أدب مغربي قديم في الأدب المغربي القديم : عبد الله كنون الحسني - ماضي القرويين وحاضرها - 2 -

ولم يصل الاشتغال ببقية العلوم الإسلامية بالقرويين إلى درجة الاشتغال بالفقه ولكنه لم يقصر عنها كثيراً؛ فكانت علوم الحديث والتفسير والأصول مما لم ينقطع تدريسه في الكلية في أي عصر حتى العصور المتأخرة. حين كان بعض هذه العلوم في بلاد أخرى لا يقرأ إلا للتبرك بسرده. وكانت هذه الدراسة مجال البحث والاستنتاج وفرصة المحاضرات القيمة في التربية والتهذيب، وحسبك أن تقرأ وصف مجلس من مجالس العلامة أبي القاسم العبدوسي الذي قضى التونسيون العجب منه في ذلك الوقت وأن تعلم أن ابن الصباغ أحد رجال هذه الجامعة أملى علي حديث: يا أبا عمير ما فعل النفير 400 فائدة

ومن ثبت أسماء النابهين في هذه العلوم وأسماء مؤلفاتهم تدرك مبلغ القيام الذي كان لأهل القرويين عليها. ونحن نذكر بعض البعض ممن نعرفهم ونعرف انقطاعهم في الكلية الذي تنقطع دونه الأطماع، ولا يمنعنا من التبسط في شرح ذلك إلا إرادة الإيجاز وخوف الإملال وهؤلاء مثل العالم الصوفي الجامع علي ابن حرزهم المتوفى سنة 550 والمتكلم أبي بكر السلالجي صاحب البرهانية في علوم الاعتقاد، كان يعد في طبقة أبي المعالي الجويني؛ توفى سنة 564، والمفسر المحدث ابن عبد الجليل القصري المتوفى سنة 615، والمفسر الأصولي أبي عبد الله المزدغي المتوفى سنة 655 والمحدث الرواية ابن رشيد السبتي المتوفى سنة 692، والعالم الصوفي الجامع الشيخ زروق المتوفى سنة 899، والحافظ أحمد بن يوسف الفاسي المتوفى سنة 1021، والحافظ أبي العلاء العراقي المتوفى سنة 1183 والمفسر المتكلم الشيخ الطيب ابن كيران المتوفى سنة 1227

ولا ننس أن ننبه إلى ما كان لعلوم القراآت من شأن كبير في الكلية فقد كانت العناية بها شديدة في كل عصر، وكان يتخصص فيها كثير من العلماء فضلا عن مشاركة جمهورهم فيها، لأن أوائلها كانت تتلقى في الكتاتيب القرآنية التي ما كان يتولاها إلا كبار الأساتذة المتحققين بتلك العلوم وغيرها. تأتي هي الثانية بعد الفقه في برنامج العلوم التي كانت تدرس في القرويين وفي جميع المغرب. ويكفيك أنه كان لطلبتها مدرسة خاصة ب مدرسة السبعيين (أي القراء بالروايات السبع) الواقعة بازاء مدرسة الأندلس والتي كانت قد درست معالمها وأغلقت منذ مدة ثم هي الآن قيد الإصلاح والترميم.

ومن نبغاء خريجي القرويين في هذه العلوم ميمون الفخار صاحب التحفة والدرة وغيرهما المتوفى سنة 716 وابن بري صاحب الدرر اللوامع المتوفى سنة 731 والخراز صاحب مورد الظمآن المتوفى سنة 818 وسواهم كثير.

وأما علوم اللغة والأدب فقد ظلت الكلية رافعة رايتها منذ انبثاق فجر النهضة العلمية في المغرب على عهد المرابطين إلى يوم الناس هذا. ومر عليها زمن لم يكن ينافسها معهد آخر أيا كان في أداء رسالة الأدب العربي والقيام على حفظ تراثه من الضياع، وذلك حين يقول الشيخ محمد بيرم الخامس في كتابه (صفوة الاعتبار): (لعمري أن صناعة الإنشاء في الدولة باللغة العربية كادت تكون الآن مقصورة على دولة مراكش)

ولقد درج في الكلية من فطاحل علماء اللغة وكبار أهل الأدب ما بقي فخراً لها على مر السنين والأعوام، مثل الشاعر الأديب يحيى بن الزيتوني الذي قهر ابن زيدون في بلاط ابن عباد، والشاعر الباقعة ابن حبوس الفاسي، والعلامة ابن رقية من ذرية المهلب ابن أبي صفرة كان حجة في الأدب وله كتاب في الشعر والأنساب توفى سنة 606هـ. والشاعر المشهور أبي العباس الجراوي الذي يعد من مفاخر هذه العدوة، وصاحب كتاب صفوة الأدب وديوان العرب المعروف بالحماسة المغربية الموجود مختصره في مكتبة بالأستانة توفى سنة 609 بعد وفاة المنصور الموحدي مخدومه بنحو 14 عاماً خلاف قول ابن خلكان أنه توفى في آخر أيامه. والشاعر الفيلسوف أبي العباس الجزنائي الذي كان محفوظه من شعر المحدثين فقط عشرين ألف بيت. توفى سنة 479؛ والنحوي أبي عبد الله بن آجروم المشهور المتوفى سنة 723؛ والنحوي اللغوي أبي زيد المكودي المتوفى سنة 807 والنحوي أبي العباس القدومي المتوفى سنة 992، والأديب الشاعر الناثر عبد العزيز القشتالي، مفخرة المغرب في عصره، المتوفى سنة 1032؛ والنحوي محمد المرابط الدلائي المتوفى سنة 1089؛ والشاعر الأديب أبن زاكور شارح الحماسة والقلائد وصاحب كثير من الكتب الأدبية القيمة المتوفى سنة 1120؛ والشاعر الرقيق ابن الطيب العلمي صاحب الأنيس المطرب المعروف المتوفى سنة 1134؛ وإمام أهل اللغة في عصره أبي عبد الله محمد بن الصميلي صاحب الحاشية الفريدة على القاموس الذي استقى منها كثيراً السيد مرتضى صاحب (التاج)، وعنه يعبر بشيخنا وله عشرات الكتب غيرها في اللغة والأدب توفى سنة 1170، إلى غير ذلك. . .

بقى الكلام في العلوم الفلسفية بمعناها القديم الذي يشمل الرياضيات والطبيعيات ومنها نوعان لهما ماض زاهر في الكلية، فمنذ انضمام الأندلس إلى المغرب في أيام المرابطين، جعل الاحتكاك بأهل الجزيرة يفعل فعله في توجيه أنظار أهل هذه البلاد إلى الأخذ بأسباب تلك العلوم، وكان أن انتقل إلى هنا - بانتقال الدولة - كثير من علمائها المتحققين بأجزائها فتهافت عليهم طلبة القرويين يقتبسون من مشكاتهم ويأخذون بأدواتهم فما لبثوا أن شاركوهم في جميع تلك التعاليم ونظروا إليها نظرتهم ونبغ منهم أفراد كثيرون كان لهم قياس (حس) على فنون من العلم الطبيعي والرياضي والإلاهي وآثار جميلة في جميع ذلك وما برحوا عاملين على بثها ونشرها والتواصي بتبليغها وتلقينها لمن يأتي بعد جيلاً فجيلا حتى تأدت بقية منها إلى العصر الحاضر في مظهر من البلى والقدم لا يٌرضي أنصارها ومحبيها وإنما كان ما تحت ذاك المظهر لا يزال يحوي كثيراً من الفوائد القيمة والحقائق العلمية الثابتة

فمن رسل الثقافة العلمية من أهل الأندلس إلى المغرب أبو بكر ابن باجة الفيلسوف والعالم الطبيعي والرياضي والطبيب والموسيقار المشهور، وأبو العلاء بن زهر الطبيب البارع المدقق في شتى الأمراض، وابنه أبو مروان صاحب كتاب التيسير في المداواة والتدبير، والذي أثر تأثيراً بليغاً في الطب الأوروبي بترجمة كتبه وهو ميت فكيف يكون تأثيره في المغرب وهو حي؟ وأبو بكر ابن طفيل الفسكسي والطبيب والفيلسوف المشهور صاحب قصة حي بن يقظان وأبو الوليد بن رشد الذي ما أثر تأثيره أحد في نهضة العلوم بأوربا. وقد كان في بلاط الخليفة الموحد يوسف ابن عبد المؤمن الذي بلغ في رعايته وإكرامه وهو الذي حمله على شرح كتب أرسطو وتلخيص فلسفته

ومن الأفراد النابغين في هذه العلوم من أبناء البلاد الذين درجوا من الكلية وتخرجوا فيها العلامة أبو الياسمين كان فرداً في العلوم الرياضية من هندسة ونجوم وعدد، وله أرجوزة في الجبر قرأت عليه بأشبيلية سنة 587 وكان هو الذي نشر ذلك العلم بها. ويوسف بن مأمون الإسرائيلي الطبيب والرياضي الكبير قرين موسى بن ميمون وصاحبه بمصر واجتمع هو وإياه على إصلاح ابن افلح الأندلسي. وهذا وان لم يدرس بالقرويين فإن تخرجه على يد علمائها لأنه من أهل فاس وبها درس كما يقول ابن القفطي. وابن البناء العدوي، العلامة الرياضي والفلكي والطبيب المشهور له موضوعات كثيرة في الحساب والجبر والفلك وغير ذلك وتفوق على كثير من علماء الرياضة قبله سواء في الشرق أو المغرب وخاصة في حساب الكسور، توفى سنة 721؛ وابن أبي الربيع اللجائي العالم الرياضي الفلكي المبدع له أعمال متفوقة وآلات نافعة في علم الهيئة، وكانت وفاته سنة 773 والعلامة الجادير صاحب روضة الأزهار في علم الهيئة المتوفى سنة 818؛ وأبي الفديم الوزير الطبيب والعالم النباتي المشهور صاحب مدينة الأنوار في شرح ماهية العشب والأزهار، وكان طبيب المنصور الذهبي الخاص. وأبي القاسم الغول العالم الرياضي والطبيب مؤلف كتاب حافظ المزاج ولافظ الأمشاج المتوفى سنة 1059 وابن حميدة المطرفي صاحب المقرب في الهيئة المتوفى سنة 1001، وأبي سليمان الشروداني الفيلسوف والرياضي البارع له أعمال وآلات لم يسبق بها في الفلك توفى سنة 1095 وعبد الرحمن العبابي العلامة الطبيعي والرياضي والفيلسوف مؤلف الأنتوم في مبادئ العلوم تكلم فيه على زهاء (150) علما واستوعب نظرياتها واستوفى حدودها فهو من الموسوعات العظيمة الفائدة توفى سنة 1096، وعبد الوهاب أدران الطبيب المدقق صاحب الذيل على أرجوزة ابن سينا وغيره من الكتب الموضوعية المتوفى سنة 1159، وعبد القادر بن شقرون صاحب الشقرونية وغيرها في الطب، وكثير غير هؤلاء لم نشر إلى أسمائهم اختصاراً لحصول المقصود من الرسالة على ما قامت به هذه الجامعة في الماضي من نشر الثقافة العلمية وتأدية رسالة العربية كما حملت. ولهذا لا يستغرب أن يؤمها الطلبة من أقصى بلاد أوربا وغيرها، فهناك في تلك العصور التي يدعونها عن حق - بالعصور المظلمة - لم يكن قد تقرر للعلم مدلول بعد. وقد اشتهر كثير ممن درس فيها من الأجانب وكان لهم تأثير قوي على العقلية الأوربية في ذلك الحين، ومن أعظمهم البابا سلفستر، الذي هو أول من أدخل إلى أوربا الأعداد العربية التي لا تزال مستعملة في المغرب إلى الآن وتعرف بحروف (الغبار) أو (بالغباري) بدون إضافة

ثم إن نظام الدراسة في القرويين لا يختلف عما هو عليه في الجامعات الإسلامية الأخرى، كما لم يختلف عما كان عليه منذ الأزمان المتطاولة: يجلس الأستاذ فيحلق عليه الطلبة ويأخذ في إملاء درسه الذي يكون في الغالب تفسيراً لمتن وتقريراً لأقوال شراحها ونظراً فيما بينها من الاختلاف، وقد ينجر به الحديث إلى الخروج عن الموضوع، إنما إذا كان ضليعاً في مادته واسع الاطلاع عظيم المحفوظ فلا خوف على الطالب من ذلك الخروج، بل أنه ليستفيد منه ما لا يقدر أن يجده في كتاب أو يهتدي إليه بمجرد فهمه

وإذا كان الطالب ممن لازم الحضور بمجلس أستاذ ما، وظهرت عليه مخايل النجابة فانه يحق له أن يتقدم إلى ذلك الأستاذ بطلب إجازة تكون - كأنها أهم ما أنشأه في حياته الدراسية - بمثابة أطروحة منها تتقرب منزلته في التحصيل

(يتبع)

(طنجة)

عبد الله كنون الحسني


مجلة الرسالة - العدد 268
بتاريخ: 22 - 08 - 1938

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى