جورج سلوم - عودة عنترة

عندما أحاطت البنادق بالمدينة كإكليل الشوك ..ودخلت الخيل بين المضارب ..واختلط الصهيل بالبكاء والعويل ..ونادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور ...كان ذلك بمثابة النفير وبوق الرحيل ..

فارحل الآن وإلا ..

أظن ساعتها أن عنترة أيضاً سيرحل ويقلّد شيبوباً ويجري هارباً ..فالعين لا تقاوم المخرز ..والسيف الأبتر تثقبه طلقات المدافع الرشاشة ..والشهداء على عتبات البيوت سيجرفون إلى مقبرة جماعية ..والسبايا سيساقون إلى سوق النخاسة

تلك المدينة كانت الأرواح تتصاعد منها كالقوافل ..زرافات ووحدانا ..والأجساد تتفرق دونما اتجاه ..كالنمل يتفرّق عندما تُداسُ أعشاشه ..وصراخ النمل لا نسمعه ولا نحصِ كم داست أقدامنا ...وفي النهاية يرشون النفط على الأعشاش ويسلمونها للنار .

وعندما التقى بعبلة ثانية ..وكانا ضيوفاً في مضارب بني ( حَبَش )..كانت عيناها غارقتين بالكحل العربي .. فبان حسنهما من فرجة النقاب ..لكنها قالت ساخرة :

-للمرة الأولى رأيتك سريعاً في العدو ياعنترة ..كان شيبوب وراءك وسبقت القوم على قدميك

قال:

-لولا سيفي الثقيل الذي خبّأته في عباءتي لرأيتِ مني العجب ..في الجري والهرب ..أما إقدامي وشجاعتي في المعارك فسببهما حصاني الأبجر الذي لا يدير ظهره للأعداء أبداً ..فهو يكرّ وأنا أفرّ ..وعندما يجتمع الكر والفر يثبت المقاتل في المعمعة حتى ينتصر.



-وماذا ستفعل بالسيف الصقيل ؟

أطرق إلى الأرض..يريد أن يخفي عينيه ...ثم قال بصوت خافتٍ وخجول

- بِعْته ..

ظهرت علامات الانبساط والسرور على عبلة ولكنها أخفت ذلك ..كما يخفي المرء علامات سعادته لوفاة منافسه الأوحد فيُظهِر انفعالاً مصطنعاً ..كان السيف الأبتر منافساً لها في قلب عنترة ..يلازمه ولا يفارقه ..بل كان يقبّله إذا لمع كبارق ثغرها المتبسّم ..

أمسكت بيده مواسية ..فاستعاد شجاعته ..وانطلق لسانه ..وقال مستخفّاً بالحدث :



-بعته بالعملة الصعبة ..مطلوبٌ كثيراً للمتاحف العالمية ..فعليه آثار دماء القبائل العربية ..يريدون تحليلها لمعالجة أمراض الجاهلية ..وأعطوني هذا المسدس كهدية

- ست طلقات ؟.. إنها لا تشفي الغليل..قد تطلقها في عرسنا ..فماذا ستفعل ؟

- يرسلون المزيد ..ولكن يريدون دائماً معرفة الهدف .

- والأبجر المقدام ..ماذا فعلت به الأيام؟

- يستعملونه لتلقيح الحمير ..يريدون بغالاً قوية للحمل ..لكنها لن تلد ولن تبيض.

وعندما بحث عنترة في الانترنت ..وجد صفحة الخنساء ..وكانت تبكي صخراً ..والزير يبكي كليباً ..والقدس تبكي أقصاها ..فشاركهم الصفحات وأصبح صديقهم على (الفيس بوك )..وشاركهم بالشعر الرقيق رثاءً .

وأعجب بصفحة المتنبي ..وساعده بوصف الخيل والليل والبيداء ..وهو خبيرٌ بهم

واستنكر صفحة أحمد شوقي (كأمير للشعراء )..إذ وجد لديه العديد من الأخطاء فمن ولاه على الشعراء..واستغرب قصيدته التي سقط الحمار فيها من السفينة في الدجى ...وعقّب عليها بتعليقاتٍ مثيرة ..وهو ضليع بالتعليق إذ أنه من أصحاب المعلقات السبع.

واستهجن صفحة نزار قباني وعشقه للنهود ..وخاف أن تراها عبلة فحظرها من جواله ..لكنه كان يتمنى أن يرتدي عباءته التي فصّلها من جلد النساء ..وأن يرى أهرامه التي ابتناها ..من الحلماتِ .

وشارك أخيراً بغزوة عربية على ( تويتر )...حتى تلوّنت صفحاته بالدم ..وكان فتحاً حصد إعجاباتٍ هائلة

كان سعيداً في بني حبَش ..فالديمقراطية أوصلت عبداً إلى الرئاسة ..وهو العبد ابن زبيبة ..وتذكّر كم عانى رغبة بالعِتق وولهاً بالعِشق !

وعندما عاد أخيراً إلى بني عبس ..كانت كلها أطلالاً خربة ..فوقف على الأطلال التي عرفها بعد توهّمِ ..وأطلق من مسدسه السداسي سبع طلقات في الهواء !

..واستغربت عبلة ذلك ..لكنها فطنت أنه غافلهم وسرق واحدة ..كما يسرق منها قبلة ..كقبل امرئ القيس ..كثيرة فاقت التسعة والتسعين ..لكن الأخيرة كانت على عجل !

عاش عنترة وعبيلته في قبيلته التي أتى الزمان عليها ..بعد طول حروب ..وسميت (بني يأس ) وليست (بني عبس )!

مسدسه كان فارغاً ..فلم يوافقوا بعد على إمداده بالذخيرة ..ولا أحد يعلم ذلك إلا عبلة ..لذا لم تعد تحسب له حساباً ..وواعدت رجالاً غيره من الصعاليك عند غدير (ذات الآصاد)

وبقي مسدسه الفارغ معلقاً على جنبه ..وينام في حضنه ..ويخيف به أبناء جلدته فقط .

***************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى