عمر الدسوقي - في اللغة.. المؤنث والمذكر في اللغات السامية

(نقدم إلى قراء الرسالة كاتبا جديداً من نوابغ الشبان الذين جمعوا بين الثقافتين الشرقية والغربية وهو الأستاذ (عمر الدسوقي). فقد تخرج في دار العلوم سنة 1932 ثم أرسل إلى إنجلترا للتخصص في اللغات السامية، فدرس منها الحبشية والحميرية والآرامية والعبرية، ودرس إلى جانب ذلك اللغات الفرنسية في إنجلترا وجرنوبل بفرنسا، والألمانية بإنجلترا وجامعة (بن)، ودرس أيضاً الفلسفة في جامعة لندن، وحاز على بكالوريوس الشرف في اللغات السامية من معهد اللغات الشرقية بلندن. وقد وعد الأستاذ أن يخص الرسالة ببحوثه القيمة في المواد التي تخصص فيها)

ما الفكرة التي حدث بالساميين إلى تأنيث بعض الأسماء وتذكير بعضها الآخر؟

وهل كان هذا التقسيم معتمداً على فكرة تشبعت بها أذهانهم وتصوراتهم أم كان ذلك عفواً ومن غير قصد؟ لماذا كان الذهب مذكراً والفضة مؤنثة، والكرسي مذكراً والمائدة مؤنثة، والبيت مذكراً والدار مؤنثة، والقمر مذكراً والشمس مؤنثة؟

تسأل علماء اللغة وكتب اللغة فلا تجد جواباً شافياً، اللهم إلا هذا التقسيم القديم، وهو انقسام الاسم إلى مذكر ومؤنث، والمؤنث إلى حقيقي وغير حقيقي ومعنوي ومجازي ولفظي؛ ولكن لماذا لحقت تاء التأنيث وأخواتها المؤنث غير الحقيقي؟ أو لماذا اعتبروا بعض الأسماء مؤنثاً ولو لم تكن بها إحدى علامات التأنيث؟ هذا ما سيدور عليه البحث الآتي: -

نجد في اللغات الأوربية الهندية مذكراً ومؤنثاً، وألفاظاً لا هي بالمذكرة ولا هي بالمؤنثة، وهي ما تسمى بالإنجليزية وأن بعض اللغات الأوربية قد اقتصر على المذكر والمؤنث كالألمانية والفرنسية ونجد بعض كلمات في الإنجليزية مؤنثة أو بعبارة اصح تعتبر مؤنثة، مع أنها بعيدة عن فكرة التأنيث حيث (الجنس) أي فمثلاً كلمة سفينة مؤنثة، وكلمة أي قمر مؤنثة، وكلمة أي آلة مؤنثة، ولكنها كلمات قليلة لعلها أثر من آثار الماضي. أما اللغات السامية فقد اتحدت على تقسيم الاسم إلى مذكر ومؤنث، واتحدت في الأسماء التي تؤنث، وهذا ما جعل المستشرقين - ما عداً نولدكه وفنسنج - يقولون إن الساميين قد قامو بهذا التقسيم حينما كانت لغتهم لا تزال لغة واحدة - وإن نظريتهم إلى الأشياء كانت نظرة عميقة جعلتهم يتخيلون فيها المذكر والمؤنث.

اعتبر العرب بعض الأسماء مؤنثة وإن لم تكن بها علامة تأنيث، ولا تدل على مؤنث من حيث الجنس كالدار والنار، والذراع والإصبع، والسوق واليمين، والأرض والأذن والعين والسن والشمس والحرب، وهذا ما يسمى مؤنثاً مجازياً؛ وتجد من هذا النوع خمسة عشر اسماً في جسم الإنسان، وأحد عشر اسماً من أسماء الآلات، وأحد عشر اسما لأجزاء السماء والأرض، واسمين للأمكنة، وخمسة للحيوانات. ويلاحظ أن هذا المؤنث المجازي يخرج تدريجيا في بعض اللغات السامية من المؤنث إلى المذكر؛ فمثلاً كلمة (رحى) وكلمة (كأس) نجد كلاً منهما في العربية والسريانية مؤنثة وفي الآرامية مذكرة، ومؤنثة تارة ومذكرة أخرى في اللغة العبرية. وخذ مثلاً كلمة (شمس) تجدها مؤنثة دائماً في اللغة العربية، ومذكرة دائماً في الآشورية، ومؤنثة تارة ومذكرة أخرى في الآرامية والعبرية.

أما في الحبشية فقد تطورت هذه الكلمات تطوراً آخر، فحينما نسي الناس الفكرة الأصلية للمؤنث والمذكر حدث خلط حتى في الكلمات المنتهية بإحدى علامات التأنيث

ويظهر أن هذا الانتقال من المؤنث للمذكر لم يتبع في كل حال انتقال الكلمة من معناها الأصلي إلى معنى جديد كما حدث في كلمة (دار) حين أصبحت في العبرية (دور) بمعنى الجيل، وانتقلت بذلك من المؤنث إلى المذكر، بل ربما كان هذا الانتقال لضعف فكرة التأنيث كما في (رحى، وكأس).

وقد أسترعي نظر بعض العلماء وجود علامات التأنيث لا في الاسم الدال على مؤنث حقيقي فحسب، ولا في الاسم التي اعتبرها الساميون مؤنثة لفظاً، بل في بعض المصادر وبعض الجموع، وكثير من الكلمات التي تدل على الكثرة والقوة. فنجد الألف المقصورة علامة من علامات التأنيث. كما في سلمى وحبلى، وليلى؛ ونجدها في جمع فعيل، كصريع وصرعى وجريح وجرحى، وقتيل وقتلى، وميت وموتى. . . الخ. ومعنى هذا أنه لا فرق في العلامة بين صيغة المؤنث وصيغة الجمع.

ونجد الألف الممدودة علامة من علامات التأنيث كما في شقراء وزرقاء وصحراء، وورقاء، ونجدها في جمع فعيل بمعنى فاعل إذا كان وصفاً لعاقل معتل اللام أو مضعفاً مثل أغنياء وأشداء وأقوياء؛ ونجدها كذلك في جمع فعيل بمعنى فاعل وصفاً لعاقل غير معتل اللام ولا مضعفاً مثل كرماء وجبناء، وبخلاء وسعداء وعظماء؛ وهذان الجمعان من جموع الكثرة.

ونجد أيضاً التاء علامة من علامات التأنيث كما في فاطمة وسكينة؛ ونجدها كذلك في بعض أوصاف الذكور للمبالغة كعلاقة وفهامة وبحاثة، ورواية ونابغة، وداهية وقعدة، وجثمنه، وضجعة ونؤمة، وفي العبرية (قُوِحِلة) وهو الذي يؤم الناس في الصلاة. ونجد أيضاً هذه التاء تلحق الجموع لفاعل وفَعلة، وخائن وخونة، وعامل وعملة، وكاتب وكتبة، وكامل وكملة، وطعام وأطعمة، وغلام وغلمة، وصبي وصبية، وجهبذ وجهابذة؛ وفي العبرية (أو رحاه) جماعة المسافرين.

وتأتي هذه التاء في المصدر كتجارة وزارعة وصباغة، وحمرة وزرقة ودكنة وعذوبة ونباهة، ومجادلة ومسابقة ومخاصمة، ودحرجة ووسوسة وبعثرة وزمجرة، وتلبية وسيطرة

والتاء في السريانية كعلامة للمبالغة والكثرة والمصدر والمؤنث ليست نادرة ولكنها تأتي مع (آن) وذلك موجودة بالعربية أيضاً؛ فعندنا في المصدر غليان وفيضان وخفقان، وفي الوصف عطشان وظمآن، وفي الجموع إخوان وفرسان وشجعان وفتيان وغلمان وولدان وسودان وحمران، وهي الصيغة المألوفة في الحبشية لجمع العقلاء ونعوتهم؛ ونجدها في العبرية بأسماء التفضيل دلالة على بلوغ النهاية (ريشون) الأول، و (آمرون) الآخر و (حيصون) الخارج، و (حيخون) الداخل و (عليون) الأعلى. . . الخ

وتأتي في الآرامية علامة لجمع المؤنث. ويقول الأستاذ مولر إنها كانت أول الأمر (آت) كما في مسلمات وفاضلات، وأصبحت (آن) قياساً على جمع المذكر في الآرامية وعلامته الياء والنون

وليست هذه العلامات قاصرة على المؤنث والجمع والمصدر، ولكنها تلحق الكلمات الدالة على أمور معنوية: مثل رحمة، ورأفة، وشفقة، وقسوة، وغلظة، وكرة، وحياة، وشقاوة، وسعادة وبلواء وبأساء وبغضاء، والعلامة هنا تدل على (شدة) ومتانة في المعنى كما يقول العلامة فنسنج ويقول أيضاً إنها تلحق المصغر لتفخيمه وتعظيمه مثل حديا وعجيلي وحميا

يدلنا كل هذا على ما يأتي: - أولاً: ليس للمؤنث علامة خاصة به من حيث كونه مؤنثاً باعتبار الجنس.

ثانياً: وجود صلة وثيقة بين المؤنث والجمع والمصدر والأسماء، الدالة على الكثرة والقوة والأمور المعنوية

ثالثاً: هذه الصلة هي دلالة الجمع على بلوغ النهاية وتركز الفكرة ومتانتها

رابعاً: وعلى هذا فالفكرة التي حدت بالساميين إلى تأنيث بعض الأسماء تأنيثاً حقيقياً أو غير حقيقي هي دلالة هذه الأسماء على بلوغ النهاية في بابها أو لعظمتها وما عليك إلا أن تقرأ صفحة من أحد معاجم اللغة في باب الهاء لترى ذلك واضحاً جلياً: فالقهقهة شدة الضحك، والكمه العمى يولد به الإنسان، والكنه جوهر الشيء وغايته، والكهة الناقة الضخمة المسنة العجوز. . . الخ

وسأبين في المقال الآتي إن شاء الله لماذا نظر الساميون هذه النظرة المملوءة إكباراً وتعظيماً للمؤنث.

عمر الدسوقي
بكالاريوس الشرف في الآداب من جامعة لندن
ومدرس بحلوان الثانوية



مجلة الرسالة - العدد 284
بتاريخ: 12 - 12 - 1938

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى