سمير الفيل - شلن فضة.. قصة قصيرة .

سمير الفيل.jpeg

الولد منير شقي ونحيف كنواة بلح أبريمي ، لكن دمه سكر ، وهو يقلد مشية مدرس العربي ، الذي يخب في بدلته الوحيدة الرمادية المثقوبة من الأكمام ، أو وهو يحاكي الأستاذ عبد السلام الذي يأتي من " العطوي " راكبا حماره الضعيف المضعضع . ضربه الناظر عشرة عصي عندما فك الحبل المربوط فيه الحمار بجذع شجرة ، ومضى في الميدان يبرطع ، والحمار الماكر عندما نظر بطرف عينه ، ولم ير صاحبه ضخم الجثة ، شعر أن ظهره خفيف ، فأطلق ساقيه للريح فرحا ، ولم يوقفه سوى شط ترعة تغص بالمياه ، خاف أن ينزلها ، فتوقف متحيرا ، وراح يمضع عشبا ً أخضر كان معفرا بالتراب .
جاء الفراش مسعد ، وعاد بالحمار والولد المتهم ، وهو يوم لا ينساه ، ولا يظن أن الحمار هو الآخر قد نساه ، فلو كان له لسان ينطق لصاح : كانت فسحة شائقة !
الولد أسمر ، وقصير ، وشعره مفلفل ، لكن أسنانه المرصوصة تعلن عن ضب خفيف لا يكاد يـُـرى ، وخفته جعلته يفكر أكثر من مرة في أن يطير كالعصافير ، وأن يلامس السحب البعيدة التي تزرقش السماء ببياضها الشاهق ، وقد جرب مرة أو أكثر أن يقفز من على غصن شجرة توت فاردا ً ذراعيه . في مرة أنقذته أفرع الشجرة السفلى المحملة بالثمار اللذيذة ، فخففت من قوة الارتطام ، وفي مرة أخرى وقع على جنبه ، فأصابته بعض الرضوض ، ولما كان يتحمم لمحت أمه الزراق فشددت عليها الخناق ، فزعم أن مدرس الحساب قد رفسه لأنه لا يعرف كم يساوي حاصل ضرب خمسة في سبعة ؟
وحين باغتته الأم بالزيارة في المدرسة ، واشتكت الأستاذ عبد السلام للناظر إتضح لها أن التهمة ملفقة فعاجلته بقرصة موجعة تركت علامة في كتفه ، وفي جمعة الحموم ، أراها إياها ، وحدجها بعتاب مؤلم : طبعا لو حد تاني كنت اشتكيتِ لك . أنا رايح أشتكيك لأبويا .
حين انتهى من استحمامه ، ارتدى قميصه النظيف ، والشورت القصير لفوق الركبة ، وذهب إلى الجبانة ، حيث كانت حدبات القبور مطلية باللون الأبيض . ابتاع خوصا أخضر بتعريفة ، ليضعه على قبر العائلة ، واقترب من القبر الذي كان باب مقصورته تهزه الريح ف" يزيـّـق ". خجل أن يشكو أمه ، لكنه همس بصوت خفيض : لقد وحشتني ياأبي !
لم ينتظر أي إجابة ، فهو يعرف أن الموتي لا يتكلمون ، وحين انتهى من قراءة الفاتحة ، وضع كفيه بميل خفيف على الحافة ، وامتلأت يداه بتراب ناعم خفيف . كان يشعر أن أباه الذي غاب وهو ما زال طفلا ً يحبو قد أمعن في الرحيل ، ومن حق الأحياء أن يطلوا عمن راحوا في غبش الزمن البعيد .
الولد منير لا يكف عن اللعب طوال النهار ، بعد أن يخرج من مدرسته يطير إلى بيته ، كي يحصل على لقمة على الماشي ، ويكون لديه قرابة الساعة قبل أن يذهب لمحل الأحذية الذي يعمل به ، وهي فترة مناسبة تماما لاصطياد السمك بالسنارة ، أو لمطاردة كلب في أرض البرش ، أو الذهاب للمكتبة العامة حيث يجد الجميع يقرأ في صمت ، وهو يكره هذا الصمت المميت ، يستعير كتابا وينطلق نحو المنحدر الهابط للنيل ، الذي يكسوه الدبش الأبيض ، ومنه تطل نباتات شيطانية بلا رائحة . يفر الصفحات ليقيس الزمن التقريبي للانتهاء من القراءة ، وفي أغلب الأحوال يكون تقديره سليما ، فلا يمكن أن يمضي يومان دون أن ينتهي من كتابٍ ، ناهيك عن تجهيز قش شم النسيم ، وصنع "الأليمبي " ، والانخراط في عصابات الهجوم المباغت على الحارات الأخرى لسلب القش من أماكن تخزينه السرية ! .
اليوم أنهى دروسه مبكرا ، فقد كان الخميس ، سأل المارة عن الساعة فكانت الواحدة . أمامه ثلاث ساعات كاملة ويأتي موعد ذهابه للشغل .
سأل نفسه ، ويده تقبض على شلن فضة كان قد ادخره من مصروف الأسبوع : ما أجمل أن تشاهد فيلم السندباد . وقف أمام السينما التي تعرض الفيلم ، وراح يتأمل " الأفيش " الملون ، وصورة السندباد تبدو بالحجم الطبيعي ،وعمامته الصغيرة في احمرارها تجعله غامضا ومريبا .
ربما هو حلمه الذي ظل يلوح في مخيلته ، وقد اقترب الموعد ، موعد حفل الظهيرة ، ومعظم روادها يكونون من أولاد المدارس ، وبقايا حرفيين أنهوا يومهم مبكرا ، وبعض فلاحين يعرفهم من الجلباب الواسع الأكمام ، و"اللاسة "العجيبة التي تغطي رؤوسهم .
قبل أن يمد يده بالشلن الفضة المنقوش عليه صورة الملك فاروق الأول بطربوشه المائل في نزق وأبهة ، سمع طبلا غريبا .
كان يدق بانتظام ، وحماس ، فأدرك أن هناك أمرا غير معتاد سوف يحدث . الطبل لا يعرفه سوى في سيارة مولد النبي ، وفي ليلة الرؤية ، أو في العرض العسكري .
في الميدان كان حاويا قد نصب عدته ، وراح يوسع الدائرة ، ومن خلفه زوجة نحيفة تضرب على الدف ، وفي المنتصف تماما كانت هناك طفلة صغيرة في مثل سنه . طفلة جميلة جمالا شاحبا بضفيرتين قصيرتين وسنة مكسورة ، وجهها فيه ملاحة آسرة ، كانت تفرد قطعة المشمع المنقوشة بألوان زاهية ، وتضبط قطع الزلط على أطراف المشمع الدائري بصعوبة ، حيث تهب الريح فتزيح طرفا ، فتعاود ضبط قطعة الزلط .
كان الحاوي قد بدأ يستعد لفقرته الأولى ، حين راح يرشق السكاكين في دائرة مرتفعة لأكثر من متر ، مرتكزة على قائم من الحديد المطلي بالأسود ، وبين كل سكين وآخر يشعل كرة من القماش المشبعة بالجاز ، ويثبتها في الفجوات .
طلب منهم أن يصلوا على جمال النبي العربي الأمي ، فصلوا جميعا : الكبار والصغار . ومد طوله ، وعاد فقصّره ، وتلوى مثل حنش ، وكخيط يمر من سـَـم الخياط اجتاز الفتحة التي رآها منير ضيقة ، حتى أنه أخفى عينا وترك الأخرى لتبحلق ، وتتابع القفزة .
كانت البنت قد عادت لطبلتها ، بصوتها الهائل ، تدق بالعصا التي تحمل في طرفها رأسا من المطاط : ترم ..دم .. ترم .. دم .. ترم .. دم .
كأنه يستعيد المارش الحزين ، في جنازة ابن الدمهوجي تاجر الأخشاب ، حين غرق الشاب في البحر المالح ، وسارت الجنازة ، والموسيقى النحاسية تصدح في شارع الجلاء ، وفرقة أطفال الملجأ تعزف ، بإيقاع حزين . لما عاد سأل أمه ، وهو يخفي الكتب في مسقط السلم : ليه يا أمي الجنازة دي فيها موسيقى ؟
كانت تغسل ، وتحك الياقات والأساور ، والملابس مبتلة ، فأشاحت بيدها ، ونثرت رغوة الصابون : بعيد عنك . الله يرحمه مات صغير . لسه ما دخلش دنيا .
لا يدري إلا والخاطر يستقر في رأسه ، ويملأ عليه كل كيانه ، ما أجمل أن ينام الواحد في النعش ، ومن خلفه الموسيقى تعزف ، وأولاد زي الفل يسيرون بصواني رصت عليها ورود بتلاتها بكل شكل ولون . أستوعب الفكرة ، سألها وهو يضيق عينيه : بعد الشر . بعد الشر يعني . لو أنا مت دلوقتي ، هتجيبي المزيكا .
حملقت في وجهه مذهولة ، وأدرك من بصتها أنها لو أمسكت به لكسرت عقه ، ودفنته على السكت ، فزاغ .
البنت تدق ، والزوجة تدور بالطار حول الدائرة ، تجمع القروش ، والشلنات ، والبرايز ، والبنت تدق أسرع ، أما الرجل فيستعد للفقرة الأصعب ، سيدع رجلا يقيده بالحبل ، ومهما بلغت صعوبة الربط ، فبمهارته سيتمكن بعون الله من فك نفسه . سأل ، وهو يتفحص الوجوه متحديا : مين راجل ؟
كأن الناس على رؤوسها الطير ، والبنت تندفع أكثر في الدق: ترم ..دم .. ترم .. دم .. ترم .. دم .
هز رأسه واثقا من نفسه ، وهزت المرأة الطار فشخشخت النقود الفضية . ودَّ منير أن يعطي الحاوي الشلن ، فقد أعجبته قفزته ، ولكن السندباد سيفعل ما هو أروع ، سيتصدى للتنين الفضي ، وسطير على جناح الرخ الوحشي ، وسيجتز عنق الديناصور ذي الذنبين .
سأل الحاوي الواقفين ، وهو يتأمل وجوههم : عايز راجل مجدع ، يوريني فتونته .
قبل أن يكمل جملته رأى منير جزار الحتة زقطة يشق طريقه نحو الدائرة ، ثم شاهده يتفحص الحاوي في جسده الضئيل ، وقد غطى صدره بالشحوم ، وزيت الزيتون لزوم الصنعة . لكنه زجر الحاوي في تحد غريب : واد يا حنفي ، هات السلبة !
كانت النقود الفضية تزداد ، والمرأة تلف ، والطبلة تعلو على دقات قلب منير الذي انقبض بلا سبب.
قال الحاوي لزقطة ، وهو يتأمل السلبة في لهجة من يستعطفه : خلينا في الحبل ده يامعلم !
راح زقطة يقيسه بنظره ، وغرس كلماته في جسد المسكين الذي كان يرتجف دون أن يتخلى عن تحديه : خليك راجل من ضهر راجل .
سهم في انتظار أن يقيده الجزار الذي جاء وعلى جلبابه الأبيض أثر طرطشة دماء . فكر . ربما يفلت ، فلا شيء يمنعه من أكل عيشه .
رفع المعلم يده بعشرة جنيهات حمراء تذبح العصفور : وآدي حتة بعشرة ، لو فكيت نفسك ياحلو .
بهمة منقطعة النظير ، كان المعلم زقطة يحكم الحبل على جسد الحاوي الذي حاول أن ينفخ بطنه وصدره دون جدوى ، ثم لفه على يديه بعنف ، حتى أن جلده انشد ، وازرق فيما بين الكتفين ، وكلما حاول أن يتفلفص ، صرخ زقطة في صبيه : شد ياخِـرع .
استمر الشد ، وإحكام العقد ، حتى انتهى الجزار تماما ، فنفض يديه ، وأمر صبيه حنفي أن يسرع ليحضر له كرسي منجد من المحل .
كانت المرأة قد توسطت الدائرة ، واقتربت من زوجها ، مسحت خيوط العرق ، ومسدت شعره بيدها الخالية : شد حيلك يا حسيني .. معلهش يا أخويا . ياما فلتت من مصايب أكتر من دي .
خرج صوته بصعوبة ، والسعال يرج صدره رجا : تعبت يا وجيدة ، والكحة عدمتني العافية .
نظر الحاوي لغريمه بتحد ، وصرخ في السماء : نظرة يا سيدة ، ياطاهرة .
وفيما هو يدور حول نفسه ، تأمل الصغيرة التي انتابها الذعر : جرى أيه ؟ دقي يا لواحظ .
عرف منير أن البنت اسمها لواحظ ، ودار خارج الحلقة حتى صار في مواجهة الحاوي ، وهو متأكد أنه سيتخلص من الحبال ، وسيظفر بالجنيهات العشرة .
التفت الحسيني للجمهور ، وبدأ في التملص بتقليص عضلاته ، إلا أن الحبل كان مشدودا لأقصي درجة ، والجزار جلس في مقدمة الدائرة ، ويده تلوح بالحتة أم عشرة .
جحظت عيون الحاوي ، وهو يحاول أن يتفلفص ، والطبلة تواصل دقها : ترم ..دم .. ترم .. دم .. ترم .. دم . فيما كان منير يلف باحثا عن مساحة تمكنه من رؤية الحاوي لحظة فك قيوده ليمشي وراءه من حارة إلى حارة مصفقا للبطل .
ركع الرجل على ركبتيه ، ورمق مساحة الزراق التي شعر بها قطعة من لهب ، هتف بصوت مبحوح : يا سيدة سكينة .. نظرة ياست!
عادت الزوجة تمسح عرق زوجها ، وتستحثه :
أصلب طولك يا أخويا . شدة وهتنزاح .
ثم وهي ترى عروقه تنفر ، فتشف من خلف الجلد المشدود :
بلاش تكمل يا اخويا ، بلاش . قلبي واكلني ، ياخدوا فلوسهم ، ويغوروا .
خرجت كلماته من فمه الجاف بصعوبة : مش أصول يا أم لواحظ .ما حدش بيهرب من صنعته !
كانت الدائرة تضيق ، فتوسعها الزوجة وهي تدور ، فيما يدها ترتجف بالطار ، وهو يقوم كالذبيحة ، ينتفض محاولا أن يفلت جزءا من الحبل دون جدوى ، ثم سرعان ما يهوي في أنين خافت .
أسرعت الزوجة ، وملأت كوبا من سبيل قريب ، ودفعته في فمه الذي بدا متشققا .
رأته أزرق الوجه ، فاندفعت نحو رجلها محتضنة إياه ، جرت المسألة فجأة ، حتى أنها رمت الطار بما فيه من نقود على امتداد ذراعها .
هجم كل من دفع قرشا أو شلنا أو بريزة نحوالطار ، فصار خاويا ، وتمزق جلده .
سحب المعلم زقطة كرسيه في كبرياء أجوف وسار منتفخا كالطاووس ، وانصرف أغلب الناس بلا صوت . لم يبق إلا العفرة ، والبنت تدق كأنها منومة : ترم ..دم .. ترم .. دم .. ترم .. دم .
كان الرجل قد تحول إلى جسد خائر القوى ، والزوجة أمالت رأسه في حجرها ، وراحت ترقيه بآية الكرسي . ولما فشلت في فك العقد المحكمة ، أشارت لابنتها أن تأتي من الجراب بسكين ، فتوقف الدق الجنائزي الحزين .
كانت الجلبة قد خفت نهائيا ، والمشمع الخفيف قد تحول إلى مزق من أثر الأقدام المتدافعة : سلامتك يا خويا .
سألت لواحظ أمها : أبويا بخير ؟
هزت المرأة رأسها : نحمده !
لم يدر منير بنفسه إلا وهو يعود بالطار الخالي ، أخرج من جيبه الشلن الفضة ، وضعه في المنتصف تماما ، كان الرجل قد بدأ يلتقط أنفاسه ، ويبربش بعينيه في إفاقة مؤلمة .
ربت على كتف الولد منير ، وهز رأسه بامتنان حقيقي : تسلم يا ابني .
من دون أن تخرج من فم البنت كلمة حركت يدها ملوحة له ، و ابتسمت بوجهها المخطوف الشاحب .
قال منير لنفسه ، وقد تبدد حلمه في مشاهدة السندباد : لقد رأيته .نعم . لقد رأيته .
ومضى نحو المحل قبل أن يأتي الموعد ، دون أن يعاود النظر للمكان ، ولو لمرة واحدة .

القاهرة 9 / 9/ 2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى