النقاد والدارسين العرب، خاصة المغاربة، استخدامه لمصطلح “المكان” حالة من الالتباس القصوى التي اقترفها في البداية، بل جناية لم تتوقف حتى الآن، حيث ظل يخلط بين مفهوم “الفضاء” ومفهوم “المكان”، رغم أن الفضاء يختلف عن المكان، بحسب رأي هؤلاء النقاد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى