عبد الرزّاق بوتمزّار - أحلام "السّيد ب." وحديقةُ جيرانه الرائعين

يصحو من نومه، في العادة، على أصوات شغبهم في الحديقة. يكون الوقتُ متأخرا، لكنْ ليس بالنسبة إليه. يلعن، بلؤم طفوليّ، ودون كلمات في الغالب، ضجيجهم الذي حرمه مما كان فيه. يُطلّ عليهم، أحيانا، متثائبا، ثم يؤوب بسرعة إلى مرقده. بالنسبة إليه الساعات الأولى من الصّباح تابعةٌ لليل؛ وكم يكره أن يزعجه أحدٌ في الليل. طيفها يكون معه حين ينام وليس في اليقظة. يملأ عليه كل ركن في الدار والحديقة والشارع والحيّ وسماءَ الأفق. في العادة، إذا فتح النافذة صباحاً فلِكي يطلبَ من أحدهم الكفّ عن الصراخ أو القهقهة. يعطي أمراً مباشرا، في العادة: "وا ضحكْ غيرْ بشوية، ألسي عبّاسْ، راه الصّباحْ هادا زْعمَا. خْلّي ما تْضحك غدّا!".. ثم يغلق درفتي النافذة. الجيران الطيبون ألِفوا عادات جارهم الطيب "السّيد ب." ولم تعدْ تدهشهم أو تستفزّهم. أحياناً قليلة، يُوجّه لهم تحية الصباح. لكنه في الآونة الأخيرة لم يعد يترك لهم حتى فرصةَ الرد عليه. طرأ عليه تغيّرٌ ملحوظ بعد رحيلها. جيرانه الطيبون يعُدّونه تغيّراً غريباً، لكنه لم يعد مثيراً للقلق لدى معظمهم الآن. يغلق النافذة ويعود، متوترا، إلى سريره.
سيحاول ملاحقة آخر مشهد في حلمه. ساعات الصّباح الأولى ليليةٌ في عرفه. وفي ليل "السّيد ب." شخصٌ واحد، معنى واحد، حياة واحدة: هْنيّة. لكنْ عبثاً، يحاول أن يقبض على تفاصيل الحلم ليواصل رحلته الممتعة معها في الهناك. قد فاتته الفرصة. باستيقاظه، يتجدد الرحيل. تتركه في الحلم بعد أن تركته في الواقع. حتى في الحلم يأبى القدَر إلا أن يواصل تجريعَ البعضِ طعمَ الخسارات! يخاطب نفسه، وحيدا، قاسيا في تشفّيه من نفسه. قد تبخّر الحلم، يبدأ الواقع؛ و"السّيد ب." لا يحب الواقع. لمزيد من الدقة، يمكن القول إنه لا يحبه ولا يكرهه، هو لم يعد يشعر به، لا يعيش فيه. بعد رحيلها صار يتمنى أن يمتدّ به الليل ويمتد. ما مِن معنى بقي للنهار بعدما رحلت هْنية عن حديقة أحلامه. وحده الليل سيد زمانه ومكانه. جيرانه الطيبون يعرفون ذلك ولم يعودوا ينزعجون من كلامه. يواصلون تمضية يومهم سعداءَ يضحكون، كما بدأوا نهارهم. لا يهمّهم شيء بقدْر ما يهُمّهم أن يعيشوا اليوم كأنه منفصل عن دورة الزمن، بماضيه ومستقبله. مرارا، تجنّبوا الرد عليه. يواصلون جولات اللعب وتبادل التعليقات والمقالب، في أجواء مرَح طفولية. يقال إن عقول الناس حين يكبرون ترجع صغيرة، مثل عقول الأطفال. أرواحهم، أيضاً، تستعيد عافية الطفولة وعفويتها. أطفالاً رائعين كان يراهم "السّيد ب."، لولا أنهم يبالغون، أحياناً، في مزاح أو جدال فتوقظه أصواتهم المرتفعة.
في ذلك الصباح، وحلمُ ليله متواصل، صفعه ذاك الردّ القاسي قبل أن يغلق دونهم النافذة. قليلون فعلوها من قبل، وكان دورَ جاره الطيّب "ج." هذه المرّة. استطاع أن يُسمعه ردّه الجاف، الذي لامه عليه كثيرون من جلسائه، الطيبين، لاحقاً. بل كان منهم أيضا مَن وبّخوه على فعلته. هْنيّة كانت تمثل لـ"السيد ب." كلّ الدنيا، كلّ شيء. لكنها رحلت الآن. كلهم يعرفون ذلك، إلا هو، يرفض مجاراتهم. هْنيّة لم تتركه. ما زالت تسكن معه، تسكن فيه. هي في كل مكان؛ هي كل المكان. هي معه في كل لحظة؛ هي كل اللحظات. يراها وهي توقظه برفق صباحاً، وابتسامتُها الفريدة تخترق أرجاء الغرفة، فيما أشعة الشمس تتعثر خجلاً أمام إشعاع رونقها. جمالها يُخجل ضياء الصباحات المشمسة، بكامل ألقها. يراها وهي تتلذذ بكوب القهوة بالحليب، وقد انعكست صورتها في الزجاجة القريبة. هو مكانها المفضل الدائم. وهو يحبّ رؤيتها هناك كلّ يوم بشغف أكبر. حدَّ الإدمان صار يحبّ رؤيتها هناك، في أمكنتها المفضَّلة. ثم يراها وهي تتابع متاهات سطورها التي لا تنتهي في البلكونة، محاولةً القبض على اللحظةِ المفتاح في رواية جديدة. مكانها المفضّل الدائم للجلوس بعد رفع مائدة الإفطار. في زهرات الغْنباز ترتسم صورتها وقد عكستها الأشعّة اللذيذة المتسرّبة من خلف الستارة الشّفيفة. محاطةً برائحة الحبق، مغتسلةً بمياه السعادة. يهفو إليها ويقترب متوددا. كم يحبّ رؤيتها تتجسد أمامه، في أمكنتها المفضّلة. تشتبك يداهما تتلاحم الروحان، في لوحة رومانسية تتكرر كل يوم. كلّ يوم يحب رؤيتها هناك بشغف أكبر. صورتها انحفرتْ في كل شبر من البيت الدافئ وفي كل ركن من ثنايا الذاكرة.
لكنّ هْنيّة رحلت الآن.. جيرانه الطيبون يعرفون ذلك، لكنّ "السّيد ب." ظل الوحيد غيرَ المقتنع بأنها قد رحلت فعلا وبأنّ ما يعيش الآن مُجرّد ذكراها. "هذه الحديقة ما كانت لتوجد لولاها؛ من أجل هْنيّة زُرعت أول وردة في هذه الجنّة التي ترون. كان هذا الحي قفراً إلا من حديد وإسمنت مسلّح. بفضل حُبه لها نبتت أول غْنبازة هنا... ما زلتُ أرى ذلك الفرَح في عينيها. نطّتْ مثل طفلة فرِحة وقبّلتْني من هذا الخد وهذا وعانقتني بقوة. لم تُصدّق أنني أفلحتُ في تحويل هذا القفر إلى واحة خضراءَ من أجل عينيها. كنّا أولَ من سكن هذا الحي؛ لم تكن فيه غير هذه الجدران الكئيبة. أنا من زرعتُ الورود والأشجار ومن كل الشتلات، لكنْ قليلُكم يذكرون. والآن تريدون أن تقتلوها. هي حيّة ولن تموت، هْنيتي!".. يقول لأحدهم، أحياناً، مذكّراً إياه وقد ضاق بتلميحاته إلى ضرورة التسليم برحيلها الأبدي. انقطع عن اجتماعاتهم بعد أن أجمعوا على رحيلها. لن تقتلوها. سجن نفسه بين الجدران. اختار نفيَ نفسه في جزيرة الذكريات. صار الحلمُ ملاذَه الوحيد. لم تعد تعني له شيئا أشجارُ الحديقة وأزهارها، بل صارت تؤلمه رؤيتها، رؤية أي شيء يُذكّره بها أو سماعه أو لمسه أو شمّه.
حين يغادر بيته -ونادرا ما كان "السّيد ب." يغادر بيته- وتمرّ بجانبه سيدة أو فتاة ويشمّ فيها عطراً يشبه عطرَ هْنيّة يجنّ جنونه. يخرُج عن طوره ويندم على كونه غادر بيته /منفاه في ذلك اليوم. يكون ذلك في المساء في العادة. قد يكلّم نفسه وهو يبلع غصّة الذكريات أو يتلفّظ في الحال بكلمات قاسية في حقّ السّيدة أو الفتاة. هنّ لا يلتفن إلى تعليقاته ولا يحفلن بها ولا به، في العادة. يواصلن السّير متعثرات في خطواتهنّ، مبتعدات. يعرفن أنْ لا ذنب لهنّ سوى أن هذا "المْسكونْ"، كما يُسمّينه، قد ركبته حاله أو ركبها. سيُخترف بهلوسات وكلمات غاضبةً، ثم يمضي. هذا كل ما يحدُث في العادة. صارت معظم نساء الحي يتجنّبنَه. لا تعرف الواحدة منهنّ ما قد يفعل بها أو يقول لو ذكّره شيء فيها بمحبوبته الراحلة. يُفضّلن اجتنابه ما أمكن، زوجاتُ وبنات وأخوات جيرانه الطيبين.
هم، يواصلون تجمّعهم اليومي في الحديقة وسط ساحة الحي، غير عابئين. لكنهم انتبهوا جميعاً في ذلك الصباح. كانت أبخرة "سبْسي" الحاج "ع." قد لعبتْ برؤوسهم. حتى الذين لا يدخّنون غليونه تتمكّن منهم، في العادة، رائحة الكيف. بعضهم باتوا مدمنين دون أن يشعروا. هم يظنون أن اللعب فقط ما يأتي بهم إلى هذا الاجتماع اليومي. لكنّ بعضهم يحبّون استنشاق رائحة دخان النّبتة العجيبة حين يبخّه السّي "ج." أو الحاجّ "ع." أو السي "ف." في وجهوهم. كانوا ينقسمون فريقين، في العادة، جيران السّيد "ب." الرائعون، خلال جلوسهم في الحديقة، فريق يلعب الضّامة وآخر ينخرط في لعب الورق. للمجموعتين فريقٌ بديل ينتظر الفريق المنهزم ليُعوّضه في اللعب. كلّ ما يهُمّهم اللعب وتزجية ما تبقى في عِقد الحياة المنصرم. أيامهم تتشابه إلى درجة السأم بالنسبة إلى "السّيد ب."، الذي يكتفي، في العادة، بمراقبتهم لحظةً من وراء زجاجة نافذته. وقليلا ما كان يفتح نافذة الغرفة بعد رحيل هْنيّة.
صدمه الجواب، جواب جارِه الطيّب "السّيد ج."، في ذلك اليوم وحيّره. أغلق النافذة وعاد إلى سريره. لم يعرف جيرانه إن كان قد سمع ردّ جاره أم لا، لكنهم لاموه على كلامه. هو سمع جيداً ما قال جارُه لكنه أغلق النافذة، كما يفعل في العادة، موحياً لهم، ولمحدّثه تحديداً، بأنه لم يسمع. أفقده ذلك الرد توازنه طيلة ما تبقى في ذلك اليوم. بل لأيام تَغيّر حال "السّيد ب.". انفصل عن العالم أكثر. شعر بنفسه كما لو في دوامة. ولليالٍ، تَعكّر صفو أحلامه، زارته الكوابيس بدل هْنيّة. هل أنا مريض إلى هذا الحد؟ هل انفصلتُ فعلا عن الواقع وفقدتُ عقلي؟!
تشوّش ذهنه وازدحم بالأسئلة. ردُّ جاره الطيّب "السّيد ج." كان واضحاً في ذلك الصّباح: "عد إلى رشدك قليلا وعشْ حياتك. إذا ماتت زوجتك فليستْ آخرَ النساء فوق كوكب الأرض!".. وما أدراك أنت!؟ قال له في خياله. كان وحيداً وتألم كثيراً. هْنيّة لم تكنْ مُجرّد امرأة يمكنه، إن ماتت، كما قال هذا المخرّف المثير للشفقة، جارِه "السّيد ج."، اختيار أخرى لتُعوّضها. هْنيّة لا تُعوَّض! كانت سيدة النساء، كلّ النساء. "يا إلهي، ماذا قال هذا الجار الطيّب الأبله! كأنه لا يعرفني، كأنه لا يعرفنا. هْنيّة لم تكن تُشبه أي امرأة، هْنيّة لا تُشبهها امرأة!"..
ورأى نفسه يخنق جارَه الطيّب، بدل أن تحضُر هْنيّة لتُكمل معه الحلم. أحتى أحلامي تريدون أن تُحوّلوها إلى كوابيس!؟
في صباح اليوم الموالي تعالت صرخاتُ "السّيد ج." و"السيد ع." حول مَن له الحق في ما يقول بخصوص أمر اختلفا فيه خلال جولة لعب. ظلا يتجادلان ونبرتا صوتيهما ما تفتآن رتفعان. فجأة، ودون كلمات، أمعنوا النظر صوب النافذة. رفعوا أعينهم جميعا في اللحظة ذاتها تقريباً، دون اتفاق مسبَق ولا متأخر. استشعروا وقفته المتوترة خلف زجاج النافذة. رأوا طيفه أو تخيّلوه في وقفته المعتادة خلف النافذة. توقعوا أن يُطلّ ويوجه توبيخاً حادا للمتخاصمَين ويختفي. لم يروه هناك ولا أطلَّ عليهم. عادوا إلى لعبهم بعد لحظة ذهول جماعية. لكنّ عيون وعقول وآمال معظمهم ظلت معلقة على نافذة "السّيد ب."، متطلعين لرؤية وجهه العابس وهو يتلفظ كلماته المعاتبة المألوفة...
لم يفعل، خلافاً لتوقعاتهم.
في صلاة الظهر، كان جسد مسجّى داخل ثوب الصّمت الأبيض ينتظر صلاتَه الأخيرة. ربُعَ ساعة بعد ذلك، كان أربعة منهم يحملون النعش ويهبطون به نحو المقبرة، في القسم الغربي الكئيب من حي سْعادة. فوق أكتافهم كان النعش خفيفاً، كما لو كان فارغا، أو كأن المشيَّعَ طفل خفيف، بلا أثقال، بلا حياة. تحت الثوب الأبيض، كان جثمان "السّيد ب." مبتسماً وهو يراها تفتح له ذراعيها عند مدخل حديقة غنّاءَ، في الـ... هُناك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى