نوف السمرقندي - لو نطقت الصورة..

أزَّه ذلك الضجيج البارد بين ممرات جمجمته شعر أن رأسه معلق في الفراغ ود لو يغمره في وعاء صحوه كي تستفيق جوارحه المرهونة ببقائه.
اهتز جسد اهتزازه خفيفه ارتعشت علي اثرها اطرافه أفلت شيء ما بين يديه سمع حفيفه علي فراشه مدَ يديه تحسس موضع الشيء الذي وقع من يده ثمة شيء خفي يتحرك أمسكه عرف كنهه رفعه عند مستوي عينيه ، خطفه وميضه شهق من تدفق روحه نحوه ..
إنها صوره قديمة لي مع أمي وأبي أبرق عينيه في محاولة لأن يتسلل الي زمن اللقطة الشاهدة علي طفولته الغدقة بالحب والرعاية .
كان طفلهما الوحيد والمدلل أغدقا عليه كل امنياتهما البيضاء وحبهما الجارف الأمر الذي جعله شديد التعلق بهما
وبسبب هذا التعلق أصابته حمي الهلع والخوف عليهما من أي طارئ ممكن وغير ممكن، كانت هواجسه تضطرم في أوردته كحمم النار، ما ابقته قلقا طوال حياته.
- ماالذي جاء بهذه الصور بين يدي ؟
ساوره شيء من قلق مبهم حيال الصورة..
أهو المصير المنتظر، أم هواجسه التي ماباتت يوما خامده جذبه وميض اللقطه بقوة أفرغت صبره, امعن في اللحظه, بكل ما اتت به ملامح إنسانيته.
- كم كنت طفلاً مدللاً ومازلت أحمل هذا الطفل في داخلي نزقه، وجنونه، قلقه اللامنطقي ورغبته الملحة نحو الأشياء، ولكن الذي تغير هو حبي لهما كم نما واستطال وتفرع في أنحائي.
شجي لحن الحب الكبيرفي نفسه وتغنت عينيه بدمعة إمتنان لعق عذوبتها، ومازالت ملامح الصورة تتهادي كموجة بين أنامله أغمض عينيه بقوه كي يطرح قطرة حب استلهمتها ذاكرته الرقيقه..
هنا اتضحت الرؤية تفحص اجزاء الصورة جيدا تبدو كورقة خفيفة لا تستحيل علي الطي كم رققتها الأيام..
أعاد النظر الي الصورة وجدها تومض
- يا إلهي إنها تومض
- بل تومض بدهشة بادية لقلبي.
شعر بوجيب قلبه يرتفع..
انتفض جسده وعينه ثابتة علي الصورة التي بين يديه ..
- أين مصدر الوميض؟
- حتي الخلفية تبدو قاتمة
أتراهما عينا أمي وأبي؟
- حقيقة إنهما يبدوان في غاية الإنسجام ، والحب ،وأنيقين جداً..
- وأنا كذلك أرتدي بدلة فاخرة تليق بالأعياد والمناسبات الكبري
- لا أستبعد أن تكون هذه الأناقة وهذا الفرح البادي بصدق هما اللذان يحدثان هذا الوميض الخاطف..
أعاد النظر تأملها من كل الزوايا ومازالت الصورة تصدر ذلك السحر.
لاحظ أن هناك تاريخا كتب خلف الصورة
“ أخذت هذه اللقطة في ليلة عيد عام ١٩٨٠م”
وضع الصورة فوق المنضدة
سأذهب لأبحث في خزانة أبي عن صور أخري قد تحمل نفس الوميض
بحث، وبحث وجد من الذكريات الهنية ما يكفي لأن يمتد به العمر ردحاً طويلاً
لحظات سعيدة في أماكن، ومعالم مختلفة، وبلدان عديدة..
-لو جبت ُهذه الأماكن الأن لحدثتني عن معني السعادة..
- كل صورة تحمل توقيعها وتاريخها من الخلف وفِي أي مدينة كانت
- لاشك إنها لحظات ثمينة جمعتني بوالدي ولكن جميعها لا تحمل نفس الوميض المدهش الذي تحمله تلك الصورة!
ونظر نظرة خاطفة علي الصورة التي وضعها فوق المنضدة
إنها تشع وكأنها تعكس وجه الشمس من خلاله وتومض بفرح خاطف!
لابد أنها تنطوي علي سِر أجهله ؟
-أبي كان لديه كاميرا من نوع لايكا متطورة في ذلك الوقت بالتحديد ولأنه كان عاشقا للتصوير ابتاعها في احدي رحلاته إلي ألمانيا وكان يعتز بها كثيرا رغم أنه يملك غيرها ٣ كاميرات
- كان يقول إن لها ومضة سحرية
- من الممكن جدا أن الصورة التقطت بكاميرا أبي النفيسة ولكن لماذا لم يبق الوميض ثابتا داخل الصور الأخري كما ظل في هذه الصورة !
-سوف أجربها بنفسي إنها مازالت موجودة في خزانة أبي
فتش في الخزانة ووجدها مأهولة بالأوراق والأجهزة القديمة راديو قديم - وجهازان لاسلكين - وهواتف بأقراص - ولعبه زرقاء عبارة عن سيارة معها ريموت تحكم وكان هناك ورقة بيضاء تتقدم فوضي الأوراق والأشياء التي أمامه تناولها بين يديه وفتحها وجدها معنونه بشهادة وفاة
سحقه الفزع تحت انقاضه أفرزت خلاياه رائحة الخوف، واستنجدت بصوته الخائر
حاول أن يصرخ
كان صوته بعيداً جداً لم يجده
حينها خضع لثقل الأشياء فوقه نشج دون بكاء نشيجاً أخرس كل حواسه العمياء حينها..
-هل مات أبي؟!
ونظر إلي الورقة الثانية في انهيار شهادة وفاة أمي
تداعي كبناء شاهق وصلب شعر انه غدا رماداً أزرق
-يا الله رحمتك
-كيف حدث ذلك!
أين كنت؟
-كيف تسني لهذا الموت مباغتتي وأخذهما دون علمي ودون أن أراهما
مكثت نفسه لاهثة أمام تساؤلاته، وطفق يبحث عن سبب الفاجعة بين الورق لمح صحيفة مصفرة كانت تقبع في صمت مخيف تحت الورقتين كانت تحمل خبراً متصدراً عن طائرة سقطت في المحيط الأطلنطي ويلي الخبر أسماء الضحايا ووجد اسم والديه بين الأسماء قرأ وانتحب وسال قلبه بين ضلعيه حزنا والماً..
شعر أنه ذابل كورقة ذرتها هذه الحياة في خريفها مبكرا..
وسأل نفسه سؤالا مكلوما متي حدث ذلك؟ ونظر في العدد ووجد ما أفقده صوابه انتقل والداه الي رحمة الله في العام ١٩٧٧م وطابقه بتاريخ الشهادة هو التاريخ نفسه
- اي أنني كنت في الرابعة من عمري
فجأة تذكر الصورة وتاريخها الموشوم بالسحر ما الذي تريد قوله هذه الصورة بتاريخها المحير
ووميضها المنذر والذي دُونّ عليها بعد وفاتهم بأربع سنوات؟!
-نعم كنت بينهما طفل الثامنة هيئتي تدل علي ذلك ثم انها كتبت بخط أبي ثم قام بوضع الورقتين والصحيفة جانباً وأخذ يقلب في كاميرا‏ أبيه النفيسة .
وضع عينه علي العدسة أغمض عينا، وفتح الأخري باحثاً عن طيف يهتدي إليه ضاغطاً علي أزرار حاجب الكاميراللعودة إلي التصوير وجعل الكاميرا في وضعية الالتقاط ليلتقط صورته المجهولة وعند سماع صوت اللقطة أفاق علي ضوء باهر غشي عينيه بقوه أراد الاحتماء بكلتا يديه من هذا الضوء
حينها سمع صوت والده ظن أن صوته قادم من السماء
الحمد لله علي السلامة حبيبي
وانتبه إلي بكاء أمه وصوتها المرتجف وهي تقبله حامدة لله علي نجاته.
-لا يمكن ان تمطرني السماء أيضا ببكاء امي وقبلاتها الحميمة
خبا الوميض حين رآهما بوضوح أمامه ومعهما جمع من الأشخاص علي هيئة أطباء، وممرضات وأشخاص آخرين بدوا له ظلالا، وأشباحا بيضاء.
كانت الصورة الواضحة التي احتضنتها عيناه من المشهد صورة والديه
انجده بكاؤه فبكي وبكي حمدا، وفرحاً أنهما أمامه..
ربت الطبيب علي كتفه
قائلاً له:أنت معجزة عُدت من الموت بعد حادث طائرة نجاك الله منه وكنت الناجي الوحيد في هذا الحادث وظللت في غيبوبة لمدة ٤أعوام
أردف الطبيب: إنها عناية الله
لا يعلم ما يقول ولا ما يفعل سوي أن يري وجه أمه باكياً مبتسماً ووجه ابيه محمراً مخضلاً بدموع بللت لحيته
ياااه
كيف أطاعني جسدي وغيبني كل هذه الأعوام عن وجه أمي و أبي؟!
انه جسد عاق ولا شك ولكنني فرح جدا لأنهما أمامي مدَ قلبي وبصري
لمح شيئاً كالورقة بين أنامل أمه يحمل ذات الوميض أشار إليه بعينيه
ناولته امه إياها
قلّب الورقة هي ذاتها صاحبة الوميض بكل تفاصيلها وتاريخها وان كادت لتبدو ذائبه بين أصابعه..
استدرك شئياً من رؤاه..
- إذن هذا الذي كان من أمر الطائرة المشئومة
- الحمد لله أن كنت من ضحاياها ولَم يكونا والدي..
ما الذي كان عن فاجعتي بهما ؟
لابد أنه حلم مريع سأطرده من منافذ رأسي كي لايطوف بي مجدداً..
هز رأسه اهتزازة ممكنة لعله يأتيه بإجابة صرخ صرخة غير مسموعة وظن أنها دوت في المكان
-انه الكابوس الطفولي الذي كان يتردد علي مناماتي حينها ويفزعني..
- لم يكن حلما بل فاجعة أرقتني كثيرا واسقطتني من فم الأيام مراراً وها أنا أسقط بذاكرتي الي هوة الحلم ذاته بل سقطت كلي من الحلم نفسه لأراني ممدا.
- لقد وقعت من رعبي الشاهق..
-نذرني لأول مرة وأنا في الرابعة من عمري كان يتردد عليّ بشؤم تخطي غضاضة مخيلتي حتي أوقعني حين تركته يستعمر سنوات عمري
إنه الخوف اللعين كاد أن يجرجر ساقيّ الي الموت..
الغريب أنني خفت من السقوط نفسه ، ولَم اخف من الموت ولكنني فزعت حين كنت أراه يكتب موت أحبائي.
لذلك وقعت خوفاً ونجوت من موت محتم..
أخذ يلهث محاولاً استرداد أنفاسه كان انفعاله واضحا للجميع
عيناه، تعابيره الفزعة
تقطيب حاجبيه ..
أطلق زفرة قلقة ونطق بأول كلمة..
أمي
اقتربت أمه منه ووضعت رأسها الي جانب رأسه ممسكة بطرف الصورة..
إنها لقطة جمعتنا في يوم عيد وكنت سعيدا في ذلك اليوم لأن أباك اشتري لك لعبة عبارة عن سيارة تتحكم فيها عن بعد
ويوم قال لي الطبيب إنك تستطيع السماع
قلت : سأروي لك حكاية فرحك الطفولي وأضع الصورة بين عينيك وأروي لك تفاصيلها بصوتي ..
كنتُ في كل مرة أرويها لك يتحرك جزء منك ويخبرني الطبيب أن أعضاءك الحيوية تعاود العمل ببطء حتي استعدت وعيك.
- الحمد لله يا حبيبي.
- آه يا أمي!
لو نطقت الصورة وقتها وروت لي كل الحكاية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى