جورج سلوم - مستودع الذكريات

كنت أتردد أو ترتجف يدي عندما أرمي ورقة أو قطعة جريدة في سلة المهملات ..أقلّبها بحثاً عن كتابة ما ..بعض الكلمات مقدّسة ولا تجوز مساواتها بالقمامة ، فلا توجد جريدة إلا وفيها أحد أسماء الله الحسنى ..كعبد الرحمن وعبدالغفار وغيرها .

وبعض الجرائد فيها صور للساسة ..قد ينتشلها البعض من قمامتك..ويستخدمها كدليل إدانة ضدك !

وبعض الأوراق من سطح مكتبك قد تحوي إرهاصاتك ..وأصداء تفكيرك المكتوب دونما انتباه .. فيستمسكونك أيضاً بجريرتها .

فإما أن تمزق أوراقك إلى جزيئات يتعذر جمعها ..أو تحرقها ولن يتوفر لك المتسع لذلك ..أو تستعمل آلة إتلاف ورقية تحولها لشرائط وخيوط أشبه بجدائل المعكرونة فيختلط الحابل بالنابل

وما كان ذلك ممكناً في كل وقت

لذلك ألغيت سلة المهملات من تحت مكتبي ..واعتمدت أسلوب التجميع في درج ما من طاولتي حتى يمتلئ ويغصّ وتثقل حركته ..عندها أفرغ محتوياته في حقيبة سيارتي ..ومنها أودع أوراقي في أكياس وصناديق في غرفة معزولة ضمن حديقة البيت .

الخطة كانت أن أعود إليها لاحقاً أصنّفها وأعزل بعضها وأحرق ما يمكن حرقه ..لكن زحمة الأولويات تجعل التجميع سهلاً والتصنيف مؤجلاً ..وشيئاً فشيئاً أصبح المستودع ملآنا بشكل فوضوي ..

وأضيفت إليه لاحقاً بعض الكتب التي خلقت لتسكن المستودعات المظلمة ..كديوان شعر مهدى إليك قسراً ..أو كتابٍ ممنوع حصلت عليه وقررت أن تتصفحه في الظلام ..وغيرها .

ليست كل الكتب قابلة للعرض في مكتبتك ..بعضها تتفاخر به ..تضعه خلفك وبمستوى نظر الجالسين يرونك ويحدثونك وتجول عيونهم في خلفيتك المكتبية .. وبعضها تخفيه في درجك

قد تكون مكتبتك الظاهرة خلفك وسيلة للنفاق والاستهلاك ليس إلا ..وكذلك سطح مكتبك أداة للعرض ..كمن يضع علماً للوطن على مكتبه ويمارس الخيانة ..أو يعرض قرآناً وكتباً مذهبة للتفاسير وراء ظهره وينطق بالكذب .. أو يضع صورة لزوجته وأولاده أمام ناظريه ويمارس العهر اللفظي والفعلي في ظلالها !

مستودعي كان يكبر ككبر أيامي ..وبدأت أضيف إليه أشيائي المستعملة ..وأدواتي ما شاخ منها وما أكل الزمان عليه .

أعتّقها كتراث قديم يحمل ذكرياتي وبصماتي ..أستودعها بمستودعي الذي يغصّ بأشياء لا قيمة لها عند الآخرين ..لكنها عزيزة علي فهي تاريخي.. يحكيه لي غبارها وصدؤها وأجزاؤها المنفرطة كعقد تباعدت حباته لكنك مازلت تتخيل وتتبيّن الخيط الرفيع الذي كان يربطها في يومٍ ما ..

الخيط الرفيع الذي يربط بين كل تلك الأشياء المتناقضة ..هو أنا..

فكيف أتلفها ؟ ..

حتى علب دوائي اليومي الفارغة احتفظت بها ..فأنا أستطيع أن أحسب كم حبة تناولت من ذلك الدواء..وكم سيجارة حرقت ..

إنه لأمر مخيف أن ترى جبلاً من علب السجائر التي استهلكتها في عشر سنوات مثلاً ..نظرة واحدة تعطيك فكرة عن عمود الدخان الذي زفرته ..والكتلة النقدية التي حرقتها ..وإن كنت نسيت أو تتناسى فمستودع الذكريات لا ينسى ..يكدّس أفعالك ..يجمّعها لك في إحدى زواياه .

وماذا أقول عن زاوية الكحول والمياه الغازية ..ليترات من السم لو جُمعت لكانت صهاريجاً وسيولاً من المرض ..كيف تجرّعت كل ذلك ؟..ألا تخجل من نفسك ..هكذا قال مستودع الذكريات !

في البدء كانت زوجتي سعيدة بذلك المستودع الذي سحب جزءاً كبيراً من مهملات البيت وأشياءه القديمة التي كنت أرفض رميها أو بيعها ..لكنه أخيراً صار عدوّها عندما كبُر واستفحل واحتلّ غرفة مستقلة ودائمة في حديقة المنزل ..وصار يسرقني أيضاً فأغيبُ فيه ساعاتٍ وساعات بين ذكرياتي التالفة ..بالله عليك ماذا تفعل في تلك المغارة ؟

إنها تساؤلات العائلة وحتى الأصدقاء ..يحاولون الولوج إلى أسرارها ..

ويسخرون من عناكبها المتدلّية كثريّات الوهم ..

يقرفون من براز فئرانها التي لم أصادفها يوماً ..لكنني أعرف أنها تعشعش هنا وتشاطرني المكان .. كانت تقتات على بعض أوراقي المصفرّة والجافة ..وتتصفّح كتباً عتيقة التصقت أوراقها من عرق الأيام وأملاحها ورواسبها ..وتتأمّل مجموعات الصور التي كانت تفخر بها آلات التصوير القديمة ..

إنه بحقّ مجمّعٌ للذكريات ..تجول فيه أحياناً وتغرق في متاهاته.

ما الفائدة من الاحتفاظ بكتابٍ مدرسي درستَ به منذ نصف قرن ؟.

انتبه ..لقد كُتب على غلافه (الإقليم الشمالي )..إنه من أيام الوحدة السورية المصرية ..وقد كانت المناهج المدرسية موحّدة ..غلافه إذن للذكرى..ولن يُطبع ثانية !

ما الفائدة من صندوق اسطوانات لعبد الوهاب ..وعبد المطلب ..وتسجيلٍ نادرٍ لاسمهان ؟

ماالفائدة من ديوان شعر شُجّت غلافاته والتفّت أطراف صفحاته ؟

مهلاً ..إنه لأديبٍ مغمور أكلته الأيام ..وهو شاعرٌ كبير بحق وفقيدٌ مفقودٌ أدبياً ..كنت أسرق بعض أبياته وأنسبها لي ..ولا أحد يعرف ذلك ..فتاريخ الأدب لا يحتفظ ولا يحفظ إلا أشعار العظماء .. لذلك أحتفظ بديوانه عرفاناً بالجميل .

وهذا الكرسيّ المكسور ..آه كم حملني يوم كانت تتثاقل عليّ الهموم ..وكم كنت ثقيلاً بما أحمل من هموم وأوزار !..

وهذه البدلة القديمة !..غسلتها مراراً وكويتها ..كانت سابقاً في صدر خزانتي ..وما زالت تحتفظ بترسّبات عرقي ..كانت بدلة عرسي الغالية ..وبعدها صارت بدلة المناسبات الرسمية ..لو تتكلّم أنسجتها ..ستروي الكثير من الأحداث ..أزرارها فُكّت لحكاية وارتبطت لرواية ..تلك البدلة حضرت مواقفَ مهمّة من حياتي ..فرِحَتْ معي ورقصَتْ .. وحزنت معي وخافت وارتعدت ..لا لن أرميها إلا إذا هي قرّرت التحلل والضياع .

أما هذا المذياع الصغير .. فكان صديقي ويتنقل معي ..وقد نام على وسادتي ليلات وليلات ..كنت ألصقه بأذني اليمنى عساني أقترب قليلاً من حنجرة فيروز صباحاً وأم كلثوم مساءً..ولن أحكي عن نشرات الأخبار التي رواها في الحروب والانتصارات والنكسات والنكبات .

عجلات سيارتي التي امّحت بصماتها وتشققت خدودها ...لماذا أحتفظ بها ؟

..سارت في طرقاتي وتآكلت من فرط مشاويري ..صعِدت معي إلى الجبل وخرمشتها حصوات الطريق ..ودارت معي في الطرق المعبّدة ..سخنت وبردت وزفرت هواءً وهمدت ..فنفختها وأصلحتها ..لا لن أرميها ..هي لا تحسب كم دارت معي لكنّ عدّاد سيارتي يحسب مئات الآلاف من الكيلومترات التي قطعناها سوية .

أحد الأصدقاء ممن كانوا يفضّلون احتساء الشاي معي في حديقة المنزل في يوم عطلة ..كان من الفضول بمكان أن يؤثر الجلوس جُنيب تلك الغرفة..يوقد جمراته الصغيرة ويصلح نرجيلته بتفنّن ويبدأ بانتقاد كل شيئ ..بدءاً بالشمس التي تغيرت أشعتها ووصولاً إلى لون جواربي ..

أما تلك الغرفة وبابها المهلهل فلهما نصيبٌ مهمّ في انتقاداته ..قال لي :

-أتحيّن الفرص عندما تغيب أو تسافر ..لأبلل تلك الغرفة بالوقود ثم أسلمها للنار هي وأوراقها وكركباتها وفئرانها ..أقسم لك أن فيها جرذاناً أيضاً وأفاعٍ .. وثعابين ..لماذا هذا الإصرار على تجميع مخلفاتك ؟

ويضحك..ويتابع ساخراً:

لقد تحوّل بيت جبران إلى متحف ..وقلم نجيب محفوظ صار مزاراً ..وكذلك ختم ستالين المرعب ..هل تعلم أن حذاء نابليون بيع بالمزاد العلني كتحفة نادرة ؟..هه هه كأني بك تحلم أن تصبح أوراقك ومخلفاتك ثروة للأجيال ..يكتشفونها بعد وفاتك كفان كوخ ..ههه مستودعك التافه هذا سيأتيه يوم يتحوّل فيه لمحرقة لك ..اجمع أحطابك فيه أكثر وأكثر .

تعال نجرده في يوم ما على سبيل الإحصاء والتنظيف على الأقل .



طبعاً لن تكون قادراً على إحصاء محتويات مستودعك على طريقة الجرد ..فهناك أشياء تحذفها كل يوم ..تضعها على قائمة الإهمال ثم تودعها في جداول النسيان ..كسلة المحذوفات في حاسوبك ..حاول أن تعود إليها لتكتشف تفاهة محفوظاتك القديمة ..والحاسب لا يتلفها لكن ينوء بأثقالها فيطلب منك إحراقها .

هنالك أشياء لاتريد أن تراها وتتذكر حوادثها ..كصور أشخاص يثيرون فيك الذكريات المؤلمة ..وكملفاتِ قضاءٍ كنتَ فيها مظلوماً وراجعت محاكم القضاء النزيه وعُدتَ مهزوماً !

ودفاتر مذكراتك ويومياتك ومصروفاتك ..ستحكي لك كم كانت الليرة عظيمة !

وهناك صور ورسائل للحب وعشق الشباب تخجل أن تكشفها لزوجتك وأولادك وقد صاروا رجالاً ..تسميها ذكريات اللهو وطيش الشباب ..هذه صور صديقة قديمة كانت معشوقة واليوم غدت زوجة لرجل مهم ..وبالتالي فبعض الذكريات ستفتح حروباً عائلية وتدمّر بيوتاً عامرة بالحب .

عندما جاءت الحرب وأعلنت السنوات العجاف ..وهاج السلاح وماج ..كان الرحيل من البيوت يتم في الليالي السود ويحمل المرء معه وثائقه الشخصية فقط ..(وياروح ما بعدك روح !)

وعندما عادت العائلات إلى بيوتها المنهوبة ..كان كل امرئ يتفقّد أغراضه الثمينة وذكرياته التي عاثت فيها أيادي المسلحين ..

وقفتُ بباب البيت وكان الباب مسروقاً أيضاً ..ركضت زوجتي إلى مطبخها تتفقد أجهزتها الكهربائية وصحونها ..وركض ابني إلى غرفته بحثاً عن ألعابه وحاسوبه ..أما أنا فوقفت جامداً إذ أنني أعرف مابقي لدي في ذلك البيت الذي عاد إلينا مجرّداً كهيكل عظمي مخلخل ..المهم لم تقوَ يد التخريب على أعمدته وجدرانه ..والباقي كله في عهدة إعادة الإعمار .

بحث المسلحون في غرفة المستودع عن ذهب أو كنز مختبئ في جرار فخارية ولم يجدوا ضالتهم ..لذلك شتموني في قرارة نفسهم ..وأجهزوا على مستودعي بالنار .

عندما دخلت أخيراً إلى تلك الغرفة كانت جدرانها سوداء ..ورائحتها كريهة وعفنة ..ككل ذكرياتي .



*************************

تعليقات

سرد راق لي، وهو يبحر في عالم الذكريات، والتعريج على سواج وقتامة الحاضر.. ايام كان لليرة قيمتها، الهروب من البيوت في الليالي السود، سرقة محتويات البيوت، الحرب دمار.
دمت مبدعا
 
أعلى