عز الدين المناصرة - تُقبل التعازي في أيّ منفى..

* مهداة ﺇﻟﻰ هيد الروائي، غسّان كنفاني استشهد في بيروت، بتاريخ (8/7/1972).


لماذا إذا الوجهُ منكَ انحنى
نبيعُ الدموعَ لساقي الهُمومْ
وما زلتَ ﻓﻲ دمنا الصوتَ والسهلَ والمُنحنى
عَتابا، خلعنا من الأرض، أحرُفَها الغارقهْ
سَلاسلَ مبنيَّةً من شهيقِ سواعدنا ﻓﻲ الكرومْ
غيوماً تلاحقنا ﻓﻲ الغيومْ.
لماذا إذا الوجهُ منكَ تناثرَ كالعُمْر من قمّةٍ شاهقه
لماذا إذا جارَ هذا الزمان علينا،

وصارت نوافذنا مغلقة
نؤذّن ﻓﻲ المؤمنين،
وأوجهُنا ﻓﻲ الرمالِ، وأدمُعنا كاللظى مُحرقه؟!!
وآذانُنا بانتظارِ الذي سيدُقُّ النوافذ عند المساءْ.
لقد عبروا يا أﺑﻲ،
ليعتقلوا غيرنا
نؤذنُ ﻓﻲ جرَّة الخوفِ، نرضعُ أطفالنا من نهودِ الجبالِ
ونرتقبُ السفنَ المارقةْ
تنادين،… بيروتُ تُعلنُ: كنعانُ مات،
فنكتمُأدمعنا ﻓﻲ العيونْ
لأنَّ الشوارعَ قد ملأتْها العيونْ
وبيروتُ تعلنُ كنعانُ مات، فيا ﻣﻨﺰﻻًﻓﻲ المنافي ابتدا
لقد أشعلوا النارَ ﻓﻲ جسد الطفل – ويلَ العِدا
إذا ما رفضنا الرحيلْ
حَبَسْنا الدموعَ، وقلنا: يجيء الزمانُ الجميلْ
وتبقين يا (أُمَّ سَعْدٍ)،(1)
وتبقينَ يا نجمةً ﻓﻲ الضبابْ
تظلّين مغروزةً ﻓﻲ تراب النُجوعْ.
لكنعان تبكي طيورُ الندى
لحصّادةٍ خلفَ منجلها ﻓﻲ البقيعْ
تغنّي إذا ذابَ صوتُ الصدَى:
– لقد نمتَ ﻓﻲ الشمسِ والشمسُ تحرقُ فرسانَ هذا الضبابْ
وكنعانُ يا صُحبتي، وردَ الموتَ قبلَ هطولِ السحاب.
لقد كان برقاً يثورُ، فيُنجب رعداً، فتبكي الغيومُ، وتبكي السماءْ
وما كان كنعانُ، إلاّ حنينَ المُحبِّ لأحبابه الفقراء
وما كان إلاّ صهيل خيولِ الجزيرة، تشتاقُ للبحرِ،
والبحرُ صارَ بعيداً وأهلك كنعانُ – قد عُرضوا للشراءْ
فيا دارها خلفَ أسوارِ عكّا، إذا ما نما العشبُ فوقَ السطوحْ
ويا مطرَ الساحلِ المستغيث بنا،لا تَقُل للأحبَّة،هذا المُحبّ ينوحْ!!!
وما ماتَ يومُ الذي مات، لكنّهم قتلوهُ هنا قبلَ عامٍ ثقيلْ
ويا ليتني ما صرختُ: الخليلْ
على بُعد مترين منّي، ولكنها ﻓﻲ البعيدِ البعيدِالبعيدْ
تزايدَ ﻟﻲ هجرُها من جديدْ.
أقولُ، وقد كسروا عودكَ الأخضرَ المستقيمْ
أقولُ، وقد غرزوا ﻓﻲ عيونكَ قبراً جديداً… وقبراً قديمْ
تظلّين مثلَ اليمامةِ تبكين قبراً جديداً… وقبراً قديمْ
تظلّين يا أمَّنا… والنِصالُ تكسَّرنَ فوقَ النِصالْ
خيامَ السماء، وبوصلةً ﻓﻲ ضبابِ سَدومْ
تظلّين فوقَ الأعالي نجوماً ومَلحاً بعينِ الحسودِ اللئيمْ
تظلين فوقَ الذي فوق، يا قُرَّةَ العينِ،
يا أُمَّ هذي الجيوشْ.
إنِ اشتقتِ يوماً لقبرِ حبيبكِ، مُرّي به ﻓﻲ الصباحْ
وصُبّي عليه من الدمعِ، صُبّي من الدمعِ فوقَ الترابِ،
مُصابكِ فوقَ الذي نستطيعْ
ستخرجُ عكّا ﺇﻟﻰ السهل، رافعةً كفَّها للسماءْ.
ألا من رأى وجهَ كنعان، ﻓﻲ أيّ منفى، نقيم العزاءْ؟!!
نقيمُ العزاءَ على التلّ، ﻓﻲ النهرِ، ﻓﻲ جبلٍ من رجوعْ
نقيم العزاءُ أمام سُرادقِ هذا البقيعْ
ﻭﻓﻲ أيّ منفى… نقيم العزاء.
لماذا إذا الوجهُ منكَ انحنى
نبيع الدموعَ لساقي السرابْ
وما زلتَ ﻓﻲ دمنا السهلَ والصوتَ والمنحنى
وما زلتَ.. ما زلتَ خفقةَ أجنحةِ الشعراءِ الغِضابْ
وما زلتَ كنعانُ أرجوحةَ الميجنا.


عمّان، 1972



(1) أُمّ سعد: إحدى شخصيات رواية لغسّان كنفاني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى