أنور عبد العزيز - الإحتفال الكبير.. قصة قصيرة

هي هي تلك الإحتفالات الباهتة الشاحبة المكرورة حتى لو كانت لتخليد قصّة حب وتلاحين فيروز وجنون حياة .. حفلات طعام باذخ شهي كثير كثير يرمى للكلاب بنظرات حائرة مستفهمة لطفل جائع يشهق بفرح لقيمات بعد جوع كافر لئيم .. حفلات زواج وتمثيل نجاحات حب .. حفلات سياسية مترفة مغرورة حتى بأكاذيبها وتلفيقاتها .. حفلة كومة من أولاده وصل بهم لفندق قديم مهجور ومعهم أصغر أولاده مع خشية سقوطهم من عاليه وهو يهتز لمجرد مرور حافلة كبيرة حمراء في الشارع ، مع أصرار الصغير ورغبته الجامحة ليرى بغداد من بلكونة الفندق ألمهددة بالسقوط في لحظة مجهولة .. حفلة أن وجد نفسه في صف جامعي وكلية جامعية وجامعة ومع وجه أستاذ رأى فيه كل نحس الدنيا وخيبتها وخداعها وتجهمها وكراهيتها وترهاتها .. عندها هرب عائدا بخمسين سنة للوراء ليتملّى وجه استاذه (الطاهر) المشرق الوضيء بندى المسرّة والودّ والتفاؤل … أحتفالات صاخبة لأنتصارات دموية كاذبة موهومة لا تحمل في ضجيج صخبها وهيجانها غير احساس مغروريها بالتفاهة والعجز والمذلّة وتظل حتى في عقول مشعليها مجرد تعويضات – كاذبة أيضاً – لمجد تليد .. أحتفالات أدب ومواسم أدباء خادعة ما نفثوا من أقلامهم غير سواد قلوب وسموم أفاعٍ وعقارب ومن كل غدر مما فاهت به نفوسهم المظلمة الكالحة ومن أقصى ما يصل أليه المخلوق البشري من لؤم وخديعة ولكن بزخارف القول ومن الوان كلمات صفر أشبه ما تكون بكلمات حشرجات مخنوقة لمحتضر عرف في تلك اللحظات المثيرة والحاسمة أنه لم يكن أنساناً ولو لدقائق طيلة عمره الشاحب … وهو أن لم يكن قد رأى ، فقد سمع بأحتفالات سكر وعهر ودعارة وتحطيم أية قيود ولو لملامح حياء موهوم ولو بالقليل القليل منه … أحتفالات بطولات أجسام وعضلات وألعاب قوى ومصارعة لبشر من فيلة وخراتيت وخنازير لا يملكون شيئا من العقل الّا ندرته ، وأن كان لبعضهم دبيب عقول بعوض ، فهو في أرجلهم وأقدامهم الذهبية ومع الكرة رغم ما يرشح عنها من سواد فحم وسخام ضحالة … أحتفالات دم وختان لقطعة جلدية منكمشة صارت مع تقدم عمر أولئك ألصغار أحتفالات دم غمر الرؤوس والأوجه والعيون والجسد كله وبصمت بعد أن كانت في صغرها أحتفالات أنس ومرح وضجيج هلاهل وهفهفات وترانيم دفوف ودموع أمهات وصرخات ( ورده حاق صاق ناصي هي ) .. مع حفلات زواج طالما أنتهت بعد خديعة وأوهام سنين لكراهيات بلغت حدّ الأختناق والجنون ومع الأحقاد المتوالدة المدمّرة .. هي هي أذا مضطربات حياة وخطوط مرسومة كقدرٍ عاتٍ يخضع لها الجميع وتنحني معها كل الرؤوس .. ولادة وختان ومدارس ونجاحات ووظيفة وزواج وأبوّة وأعمار طفولة وصبا وشباب وكهولة ثم تلك الذبالات المرتجفة المهلهلة من سنّي الشيوخ في أرذل أعمارهم .. وحتى مع الموت ووداع الحياة فله احتفالية رغم كآبتها وأحزانها الصادقة أو الملفقة المكذوبة عند المحتفلين .. كلّها كلّها ظاهرية سطحية متشابهة ينقصها التميز والحقائق غير المكذوبة رغم أنها تظل بأنتظار حلم الاحتفال الحقيقي السحري الكبير .. ورغم شوقهم الجامح لأنتظار ذلك الحدث البهيّ الموعود ، فأن الاطعمة الدسمة الشهيّة التي دلقوها في بطونهم في حضور الموت ومع رهبته ، فإن أثرها سيتلاشى ويزول بعد ساعات سريعة من هضمها في البطون المستعجلة لتستحيل مضغوطات ريح في وداع الراحل العزيز .. كل تلك الاحتفالات ظلت نقاطا مهزوزة وصورا شاحبة وسراب شمس في صحراء رمل خادعة .. لم يذب ويخفتْ الأمل نهائياً، ولكنه أقترب بهم من حالة يأس فجائعية ورغم أنه ظل متجذراّ في العقل والروح والقلب بأمل أن يشطبوا ويمسحوا به تذكارات أليمة لسنين خوت – رغم ضجيحها – من كل ما يسعد الناس ويخفف عنهم قسوة أيامهم وبشاعتها وتشظياتها ومهلكاتها وزلازلها الموصولة حتى بأحلامهم في أبسط ضروريات حياة تمسّهم ولو لساعات هناء وسعادات عابرة ترفض أن تقيم مجددة أمالهم بأزمان تظل سعيدة تنعش أعمارهم بعد أن أستهلكتها الحياة المرة متعبة منهكة مخذولة لكومات ثقيلة من السنين وبعد أن تهرأت حياتهم من نكد الدنيا ومعذبات الايام القاحلة … في تيه الأيام والخسائر الفادحة والأنكسارات تبخر كل شيء وذبلت كل الأحلام … حتى حلم الأحتفال الكبير بات مأسوراً مخنوقا في ضيعة الأيام المتشابهة المكرورة البليدة، لكن- ولسوء حظي – ظلّ راسخاً عنيدا في شهية ولدي وتيه عقله … ولدي الصبي بعمر عشر سنين كان سيل محبة وجمال وجه مضيء بعينين خضراوين وشعر فحمي عميق وجنون آمال للناس وقد صار معزولا الآن عن كل الناس وبوصمة الجنون .. ظلّ وحيداً تكبر معه الاحتفالية كلما أزداد عمراّ ولم ينسها أو يتخلّ عن أمكانية تحقيقها ولو للحظة واحدة … صارت له قدراً وأنتظاراً معذباً وصبراً موجعاً … ما تخلىّ عن الحلم الجميل بها وهو حلم الناس بتلك أللحظة لسنين ممطوطة، وعندما دحرهم اليأس نسوا أو تناسوا حلمها أللذيذ … ولدي فقط ظلّ معانداً ولو بشحيح من نثار ضوء في أفق بعيد … أنا لا أشكك أبداً بحلمه الصعب، لكنّي لا اشك لحظة بصدقه ومع شكوك حمقاء أنه مسحور بهذا الحلم الجميل، فما سمعنا ولا قرأنا أن بأمكانية أحتفال لساعات محدودة أزالة قهر وحزن عقود من السنين لبشر منكودين منكوبين مقهورين موجوعين تائهين ممزّقين لحد أللعنة ألابدية … الكل نسيها وانتزعها من عينيه وعقله وروحه وخياله … هو هو فقط ولدي ظلّ وحيداً يهفو لتحقيقها في يقظته وحتى في هواجس أحلامه … يستأنس بها كحقيقة راسخة لابد أن تصخب بوجودها وفورانها ويتيه معها في هلوسات وكوابيس تبخرها مشاهد ورؤى ليلية مضطربة متداخلة وكخليط من صور مهتزة رغم جمالياتها لا يبين فيها أي وضوح لنظر سليم، مع ذلك فقد أمتعته فرحاً وأسهرت لياليه وأمرضت عقله وجسده ..


أول أحتفال بي كان منذ أن رشقني وزرعني أبي في الرحم.. بعدها السلسلة المعروفة … لكل الأخرين … انا الآن فيبدايات السلسلة الكابوسية بعمر عشر سنوات والاحتفالية قادمة حتما ستضيء عقلي وروحي .. احتفاليتي تتجاوز قدرات الانسان السطحية البائسة .. هي تسمو لفعل السحر والجنّ والكائنات المخفية السعيدة .. تحقّق السعادات وتنأى بالناس عن كل مقهورات تعاساتهم وخذلانهم .. هكذا كنت منذ طفولتي حتى ظنّ بي الناس الظنون ونصحوا ابي بمعالجة عقلي من جنون أكيد ومنهم من بالغ ونصح ابي دون حياء ان يدعو لي بدعاء الموت لئلا اتحول في قابل السنين لحالة استفهام مخيفة لحد الرعب ومما سوف لا يحتملها قلب ابي الضعيف .. ما كنت اتصوّره – حتى وانا طفل – من خيالات جموحة ينأى ويعجز عنها عقل البشر اذ تظلّ عصيّة على أيّ تفسير في عقولهم القاصرة .. كنت غالباً أحزنهم بكلماتي اللحوحة العنيدة : مخدوعون .. يخدعون بسعادات زائفة واحتفاليات بهلوانية كاريكاتيرية مضحكة سطحية كئيبة مضجرة في وقت كانت تعانق روحي احتفاليتي البهيّة الكبيرة .. أبدا لم تفارق عينيّ ومخيلتي حتى رأى فيّ بعض ناقصي العقول وممسوحيها ان سحراً وساحراً وساحرات وبقوة شرورهم قد هتكوا عقلي وقرّبوني لحافات الجنون ومع اعترافهم – ومع عجز عقولهم – ان مثلي ما كان للجنون ان يتجرأ ويقتحم رأسي بما فيه من دماغ متكامل وموزون .. وباعترافهم ايضاً مرّة ومرّات في حالة صدقهم ويقظة ضمائرهم انني اعقل العقلاء ، حكاية تلك الاحتفالية المهيبة وهي في صلب دمي وعيني وعقلي هي فقط ما كان يشككهم بقواي العقلية .. كنت احسّ بوجعهم الاليم وهم يتوسلون بي ان اصف لهم ولو مشهداً مختصراً للاحتفال الكبير دون ان يفقهوا وحتى أنا ان مثل حفلتي تظل – رغم بهائها وصوتها – عصيّة على اي شرح ووصف وتفصيل ، وهذا ما كان يرهق فمي ولساني للبوح به مع ان ذلك الوصف ينشر احلى فقراته العجائبية في جموح مخيلاتهم المنتظرة لتحقيق الوعد …


كحالة غالبية من الاباء الذين لا يرون في اولادهم غير رقي العقل والخلق صدقاً او كذبا حقاً او با طلا ، فقد اغلق اذنيه عن دعاوى الاخرين بل كره وقاطع واحتقر كل من سعى ولو بأشارة او كلمة ليضع ولده في خانة المجانين ، وكم هو نادم عندما صعق زوجته يوما بقوله : ولدك مجنون .. لم تتأخر ونسيت محبّتها وطاعتها خانقة حزنه ووجوده بمقذوفة محرقة : انت المجنون .. مع صدمة هذا الجواب انتهى كل شيء .. وقرر الرجل أمره … لم يرد عليها بكلمة.. اية كلمة … الأم ظلّت مخالفة لرأي زوجها بعد ان ضعف بينهما الكلام والتواصل حتى قارب ان ينقطع وهي تصرّ على ان ولدها ممسوس وضحيّة ( عمل ) لذا سارعت لحشو منامه وملابسه ومخدّته بخرق مخاطة على رسوم ودوائر واشكال وحروف صعبة القراءة وكأنها زخارف .. ومن منقوعات اعشاب هرست معدته وبطنه فيها من لذائذ طعوم الاعسال والروائح الطيّبة ولكن فيها – وهي الغالبة – الكثير الكثير من مرّ العلقم ممّا يهرش المعدة ويتعبها .. جرّبت – وبنصيحة من جارتها – أحراق ( حرمل ) مخلوط بملح ومقروء عليه يسير عليه خطوات قصيرة متمهلة رواحا ومجيئاً .. ولم ينفع بشيء .. الولد مسحور يا زوجي العزيز فأية احتفالية هذه يصرّ عليها ويقول ان مائة عام من القهر والذلّ مرّت على وطنه ومدينته لم تشهد ولو شبيهاً لها .. يزيد ولدي ويكرّر باندفاع وحماسة : احتفاليته الكبرى ستظلّ مطوقة بعجز الاخرين عن وصفها وكشف اسرارها شفاها حتّى من أحدّ وأنشط الألسنة وكتابة من ابرع اقلام الادباء وبقوى مذهلة لمخيلاتهم لوصف يتآلف فيه المادي والروحي وبموهبة تجترح احلاماً مسحورة للناس ولأبعد مديات الواقعيات والغرائبيات وجنونيات القول والكتابة والكلام … مثل هذا الاحتفال يبدو لي الا مكان له على هذه الارض … اضافت الام : ربما مسحته الاسطورية بلا نهايات او افق بعيد … مكانها حتما في مغاليق عقله وروحه وتمنياته لفرح وسعادة ناس وطنه ومدينته ولكن اللئيمات و( العمل ) ومع خبث وسواد ضمائرهن والكراهية .. هن من احرقن ولدي وقلبي .. انا لهن .. في الايام الاولى هرولت لاول ولي كتب لها ملفوفة تقي من العيون الزرق دسّتها في مخدته التي لا يقبل بتغييرها ابدا … مر اسبوع واسبوعان ولا نتيجة .. هرعت لفتّاحة فال ووضعت قدر ولدها في قطع من خرز وودع ملونة تتقلب وتتلاعب بسرعة بين أصابع الغجرية ومع سيل من كشوفات واسماء لبشر غالبيتهم من النساء وقد تتوقف بعد لهاث من لسان المفترية عند اسم واضح صريح معروف وغالبا ما يكون لأمرأة .. لم ينفع .. قارئ الكف الشهير تجول في خطوط وحزوز كف ولدها وكان صادقا اذا كشف لها عن عجزه في فهم ما يجري في عقل ولدها وان حاول ان يعينها بمفردات من حروف اسماء عدوانية شريرة مؤذية قد تكون هي السبب وان لم يحدد احدا بالاسم ولم يقبل منها اجر جهوده بعد فشل مساعيه في الكشف عن اسم فاعل حقيقي وليس مما يخضع للتخمين … بعد تجوالات كثيرة في دروب وازقة الاحياء العتيقة وصلتها النصيحة لزيارة نشمية قارئة الفنجان المعروفة والتي تنسق بالكلام الوفير المقنع كل الخطوط وتعرجات ومنحنيات والنقاط السود للقهوة المتجمّدة لتحيلها لجمل مفيدة رائقة واثقة تهديء من قلق الباحثة عن مصير ولدها ، ولكنها صدقت وكانت جريئة ولم تخجل من مصارحة نشمية ان كل ما قالته وكشف عنه الفنجان لم يرتبط بأيّة علاقة ولو واهية بفجيعة ولدها ونكبتها وحيرتها وضياعها ، رغم ان احدا من قبلها لم يتجرأ على التشكيك بمواهب وقدرات نشمية وارتسامات فناجينها لما عرف عنها من سفاهة وخشونة وبلا خجل من اي شكّاك بقدراتها فأهانة الشكاكين والردّ عليهم بقسوة هو ما يحفظ لها هيبتها وسمعتها ومصدر رزقها .. ما عادت المدينة بكل دروبها وبالقرى القريبة تكفي للبحث عما يطفيء حزنها وقلقها على ولدها الشقيّ .. اخذت طريقها لقرى بعيدة .. وحتى لتلك الصحراء المهلكة بحريق شمسها ورمالها الكاوية ومخاطر ذئابها وافاعيها وعقاربها .. لا بدّ ان تصل اليه .. شيخ متعب مكدود .. هيكل ضعيف ووجه شاحب بصفرة من سيغادر الدنيا بعد دقائق تحت خيمة مهلهلة وابريق ماء وزوّادة خبز وحراسة كلب مهزول كسول لم ينبحها رغم رؤيته لها بنصف عين وبدا لها كأنه في اغفاءة .. نهض الشيخ على عصاه بانحناءة وظهر شبه مكسور ، كان طيّبا معها .. رحّب بها – رغم فقره – وبكل كرم الصحراء .. شكت حالتها .. قرأ على رأس ولدها .. منحها حصاة بيضاء اوصاها ان تخيط عليها .. وبعض انياب لحيوانات خمّنت انها لذئاب مع جعبة مليئة برمل نقي صافٍ اوصاها ان يمرر عليه يديه ورجليه في الصباحات خاصة وعند المساءات .. رغم فقره كان عفيفا حييا معها لم يقبل منها – رغم اصرارها – اية قطع نقدية .. ودّعته بتقدير بعد ان قبّلت يده وبعد ان انهى بلمسات من اصابعه النحيفة قراءات مباركة متسللة عبر شعر رأسه اللامع بسواده .. انهاها ببصقة لطرد ذلك الخبيث الذي لا يُسمّى القابع في دهاليز عقله المتخلخل ..


بعد رحلة الرمل تلك وعذاب الحريق والجوع والعطش عادت لبيتها خائبة منكسرة .. رغم طيبة ذلك الشيخ البدوي وهو من اهل الخرقة ورغم قناعتها بقدراته ، فلم يتغير شيء في عقل ولدها وظلت اسنان الذئاب وجعبة الرمل والملفوفة السحرية جمادات متيبّسة لم تلن معها خيالات ولدها الجامحة .. قيل لها : عليك بالجبل ..أعبري شطوط الماء وغابات الخضرة النديّة واشجار البلوط والصنوبر العملاقة المعمرة وستصلين اليه .. بعد ايام من قسوة برد ثلجي ومياه متجلدة وعبر جبال مهلكة ووديان مخيفة وصخور ناتئة مرعبة .. وصلته .. في ذلك الكهف الرطب المعتم وبشمعة شحيحة لولاها لما تحسست وجود اي مخلوق في مثل هذا المكان .. ولولا نحنحة خافتة وترحيب دافيء حميم لخرجت مسرعة من هذا الكهف القابض للروح .. فرش لها بساطاً صوفيا ثخينا ملونا بنقوش ورد ورؤوس غزلان ووعول .. ولدها بجانبها ملتمّ على نفسه بطاعة مخيفة من هذا الكهف وصاحبه بشعر رأسه الكث ولحيته المسترسلة وصوته الخشن وعينيه الغائرتين .. بدا له قرمة او اشبه ما يكون بشجرة بلوط شامخة .. الولد رغم خوفه ورعبه فقد بدا سعيداً اذ وفّرت له امه سياحات جميلة مثيرة مكمّلة لما في مخيّلته الجامحة من صور ومرئيات حقيقية واقعية معقولة وحتى من اشكال شائهة لم يجد لها شبها في عالم البشر .. وكما بدا لها ذلك السيّد في صحراء الرمل طيّبا ونبيلا وكريما رغم فقره .. فقد سلك شيخ الكهف ايضا معها سلوكا حانيا وبألفة أب وهشّ وبشّ ومازح ولدها بلغته اولا ثم بلغة عربية مهشمة فهمتها الام وادرك الصبي حميمية معانيها بسهولة واضحة … ولقسوة البرد فقد اشعل لهما نار حطب في مدخل الكهف .. اطعمهما شيئا من عصيدة وخبز رقاق .. جهّز لهما بعدها شايا ساخنا استمتعا بلذته وحلاوته لبرودة المكان وتعب الرأس .. تكلم مع الصبي بكلمات عذبة حلوة انحصر معناها : انت ولد طيّب ومطيع .. لماذا ترهق وتؤذي أهلك .. هذه الحفلة في رأسك فقط فلماذا تصر لعرضها على الاخرين .. مثل حفلتك هذه انتهت ازمنتها .. حفلات هذه الايام شيء اخر .. لم هذا العناد ؟ اصحُ يا ولدي وانتبه … صرت همّا ووجعا لأمك واسرتك .. اوقف واخرس في عقلك ونفسك هذا العناد .. الام مبتهجة بكلمات الشيخ ومعها كانت تتناثر من لسانه كلمات قدسية مطمئنة .. هذا الشيخ وما تحدث معها باي كلام عن مسّ وعيون زرق واسنان ذئاب ولفوفات مطوية وقراءات على ماء او ملح او احاديث ودع وفناجين وخطوط كف .. فقط فقط هي تلك القراءات المؤنسة المطمئنة من كلمات قدسية ربانية .. مع ذلك بدأت الام غير مستريحة .. ابعد كل تلك الجبال والثلوج والبرد لا تعود باية تميمة او تعويذة حالها كحال اي مريض ينزعج من صراحة طبيبه عندما لا يكتب له اي دواء ووصفة … الطبيب مصر على ان مراجعه في اتم عافية .. وهذا المراجع المتوهم بمرض مفاجيء اشد اصرارا على ان طبيبه خائب وان عليه ان يكتب شيئا وان زرقة ابرة فقط هي ما يطمئنه على صحته .. شيخ الجبل انهى اللقاء الحميم بكلمات وداع ودودة اسعدت المرأة وولدها …رغم الحاحها لم يتقبل منها اية نقود وكما حصل لها مع ولي الرمل في الصحراء اكرمها شيخ الجبل بحفنات من جوز وبلوط .. عادت لمدينتها راضية مرضية وان شعرت في دخيلتها بالخيبة إذ لم تزود منه لولدها بغير كلمات .. كلمات ، لكن ولدها بدأ مطمئنا مستريحا لما كانت تحويه تلك الكلمات من حنان ورقة وعذوبة ..عادت من رحلة الجبل منهكة موجوعة .. بدت لها حالة اليأس مرعبة .. عاودتها الرغبة المحمومة للبحث عن اخر رجاء .. تحركت بهمة ونشاط جديدين لم تبق ساحرة ولا عرافة ولا ( ركّابة حب ) الا وهرولت اليهن متوسلة بدمع العين والنقود ان ينقذن ولدها من هاوية وشيكة ..


روى الاب لاصدقائه يوما حكاية ولده .. قال : في ضحى يوم مشرق دافئ حنون جاءني ولدي مسرعا مهرولا لاهثا بانفاسه .. صاخبا ضاجّا متوترا بهياج فرح .. بدت لي سمرته محمرة من انفعالات هادرة ثقيلة حتى عينيه الخضراوين الجميلتين رأيتهما مختنقتين بلون الدم : أنظر ابي .. أنظر .. أنظر .. لقد بدأت .. أنظر ابي .. اخلع نظارتك … لا حاجة اليها .. نظارتك مضبّبة … امسحها وستر سحر البهاء من موجودات الحفل … همس الاب مع نفسه وبكلّ حزن وخيبات الدنيا : ليس هناك شيء … ليس هناك شيء .. ليس هناك وميض بهجة وفرح وكما يهذر .. يريدني ان انظر بعينيه وبجموح رغباته وأمنياته الهائجة ومع هذه الهيستريا التي تجتاح عقله وروحه … لا أرى غير كومات عظام لحيوانات نافقة منذ سنين بعيدة صارت بلون الرمل والهجير … ليس في عينيّ عيب … العيب في هذه الصحراء الكئيبة العارية ، يصدمني بؤسها على مد البصر .. ابي .. ابي .. ابي … هي الحفلة قد بدأت .. الا ترى الجموع ؟! دقّق جيدا .. تلك المساطب الملونة الجميلة وهي مئات مئات .. كراس سحرية من اقطان وديباج وحرير وخشب ناعم طريّ …أراجيح ذهبية راقصة مترفة مبطّنة بصوفات خراف ربيعية تندى افواهها بطعم الحليب وشعور رقيقة لماعز وريش طيور …المصابيح متألقة باضواء بهيّة مشرقة هادئة لا تؤذي العيون .. طنافس وأرائك وأسرّة من نور .. موائد .. موائد كثيرة من اخشاب مطعمة بالذهب والفضة والياقوت والمرجان .. صوان .. صوان بالآلآف من لآليء معادن مضيئة .. طعام كثير كثير من كل لون ومن كل لحم وطير وغزلان ومما يشتهون .. اطعمة لا حصر ولا عد لاسمائها ابدعتها ايد وعيون طاهرة نقية لسيدات ماهرات في اعداد طبخات ملائكية .. الطعام اللذيذ الملائكي والملكي .. اشربة حلوة من كل طعم وبنكهات سحرية منعشة لا خدر فيها ولا ضياع للعقول .. صحون وملاعق وشوكات والات اكل منها له اسماء ومنها من تنتظر اسماء لها .. حدائق وعشب وازهار ومن كل لون بهيج ترتع فيها ومعها غزلان وهداهد وطواويس وببغاوات وديكة ملونة .. اليمامات جذلى .. وطقطقات اللقالق اهازيج غناء .. حتى الكناغر تجدها هنا تكاد تطير بقفزاتها في جو من المحبة والامان .. رقصات من الوان شتى لبشر وطيور واسماك ملوّنة .. رقصات نحل وازهار وحيوانات اليفة هجرت بحارها لتشارك في الحفل الكبير .. تأمّلْ ابي .. انظر للقرب وللبعد .. وللبعيد البعيد .. تراها منتشية باليوم الكبير .. طيور البطريق كلها حضرت تسير صفوفا تحيي الناس بفرح كبير .. البط والاوز وبلابل الغناء .. الديكة المؤذنة طيلة زمن الحفل وليس في الصباحات فقط .. أترى معي ؟! كيف تجمّعت تلك الغيمة الزاهية كبساط علوي لتحجب اي حرّ لشمس وترطّب الجو بدون مطر بهواء منعش بليل .. اغان حميمة .. مفعمة بالامال تتّحد وتتجانس – رغم تنوعها – لتصير اغنية واحدة انيسة بنغماتها وحلاوتها ومعانيها .. الناس .. كل الناس هنا من فقراء الجوع والحفاء والنكد وحسرات اعمار طويلة .. تأمل ؟ لقد خلعوا اسمالهم .. استبدلوها بتشكيلات ملابس تليق ببشر جمعوا تلك الاسمال .. احرقوها بشواظ من نار لا تبقي على خيط فيها .. النار النار هفهفت واطارت تلك الرقع المهلهلة التي ظلت ملتصقة باجسادهم لسنين واعمار طويلة .. احرقوا معها احذية الخرق والمطاط المستهلك ومعها احرق الصبيان كل خيباتهم المعمولة من كرات خرق ثقيلة اتعبت اقدامهم واعمارهم الربيعية الغضة .. ابي . . ابي انظر واستمع حتى النجوم هبطت من افلاكها البعيدة لتلتحم بالحفل الجميل .. نجوم زرق وخضر وحمر وبيض وارجوانية .. نجوم بهية تتبدل وتتغير الوانها بين دقيقة ودقيقة .. صارت النجوم زهرات ملتمعمة ومن كل لون بهيج انتشرت بتناسق واضمامات مشعة وحنت على المكان المترامي الفسيح باضوائها … انها من حلم وسحر كان القمر اول الهابطين المحتفلين مشرّقا محيّيا بابتسامة رائعة وحارسا للحفل غير بعيد .. هي هي فقط … النجوم السود المغرورة المكابرة المخنوقة بصديد كراهياتها لم تنزل .. لم تنضم للحفل لان روحا غبراء كالحة سودت بالسخام اعماقها فاعمتها عن التآلف مع الاخرين ، بل وحتى احتمال وجودهم .. نجوم بقلوب من فحم لا ترى في كل كتل البشر وحتى من مجموعاتها النجمية غير اقزام نجسة غير مؤهلة لنظرها واهتمامها بل وحتى لمجرد ذكرها كاسماء وحقائق واقعية …


بعد هناءات الاكل والشرب والرقص والضحك والغناء وافراح شطبت على عقم سنين بليدة من حياة غير انسانية .. صعد شاب رشيق قوي جميل بابتسامة حانية لمنصّة خطابة لم تعل على اي رأس .. قال كلماته القليلة المركزة التي اسعدت الجمهور بمعانيها وامالها البسيطة القابلة للتحقيق والتنفيذ وبلا وعود مخدّرة .. كلمته – وليست خطبته – ما استغرقت غير دقائق .. لم يصحبه احد في الصعود للمنصة وحين نزل منها ، لم يهنئه احد بعد القائها ، ما رأى الناس واحدا يقف خلفه كلوح بليد .. ما انتهت خطبته بتصفيق وهتافات .. بادب وتواضع طوى ورقته وعاد لمكانه دون ان ينهض او يحيّيه احد …. أرأيته ابي ؟ اسمعت كلماته الحلوة البسيطة الواضحة ؟ ارأيت تأثير كلماتها وواقعيتها المقنعة على وجوه مستمعيه ؟ ارايت ابي ؟ اسمعت ؟ ضع النظّارة ابي .. اخلع النظّارة ابي .. لا تضجر مني .. ومع الحاح الصبي على رسم المنظر الكبير كبانوراما هائلة اخّاذة ، ليضعها في عيني ابيه ومصداقيته ..بدا الاب واجما حزينا مخذولا يكاد يقترب من قناعة زوجته ان ابنهما اما ممسوس او في عقله عيب وخلل ، لكن هذا التقدير سرعان ما يرتطم ويصطدم مع قناعات مدير مدرسته ومعلميه واصحاب العقل والرأي بان يهتم بولده فهو فلتة في الذكاء وشعلة من عقل منير رغم صغر سنه .. ذلك ما قاله المدير ونصح به المعلمون .. وعندما راوا مرتسمات شكوك على وجهه وصمت مهما كرّروا قناعاتهم .. قالوا له وبخاصة معلمه ممدوح الذي يحبه ويتوسم فيه مستقبلا كبيرا لشخصية مفكّرة : قال المعلم ممدوح واعاد مقولته مرة مرتين ومرات : احرص على ولدك واحطه باهتمام وتقدير كبيرين وهيء رعاية مضاعفة ، فعمر ولدك العقلي اكبر من عمره الزمني .. ظل مبهوتاً فلاول مرة تلتقط أذناه مثل هذا الكلام ، وثقافته ومعرفته المحدودة لم تؤهله لفهم مثل هذا اللغز .. ظل حائرا ، وعندما احس المعلم ممدوح بحيرته وخجله صار يشرح له دون ان يشعره بكلماته كمعلم وكاشف لجهله .. يولد الاولاد وحتى البنات .. سنة بعد سنة تكبر اجسامهم ومعها العقول .. منهم من تتسع قدراته العقلية رغم صغر عمره وسنواته المحدودة فيدرك ما لا يدركه الاخرون حتى لمن صاروا في عمر اكبر منه ، ومنهم من يظل عقله محدودا حتى لو تجاوز العشرين والثلاثين والاربعين والخمسين .. نعرف ذلك من تصرفاته وسذاجة ما ينطق به من حماقات … استمع الاب بمحبة وتقدير لشروحات معلم ولده .. ولكن كل تلك الشروحات وحكاية ( العمر العقلي والزمني ) ظلت تائهة حائرة غائمة في عقله ومخيلته المحدودة …


ومع تكرار الصبي اللحوح وصرخات أنظر .. تأمل .. حدّق .. أبي ومع اصراره العنيد ان تحظى وتحيط عينا ابيه بكل المشهد الكبير لئلا تغيب عنه نعامة او زرافة او هدهد ولا تخسر اذناه اصوات الموسيقى الملائكية ..


استسلم الاب واخذ منقادا برغبة ولده الجامحة ينظر ويحدق ويبحلق بكل قدرات عينيه وحساسية اذنيه المرهفتين ، فلم يجد وعلى مد البصر وحتّى للافق البعيد … ومع وفي كل الخلاء العاري الاجرد غير صحراء رمل واشواك عاقول وصبّير وبعر جمال وعواء ذئاب وبنات اوى ودبيب افاع وعقارب احرق سمومها حر الهجير واراول وعضايا حمقاء بليدة تتراكض مسرعة بخوف ازلي .. واصوات رياح هوج وكثبان رمال غير مستقرة وصفرة شفق هادر باعاصير رمال هائجة وسراب بعيد مخادع وسرب جراد مغادر بعد ان مسح بقواطعه النهمة الحادة بقايا عشب ربيعي مصفر … هذا ما رأه الاب المفجوع بأمنية كبيرة غائرة كجرح عميق غائر في عقل ومخيلة ولده المنكود … سنون تلتها سنون .. بعدها سنون .. انطفأ الاب .. سنون .. عبرتها سنون مهرولة .. انطفأت الام .. ومرت اعمار قاحلة يائسة لم يعد الناس يلتقطون فيها اي مشهد صغير من العرس الاحتفالي لذلك الصبي العنيد حتى في احلامهم المتعبة .. هو هو فقط ظل مضيئا متوهجا بحلمه منتظرا بعد ان غادرته الكهولة ليغور ويتيه في عمق شيخوخة قاسية مظلمة ضاع فيها كل شيء وفقدت كل شيء .. تاه عنها كلّ شيء غير نقطة صغيرة كرأس دبّوس.. ظلّت مضيئة مصرة على عنادها بثبات تقبع متدثرة ببهاء ذلك الحلم القديم .. حلم الاحتفال الكبير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى