سمير الشريف - نُص شنب

وقف أمام المرآة يتعمق تفاصيل وجهه الذي حرثته الأيام..
لم يستوقفه مظهره و غضون وجهه و تسريحة شعره التي زحف عليها الصلع ، لم يعد يلقي بالا لمثل هذه الترهات..
تركز اهتمامه على شاربه المتهدل كغصن دالية الحوش التي لم يطالها التقليم ، والمتمدد بشموخ فوق شفتين متغضنتين تميلان للزرقة ووجه يضج أسىً على ماض لن يعود.
أمسك نهاية شاربة بأطراف أصابعه ، راهن على جزئه الثاني ، كم كان واثقا من نفسه وهو يستمع بامتلاء لنشرة الأخبار التي تتوعد الغزاة،

وكم ملأته الفرحة وهو يمعن في الأرتال التي ستدك أوكارهم ،وتجعل العودة لمرابع الطفولة قاب قوسين . تذكر بغصة آخر مرة مسد فيها شاربة قبل أن يخسر الرهان أمام رفاق المقهى ،الذين هزءوا بتحليلاته أن العدوان لن يتم، والحشود مجرد تكتيكات متفق عليها.

كم كان ساذجا عندما أمسك شاربه معلنا انه لن يتوانى عن قص نصفه ورميه في حاوية القمامة إذا ما حدثت معركة. هل يعيدها اليوم ويراهن على نصف شاربه الآخر ؟


هل يصدق مذيعي الأخبار الذين تشترك حكوماتهم بالحرب في الإعلام ، و يتفرجون على الدماء والأشلاء والهدم ؟

يركب رأسه معاندا من يقول أن من يراهن عليهم لن يحركوا ساكنا، وأن جبهتهم ستظل آمنة والعدو على طرفها نائم ، خدعه الإعلام كالعادة، فهل هو غير مؤمن حتى يُخدع مرتين؟ لا يعقل أن تظل أبواق الحرب مفتوحة ولا يتحرك طائر هناك .


يتنافخون بهم القضية ، يذيقون الناس الآم شظف العيش بدعوى التهيئة للحرب. ما زال غضا على فهم متاهات المصالح ولعبة الممكن والمستحيل ، ما الذي يجعل منه ساذجا حد البلاهة، وهو يطلق سمعه لمثل تلك الأكاذيب مراهنا على ورقة خاسرة، طار بسببها نصف شاربه الآخر؟ تذكر أطنان الشعارات، أشاح بوجهه عن المرآة، متجاهلا صراخ إذاعات العروبة وصخرات الصمود وخنادق التصدي ووووو.


مر بذاكرته شريط الحروب ... الهروب الكبير ... قصف المطارات ... عبور جسر الآلام ...سخرية الرفاق ...نصائحهم المجانية..

إصراره أن الجماعة منشغلون بتهيئة السلاح والجبهة الداخلية ، فالأمر ليس نزهة ومشوار قصير. يصر على أن الأمر تكتيك وتوازنات وليس تخاذلا، والأمر محسوم بنهايته التي لا بد لجيش الصمود من التحرك تجاهها وفي الوقت المحدد. دماء المستضعفين هيجت عواطف الجميع ، حتى الأعداء، إذاعة التصدي، ظلت ترجم الجبهة عبر أثيرها بتحريضات لا تساوي المداد الذي كتبت به. ظل يتساءل في نفسه مكابرا: الى متى تظل نخوة هؤلاء نائمة ولا تستيقظ من سباتها الذي طال ، إن لم يكن الآن فمتى؟ كم أصبح دمنا رخيصا ،وكم عذبته جثث الأطفال تحت الأنقاض ..


كم تألم من مناظر الخراب وكم تمنى لو قاتل لحظة يعيد فيها توازنه النفسي، فالحياة موقف . تذكر كيف قاتل الإنجليز ،وكيف كان من أوائل المتطوعين في جيش الإنقاذ ، و شارك في صد العدوان الثلاثي، و من القلائل الذين لم ينسحبوا في الخامس من حزيران. يقف أمام مرآته مشروخة السطح، يحلق نصف شاربه وينضم إلى طابور أنصاف الرجال ..


أمسك موسى الحلاقة ... نظر إلى نفسه من جديد، غسلته موجة ارتياح.... هو لا يستحق هذا الشارب ، قانعا بنصف رجولة على تحمّل تأنيب الضمير.

لملم شعيرات شاربه ، فكر: أين يذهب بها!!

هل يرسلها بالبريد المضمون للقائد العام ، أم لمدير الإذاعة..

منعا لأي إحراج قد يَلحق بأنصاف الرجال؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى