حنون مجيد - الجلسة الدامية.. قصة قصيرة

إلى محمود الظاهر في حياته


وأنا أفكر بأن موته قد يحلّ قريباً انتظرته ، قبل أن أعلم أن موعداً آخر سيربطني به لنمشي معاً على كورنيش شط العرب ، نجلس هناك، نشرب القهوة والشاي، وسيكون آخر ما نفكر فيه، كيفية النفاذ الى خفايا الصوب الآخر، بعد أن تتحول المرئيات هناك الى أشباح تغلفها عتمة المساء .

قطعنا جسر الخط السريع سيراً رهواً، وما يزال في فضاء الساعة نفح ريح طيبة ، وأغلب الظن أنها حصلت لأننا على مرتفع الجسر ، وعلى جانبينا امتدادت فسيحة تسمح للريح ان تكون عذبة وتلعب بلين. ساوقت حركتي مع حركته الوانية ، وطفقت أحاذي سياج الجسر العالي حذر أن تأخذ به ريح ،إن هبت قوية، من خلال الفتحة التي أحدثها تخريب في السياج الحديد، وترميه من عِلّه على طريق سريع لتتهشم عظامه هناك أو تفترس لحمه سياراته المسرعة. سألني إن كنت في حال حسن فأجبته أن نعم ، وكنت أفكر في تسديد دينه عليّ وأخطط لتنفيذ ذلك. حددت أن يكون موعد خروجنا من الدائرة بعد خمس ساعات من الآن، أي في تخوم الثالثة من بعد الظهر، ثم قضاء وقت آخر في مطعم أو مقهى. انتظرته بالرغم من أنّ موعدنا القديم لم يتأكد من أيٍّ منا مرة أخرى، كان موعداً فضفاضاً كما لو أننا كنا نطرد به لحظة سأم.سنكرر جلستنا الفريدة هذه، ستكون هذه المرة على حسابي ولا تفكر في ما قد ننفق عليها من نقود، ستكون ضيفي الممتاز. لم يكن الموعد أكثر من هذا. أطرق برأسه واستسلم للموعد الهلامي الذي كنت أريد به أن أحقق معه صداقة كنت أحسب أنها ستكون جميلة.لم نلتق على مائدة واحدة سوى تلك المرة التي عدّها فريدة فاندفع لدفع فاتورتها، أما اللقاءات الأخر فكانت على مستوى ما يلتقي عليه، مرتين في الأسبوع ، موظفون متقاعدون يعملون ،طرداً للملل، في دائرة ثقافية تقبع في أقاصي بغداد بأجور يومية رمزية. يتباطأ ، وهو السبعيني النحيف كالخيط الحرير، في مسيرته ، ولكي يعبر الشارع ويرتقي سلم مقترب الجسر أصبح لزاماً عليّ أن أنتظره على قاعدة السلم العليا . كان انتظاراً شيقاً ومفيداً ، لأنفذ موعدي السابق معه، وأسترد أنفاسي ثم أتابع خطواته البطيئة المتأنية التي تحاذر أن تخرج على قانون عمره وجسده. لم يشاهد انتظاري ، إذ لم يرفع نظراً فوق رأسه ، لكنه لما اقترب مني ورأى يداً تمتد اليه في طرفة حسبها ممتعة ، بادرني بابتسامته الجميلة المريحة ومد يده لمصافحتي. كانت ثمة فراشة تلعب وحيدة في الفضاء المرتفع فوق رأسينا تظهر وتغيب كما لو أنها تخاتلنا. لا أحد يدري ما الذي ارتفع بها إن لم تكن نفذت من فضائها الخانق تحت ،أو هي تبحث عن رفيقها الضال فوق. كنت أعتقد أن صداقتي معه بدأت تتوطد لحظة بعد أخرى ،ولا سيما بعد أن أطلعته عرضاً على علاقتي بزوجتي. لم أشأ أن أقف طويلاً عند دافع نصيحته الحارة بالحفاظ على تلك العلاقة، إلّا بعد أن عرفت برحيل زوجته منذ عشر سنوات،وها هو يعيش في فندق غريباً الاّ عن نفسه وحدها ، بعد أن تناءى ، ليس أبداً، عن مدينته البصرة التي قضى فيها أجمل سنوات عمره. كنت زرته مرة في فندقه المتواضع وسررته بميلي للحياة في فندق أو مستشفى، لما يتوفر في كل منهما من عزلة وانفراد .لم أعش حياة الفندق طويلاً لكنني رقدت ، صبياً ،في مستشفى سنة كاملة، كان لي فيه ذكريات جميلة ، ولربما بزغت في قلبي الصغيرهناك ،أولى تباشير حب وليد يوم رأيتها تستقبل أمها الزائرة في حديقة المستشفى الغنّاء.لم أكن أعرف ماذا كانت تقول لي عيناها المزروعتان في عينيّ ،غير أنهما تنظران إلي بحنان. السنوات الطويلة التي مرت لم تنسني اسمها دليلة ، كما لم تمنع قلبي من ارتجافة خفية تراوده كلما تذكرتها.كانت فتاة جميلة ،لم أكن أصدق أنّ مثلها ستكون يوماً مريضة . من هناك سنعرف في أي حانة أو ناد سنحل ، خطانا هي التي ستقودنا ، ولما كنت أعلم أن سنواتنا المتعبة لن تسمح لنا بالمضي طويلاً للبحث عن مبتغانا البعيد اقترحت عليه نادياً قريباً ، فيه من وسائل الراحة ما في نادينا الأنيق ذاك. إن أكثر ما سحره هناك ، فيض الهواء البارد ، و نظافة المكان والهدوء الملائكي لندل أنيقين. ها هو يدب بعدي ، يحمل بعناء ظاهر سنوات عمره الذي لم يكن كلّه سعيداً ، ولأننا متقاربان في العمر فلقد بتّ أنتظره لحظة بعد أخرى بلا ملل منه . لم نخرج من الدائرة في الدقيقة ذاتها ، إلا أنّ خمس دقائق انتظارٍ بعد الثالثة لم تكن كافية لتتذمر من موعدك مع صديقك لا حبيبتك. كنا دخلنا الدائرة معاً خطوة تتبع خطوة أو خطوة تجر أخرى ،حتى بلغنا نقطة محددة افترقنا منها كل الى مكان عمله لنمكث هناك ساعات.

– انت تقودني الى أشياء جميلة لم اعرف بها قبلاً وهي قريبة من سكني.

يقول متأملاً المكان الذي بهره ظله البارد وهدوؤه التام قبل أن يتحرك نحوي، أنا الذي أخذت مكاني قبله ، مستنشقاً أكبر كمية من هواء عذب طفق حال دخلت ، يتسرب الى جسدي جميعه وينعش قلبي.

– هلم فوقتنا محدود.

تلبث في مكانه ، سحره المكان لا ريب، بل ربما أنساه أولاً ذلك المكان الساحر حقاً لحظة غشي فؤاده الرقيق هواؤه العذب.كنت ، لحظتها، كأنني أرى قلبه الصغير بحجم قبضة يده الناحلة وكيف كان يخفق أو يرف. استدعيته مرة أخرى لأقبض سريعاً على رضاه ، أو لأنجز بفخر وعدي له.

كان ثمة ثمل أسرف في الشرب يقرأ قصيدة بصوت هادىء وبحروف مدغمة، لكنها بدت مفهومة له لأنه كما بدا لي يحفظ جملة من أبياتها:

إن رمت توطئة المهام الأصعب = فاركب من الأقدام أخشن مركب

تحرك ببطئه المعهود واحتل مكانه جوار الرجل الثمل، مستغرقاً في فسحة المكان والأعمدة الكثيرة التي تنتصب متوازية لتترك لنا فضاءات على هيئة ممرات مفترضة.

لم أكن راغباً في رؤية الرجل الثمل مباشرة، مكثت في مكاني استمع الى أوائل أبيات قصيدته، وأشغل نفسي بالتطلع في النقوش والخطوط الكوفية التي شغلت حيزاً كبيراً من صفحة العمود الذي يفصلني عنه.

ونحن ننسرب نحو مجلسنا البارد عبر الممر الجانبي للمركب الذي أمسى مقهى على النهر ونجلس وحيدين مجاورين لمجرى الماء ، نتحدث همساً او نستمع لغناء احتفالي يأتينا من فوق، كنت أقول أتؤمن أن أحداً مشى على الماء أو آخر انشق به البحر؟ في الحب ، في الحب وحده ، يرد ثم يهوّم في البعد الاخر شبه القصي. وتحت عينيه تتتابع امواج شط العرب دفينة مدلهمة وكأنها أمواج بحر قبل أن يهيج . جلسنا متقابلين تسودنا لهفة حارة الى تناول مشروبنا البارد، والنظر من حين لآخر إلى جسد أجمل نادلة تلبي طلبات زبائن الجناح الآخر المفصول نسبياً عنا. هنا وهناك انتشرت الموائد بجلاس مغمورين في دخان سجائرهم وهمس أحاديثهم، وكأن هنالك اتفاقاً على أن لا يعلو صوت على صوت الرجل ، حتى لم يعد ثمة من صوت الّا صوته. يستل سيجارة من علبته، لم يقدم لي واحدة، كان قد أُخذ بأجواء المكان ، ويضع ساقاً على ساق ويجعل مثل أمير مهموم يسحب أنفاساً عميقة من دخان ، بات يصدرأبيض كثيفاً ما يلبث أن يتلاشى. كل ذلك يحدث بصمت لم أشأ أن أبدده بكلام مهما كانت جدواه. أول مرة أنظر إليه مأخوذاً بهذ الهيئة التي زادته جمالاً وكبرياء ، جسده الضعيف المصقول ببذلته الكحلية، عيناه الصغيرتان المؤتلقتان مثل عيني طفل ، ساقه اليمنى على اليسرى، نظرته الغاربة المترفعة ، صمته الأخاذ، دخانه الكثيف المتواصل بأنفاس بطيئة متباعدة ، ثباته المكين على جلسة واحدة ، وكنت أجد فيه شخصاً آخر ينطوي على شيء ثمين، ليس عليك لكي تعرفه أكثر، إلّا أن تزيح القشرة الخفيفة من الغبار التي ركدت عليه. أحببتها، تبادلت معها الرسائل قبل أن أتزوجها وها أنني أتبادلها معها بعد أن ماتت. رسائلها تأتيني ولم تنقطع، وما كان عليّ سوى أن أواسيها برسائل متفائلة غالبتُ فيها حزني فأفشيتُ في نفسها سعادة ما. ها أنا سعيدة وأنا أقرأ رسائلك الجميلة ، أن تكون بعدي سعيداً شيء يفرحني ويطيّب نومي. يعدّل جلسته وتتلون نظرته ، يبدو كمن يرجّع في خياله صورة فرحه ، كان حباً متواصلاً بالرغم من مرور خمسين عاماً عليه، لذلك مضى يتواصل معي ولم يشأ أن يترك لي فراغاً. يسحب أنفاساً طويلة من سيجارته الجديدة ويعاود الصمت. لم يغير من جلسته الاميرية ، لكن نظرته التي بدأت تسوح في المكان ،كانت تسمح له ليخالس من حين لآخر المرأة الجميلة النظر ويشارك الرجل تأوهات أبيات قصيدته:

إربأ بنفسك أن تذودك شهوة

دون انتصابك فوق أشرف مركبِ

نظراته التي تلاحق المرأة وإن تبدو عابرة كانت في الوقت عينه مستثارة بصورة ما ، لا أدري إن كانت صورة زوجته. أفكر أن ثمة شيئاً صعباً يدور في داخله لا يقوى على البوح به، وكنت اعجب كيف أن جسده الهزيل ينضم عليه ولا يحطمه. بدأت أراقبه، أتابع تموجات روحه الصامتة وإصغاءه لقصيدة الرجل الثمل واهتزازات رأسه على أبياتها المتلاحقة. بين آن وآن كان يسقط نظرة عليّ يدعوني فيها الى الإستماع الى القصيدة والإستجابة لها ، ويؤشر لي على مدى استجابته لها.

في القصيدة الرثائية هذه كان الرجل يرثي ذاته ، ومن ثم يستدعي المرأة التي تتحرك على ندائه وتقترب منه ، تتناول سيجارته التي في فمه ، تولعها وتأخذ منها نفساً واحداً وتعيدها إليه.

يحرك ذراعه حركة ملتفة متوسلاً الإمساك بذراعها الابيض بذوق ورفق، ويرفع نظراً حيياً نحوها بينما كانت رغبته فيها تتوهج . يخفت صوته حتى ليتحول همساً ويكاد يطير من مقعده ليقترب بشفتيه من خدها أو شفتيها.

وضعت فمها بأذنه وانصرفت مكتنزة بصمت رصين ولحم بارد صقيل، نحو مائدة أخرى في الجانب البعيد وتوارت عن الانظار.

لا تكثرن من الشباب وذكره

أنت ابن يومك لا ابن ماضي الأحقبِ

يرتفع صوته هذه المرة بعد ما أشبع بعض رغبته في السيجارة التي تناولت منها المرأة أول أنفاسها، وبعد أن تطامنت نفسه على الهمسة التي دخلت أذنه واللمسة الخجول التي أحاط بها ذراعها. يعيد البيت ويشدد على مفرداته بمهل وئيد ، ثم يعطف سريعاً:

ما لي وللنفر الطلاح تنافروا

عني كما نفر الغنى عن متربِ

منذ اللحظة الاولى كان صاحبي يردد معه ما يقرأ ،حتى اذا وصل الى هذا البيت قطع علاقته به وأعرض عن التواصل معه ،ومضى يكرر على مسامعي، ما لي وللنفر الطلاح……. ويشرح لي معنى هذا البيت ” الحار ” الذي ديف فيه السم بالعسل، ليموت فيه من يتأمله طويلاً! أنظر وحدة الشاعر هنا ولكن أليست هي ذي الوحدة المنشودة ، اليست الوحدة الأجمل هي حيث يكون ثمة جرح ينزف؟

اغرورقت عيناه بالدموع ، الصوت الآخر يأتينا مكلوماً مضمخاً بالتأسي على الذات من دون أن يكون لنا مفر من سماعه. بدأت تأتيني في النهار بعد أن كانت في احلامي الليلية فقط، تفتح الباب المغلق ، تلقي نظرة على الأثاث البيتي، تزور غرفتها، تتريث هناك قليلاً ،تعود لتلقي عليّ آخر نظراتها، كان يسرها ،مثلما كنت أرى، أن يظل سريرها مرتباً لم يُنَم عليه، لا أدري لمَ كان هذا يرضيها قبل أن تغيب. حتى الآن لم يغير جلسته التي كنت أراها جميلة تتناسب مع دقة أطرافه وغير متكلفة، سوى أن ضباب دخانه المتواصل كان يملأ فضاء جلستنا المحدودة قبل أن يتلاشى وننسى أين تسرب واختفى. عاد الرجل يرفع صوته ينادي به المرأة، التي كنت فكرتُ لحظة في لون زوجها وسعادته بها، وتمنيت لو أعرفه حتى هممت مرة أن أسالها عنه ، وكنت أشعر أن لدي أشياء كثيرة علي إنجازها منها طبع قصتي القديمة وارسالها الى صحيفة ما ، القراءة في مسرحية “الموسيقى الثانية” لماركريت دوراس، ،الأسود يليق بك لمستغانمي ، مقبرة براغ على الحاسوب لإمبرتو إيكو.لم يعرف الرجل المخمور أن الآخر الذي يجلس إلى جواره قد تفرغ له ، وأعطاه كامل سمعه، وكنت أراه يزاول ، بين لحظة وأخرى، التفرس في وجهه الغائب خلف غمام سجائره ، متلصصاً نحو خط طولي عميق بعض الشيء نازل من أعلى خده حتى منتصفه، كان يردد معه في حماسة حارة ابيات قصيدته، فأجد أننا قد نحفظ شيئاً لكن لا يحلو لنا ترديده إلا إذا حانت مناسبته وسمعنا من يردده. حلّت المرأة بينهما ، أعطت الرجل وجهها تستلهم فحيح أبيات قصيدته من دون أن تفقه منها شيئاً ، سوى أن تظل صامتة محدقة في العينين المحتقنتين وتضم أصابع كفها على ورقة نقدية منحها ، وأولت الآخر ظهرها وكان يتصيد فرصته الى تملي وجهها.توفيت منذ سنة ولا احد يدري. شيء غريب . لم يواسني احد، لذا لم أقم فاتحة ، لا شيء أقوى من الموت ليجرد المرء من أفراحه ولا أصدق أننا خُلقنا لهذا، هل شعر المغفلون بجنوني وكيف مزقت قميصي وكيف طفقت أهيم في الأرض؟ لامست يده زند المرأة التي ذهبت ثم عادت بعلبة دخان وضعتها على المنضدة وغادرت بعد أن أحفظها الباقي من نقوده.كنت أوصيك ألّا تغامر ببيتك ، ألا تراني فعلت حسناً حينما قطعت عليك الطريق ومنعتك من لقاء المرأة التي قدمت إليك من كركوك. كنت في حقيقة الأمر بين نارين أن أهب لملاقاتها أو أمتنع نزولاً عند نصيحته وأقمع رغبتي في امرأة قدمت إليّ من مكان بعيد ،لم تفعل شيئاً أفضل من ذلك ،وكنت انسقت مع هاتفها الذي جاءني بحضوره في المركبة التي كانت تقلنا ،أنت وحدك من منعني من ذلك ، وإن كان لك من فضيلة معي وفضائلك قليلة وأنت تدري ، قلت مازحاً وممازحاً، فهو هذا.غرس عينيه في عينيّ وسأل صحيح ؟ أنت دوماً تراني هكذا والأمرغير ذلك.كان بعينيْ طفل يُكذَّب أول مرة.

كنت في حقيقة الأمر أتساوق مع وهمه، وأغذي هاجس النصيحة الذي وجدته أحد محركات شخصيته نحوي ، وأضخّم شعوره بأنه يفعل ما يقيم علاقة حسنة بيني وبين زوجتي، وكان كلما أمعنتُ في وصف علاقتي بها ازداد إيمانه بدوره في تماسك بيتي ، بل إنه إن لم يكن يفعل ذلك مواجهة فعلى الهاتف غالباً، وكنت أسعد بذلك ما دام يخلق سعادة في نفسه وينمي فيها شعوراً عالياً كنت أجده في أمس الحاجة إليه .

لقد سبقت علاقتي الشخصية الجديدة به ، علاقة قديمة تمتد الى أكثر من خمسين عاماً يوم قرأت مجموعته القصصية الثانية، التي صدرت مبتدأ الستينيات وحازت شهرة واسعة، وكانت إحدى محطات التفاتتي الى النوع الذي كتب فيه قصصه .لم تكن المجموعة ذي كبيرة إنما ضمت عدداً من القصص لا يتجاوز ستاً أو سبعاً ليس منها قصة واحدة طويلة،ولكن ما يمكن أن يقال عنها أنها انضمت على موضوعاتها بكتمان لذيذ.ويمكنني القول أن إعجابي بمجموعته هذه جاء مترادفاً مع إعجابي باسمه ،حتى تراءى لي أن ثمة علاقة ما بين الإسم والفن الذي يصدر مصاحباً له ، في الموسيقى الجميلة التي تحدث من ذلك ، وقدرتها على الضرب اللذيذ على منابت الإحساس.

منذ ذلك الوقت، اربعين أو خمسين عاماً حتى ما قبل معرفتي الحديثة به قبل ست أو سبع سنوات كنت اتمنى أن أراه وأتعرف عليه، ثم جعلت بعدئذ أتقصى العلاقة بينه وقصصه تلك ، ولم يتحقق لي من ذلك حتى الآن إلا قليلاً. كان صمته العام وضعف صوته الذي يشبه الهمس يزيدان من لغزه، وكم من عبارة منه أوحيتُ له بانني سمعتها ولم أسمعها ، الأمر الذي كان يرهقني منه بعض الوقت.

بينما وصل الرجل الى البيت العاشر أو العشرين من قصيدته العصماء ظل صاحبي يعيد ويصقل ما لي وللنفر الطلاح……قلت لكل منا لازمته في مَثلٍ أو بيت ولازمة صديقي هذا،هو هذا البيت وهو بيت جارح على كل حال.

عندما زاغت عينا صديقي وبان الخدر على حركة يديه ،انصرف عني فالصوت المبحوح القادم من جاره الذي تعتعه السكر سحبه إليه ، وكنت أنا الآخر أميل برأسي ناحية الرجل وأرى حرارة قلـــبه العاتية وأطرب على صوته .

سحبت كرسيي الى الخلف بحيث أمسى العمود ينصف المسافة بين الرجلين ، وإذ بدأت الخمرة تلعب في رأسي أنا الآخرجعلت أتمايل ذات اليسار وذات اليمين وعلى قدرعمق الصوت الذي يأتيني من الجانبين.

يقرع الرجلان كأسيهما، تتصاعد حمى الدخان، يتبادلان السجائر ويعلنان بحركات إيهامية عن متعتهما ،مأخوذين باللذة الساحقة التي تاتيهما مضاعفة :

– لا ألذّ من هذا. يحتوي بنظرة غائمة الزجاجة وعلبة الدخان.

– لا مرّ إلّا وفي صلبه حلاوة. يقهقهان قهقهة فارغة. اربعون سنة وعطرها لم ينفد، وها هو يملأ أنفاسي بالرغم من مرور عشر سنوات على رحيلها، كانت ترفرف مثل فراشة غادرت شرنقتها تواً.ماتت فجأة ، أجمل صور الموت أن تموت كذلك ليظل جرحك غائراً.

غشي القاعة شيء من العتمة إذ انقطع التيار الكهربائي بغتة ، أمسى المرور في الممرات المعتمة أشبه بالمرور في دهاليز قصص السحرة.كانت ثمة أشباح تتحرك الهوينا تستدل على طريقها بتلمس الأرض أوما تسعف به الذاكرة، وليس مفاجأة أن سقط قدح وتهشم على الأرض، أو ندت صرخة نسائية خفيفة فيها ضحك مكتوم على تصادم عرضي بين جسدي نادلة ورجل يترنح.


الآن صار ينبغي عليّ ألّا أدع صاحبي يتحرك مخافة أن يتهاوى ويتهشم .إن حرصي عليه بات أشد من حرصي على نفسي. ثمة أشياء ينبغي ألّا تغادر الإنسان في أيما ظرف منها الحفاظ على الصديق، أقول وأثبت نظري عليه من خلال ظلمة دامسة شعت في الشارع جميعه.إياك أن تغادر مكانك وإن احتجت الى ذلك استعن بي ، ما يزال نظري قوياً.وكنت أرى أن الإنسان في السبعين يكون تجاوز خطر المرض المميت، ليمسي عرضة للحادث العرضي كالسقوط من السلم أو التزحلق في الحمام أو التعرض لحادث سيارة. لم يجب، إنما خمنت من خلال وهج ما ، بعثته سيجارته التي ارتفعت الى حدود رأسه أنه يثبت نظارته على عينيه ، لم أفكر إن كان ذلك ردّاً، مهما كانت درجة الوعي فيه، على كلامي، إنما كل ما قلته هو ما أعرفه عن قوة نظري في العتمة. شيئاً فشيئاً خفت صوت الرجل ولم يكن يظهر منه إلا نار سيجارته ، كذلك الحال مع صاحبي الذي زفر آخر زفراته مع البيت الذي ظل يكرره وصمت. في انتظار عودة النور الذي صار أشد الدلالات على الحياة بدأ الهمس يرتفع، تتخلله عبارات لاذعة جعلت تعلو كلما ازدادت الظلمة واشتد اليأس من عودة النور. الظلمة تتعمق وفوضى الأحاديث تتعالى؛كان هذا صديقي خربت وجهه حرب لولا هذه الندبة لما عرفته ، يقول ذلك ونحن نغادر القاعة أخيراً، بعد ان امتشق الرجل نصلاً زجاجياً يشق عتمة الظلام بما تجمعت عليه من نقط نور شحيحة تسللت اليه من مكان مجهول أعقبته شهقة حادة. يملأ الضجيج الأعمى القاعة حال ينهار الجسد المتداعي، ثم يسود الصمت المكان، لا الخطوات تسمع وليس ثمة من أحاديث . الكل ينسرب في الظلام ويضيع، كان ذاك صديقي ، يكرر، حفظنا ونحن في ساحة القتال قصيدة اليزدي هذه، لم أعرفه الا من خلال خط وجهه، كان هذا متأخراً، هذه المستيقظة تواً، يشير الى ذاكرته، قد تغدو بعد سنة او سنتين مثل هذه التي تغوص في هذا البحر الآن ، لا شيء منها سوى الأطياف.. يرفل شط العرب بنعيمه ، موجه يترى وصمته يُطبق ،لا يرى أحداً ولا يسمع أحداً، غير عابىء بمن يراه أو يسمع دفين دفيفه ، يطوي الأنغام التي تهبط عليه من فوق سقيفة المركب ويأخذ بها في مجراه ، يقودني عبر الكورنيش البليل الى الجانب الآخر منه ، من على أوطأ جسوره ، يدي في يده وعلى أخف خطواته ، تحت فيض من ألوان متضاربة كان يلقيها على النهر المساء ، لا أدري إن كان يقوم هناك قبر زوجته ، لم أسأله عن ذلك ، إذ اصطخبت الريح فجأة حتى خفت أن ترفعه وتلقي به في النهر… لقد بدأ الموج الأدكن يضطرب ، ومحمود يكتب الآن رثائي.



* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى