ديفيد ماغارشاك - قراءة في رواية الأبله لدستويفسكي.. ت: بلعيد الشهلي

الأبله ، هي أولى روائع فيودر دوستويفسكي التي كتبها بالخارج . غادر دوستويفسكي روسيا هربا من دائنيه الذين كانوا يهددون بسجنه بسبب الديون المستحقة عليه ، في أبريل من عام 1867 ، أي بعد شهر من زواجه الثاني من كاتبة الإختزال الشابة آنا سنيتكين ، و لم يعد حتى 8 يوليو 1871. بدأ العمل في أول مسودة للرواية في خريف 1867 و أتمها في يناير 1869. خلال تلك المدة أقام فترة قصيرة في برلين لمدة شهرين و شهرين آخرين في دريسدن و ستة أسابيع في بادن بادن ، حيث إلتقى تورغينييف و تشاجر معه ، و ثمانية أشهر من سبتمبر 1867 إلى يونيو 1868 في جنيف ، و ثلاثة أشهر من يونيو إلى سبتمبر في فيفاي ، و ثلاثة أشهر في ميلان و سبعة أشهر من نهاية نوفمبر إلى يوليو 1869 في فلورنسا . كان في طريقه إلى جنيف عندما شاهد اللوحة الزيتية " المسيح يرفع من على الصليب " للفنان هانز هولبين في متحف بازل ، و هي اللوحة التي وصفها في الإبله بأنها تركت إنطباعا هائلا في نفسه " لقد توقف لعشرون دقيقة بجانب اللوحة دون حركة " كما كتبت زوجته في مذكراتها . و أضافت : " على وجهه المهيج كانت هناك تعابير مرعبة كنت ألاحظها غالبا خلال اللحظات الأولى من نوبات الصرع التي تنتابه ، لم يمر بنوبة في ذلك الوقت لكنه لم ينسى أبدا الحس الذي لازمه في متحف بازل عام 1867 ، لوحة المسيح يرفع من على الصليب و الذي ظهرت على بدنه علامات التحلل و لازمته ككابوس مرعب أشار إليه في ملاحظاته إلى الأبله و في الرواية نفسها كان دائما يعود إلى الموضوع " . حالة دوستويفسكي بعد مغادرته لروسيا كانت تظهره كمتهور و طائش ، فقد إستدان ثلاثة آلاف روبل من ميخائيل كاتكوف رئيس تحرير مجلة السفير الروسي ليستعين بها في مشروع الرواية ، لكنه خسر المال على طاولات الروليت . ثم إستدان ألف روبل أخرى و خسرها أيضا ، و كتب رسائل طائشة إلى من تبقى من أصدقاءه في روسيا و توسل إليهم أن يقرضونه المال . هواية القمار لا تفارقه عندما يقيم في سويسرا ، في نوفمبر 1867 ذهب إلى ساكسون لابين حيث خسر ثانية كل ما يملكه على طاولات الروليت كالعادة . و كتب إلى زوجته من هناك : " الرواية ، الرواية ، وحدها ستنقذنا ، فقط لو تعلمين كم أعول عليها ! كوني واثقة من أنني سأحقق هدفي و سأكون جديرا بإحترامك ، و أبدا أبدا لن أعود للقمار ثانية ، لقد حدث نفس الشيء معي عام 1865 لن أعود للتهور و الطيش أكثر مما كنت عليه و في النهاية سينقذني عملي . سأبدأ في عملي بالحب و الأمل و سترين كم تختلف الأشياء و كيف ستكون عامين بعيدا عن الوطن " . لم يكن وضعه المالي فقط هو الميئوس منه بل مرضه أيضا الذي ينهكه ، و نوبات الصرع التي كانت تحدث له في فترات قصيرة عبر هذه المدة . كتب إلى الشاعر ابولون مايكوف : " قريبا سأصل إلى جنيف ، لقد بدأت نوباتي ، و أي نوبات ! كل عشرة أيام نوبة تأخذ مني خمسة أيام لأتعافى منها ، يجب أن أتفرغ للعمل بجد ، لازالت نوباتي تجعلني عاجزا تماما و بعد كل نوبة لا أستطيع تجميع أفكاري لأربعة أيام ، ماذا سيحدث لنا لا أدري ، و مع ذلك لا تزال الرواية فقط هي منقذي ليس هناك طريق آخر و إلى أجل غير معلوم ، و هل يبدو من الملائم أن تتحطم كل قدراتي بالكامل بسبب مرضي ؟ لازلت أملك خيالي و هذا ليس أمرا سيئا ، على أية حال لقد إخترت ذلك في روايتي لكن يبدو أن ذاكرتي قد ضعفت ! " . بقيت النوبات تلازمه حتى بعد أن غادر سويسرا إلى إيطاليا و لم تكن ذاكرته فقط هي التي تعاني بعد كل نوبة ، بل كان يغمره إحساس فظيع بالذنب و كأنه إقترف جريمة مروعة . لكن شعوره قبل بداية النوبة كما وصفه في الأبله يبدو كتعويض له لذلك الأثر الفظيع ، و كتب إلى الناقد نيكولاي ستراخوف : " أنني أختبر الشعور لبضع لحظات قبل النوبة و كأنها شيء مستحيل تماما لا يمكن تخيله في حالة طبيعية ، لا يعرف الناس الآخرين عنها شيئا ، إني أحس و بكل ما تعنيه الكلمة بإنسجام مع نفسي و كل العالم ، هذا الشعور قوي جدا و مبهج إلى حد أن بضع ثوان تجعلني في منتهى السعادة ، أود بسرور لو إزدادت إلى عشر سنين من حياتي أو عمرا بأكمله " . صارت نوبات صرعه أقل تواترا مع التحسن في الجو ، لكن المؤسف أن الجو في جنيف ذلك الخريف و الشتاء كان سيئا بوضوح . و كتب إلى مايكوف : " لقد وجدت جنيف خادعة ، تافهة ، حمقاء بشكل لا يصدق و متخلفة فكريا " . إنه غادر روسيا هاربا و منبوذا تقريبا و بقلب محطم و تخلى عن أفكاره الليبرالية و كان يحترم كمرتد من قبل أصدقاءه القدامى ، في حين أن حلفاءه المحافظين الجدد لازالوا يشكون فيه ، كانت السلطات لازالت تعتبره شخصا خطيرا و تراقب مراسلاته الشخصية . كتب إلى مايكوف من فيفاي في 2 أغسطس 1868 : " كيف يستطيع الوطني الذي حرر نفسه و أعلن ولاءه لهم إلى حد خيانة قناعاته السابقة ، الرجل الذي يعبد الأمبراطور ، كيف يستطيع رجل مثله ، مخلوق فظ و أخرق يشكك في العلاقات مع حقير مثل بولس أو بيل ، كيف يتوقعون مني أن أخدمهم ؟ لقد فقدوا المئات من الرجال المذنبين في روسيا ، لكنهم مازالوا يشكون في دوستويفسكي ! " . خيانته لأفكاره السياسية السابقة كانت طبيعية تماما و تزامنت مع فقدانه لكل إيمان بالتأثير الأخلاقي لأوروبا ، الأمر الذي قاده إلى اليأس و المرض ، كل شيء شاهده في الخارج أغضبه و أضعفه ، ثم أنه عانى من ضربة أخرى قاسية ، فقد ماتت أول مولودة لإبنته صوفيا بمرض ذات الرئة في مايو 1868 . كتب إلى مايكوف من جنيف : " كانت في بداية تعرفها بي و حبها لي و تبتسم في كل مرة أكون بجانبها ، و عندما أغني لها الأغاني بصوتي المضحك كانت تحب أن تستمع إلي ، إنها لا تبكي أو يتغضن وجهها عندما أقبلها ، و تتوقف عن البكاء حين أقوم إليها ، و الآن يقولون لي كتعزية بأنني سأرزق بالمزيد من الأطفال . أين سونيا ؟ أين تلك المخلوقة الصغيرة ، و التي لأجلها أعلن بإخلاص قبولي للموت شهيدا لكي تعود هي إلى الحياة " . أنهكته المتاعب المالية و أرهقته ، و تحطمت أعصابه بالمرض و الإخفاق و ليس غريبا أن دوستويفسكي وجد عمله في الأبله لا يضاهي مقدرته . و كتب شاكيا إلى مايكوف : " بعد كل هذا يطلبون مني عملا فنيا خالصا و شعرا دون إجهاد ، دون إنفعالات دامعة ، و أشاروا إلى تورغينييف و غانشاروف ، دعهم يتذكرون تحت أية ظروف قمت بعملي " . من ناحية أخرى فليس أقل من الحقيقة أن منهج دوستويفسكي في الكتابة يظهره و كأنه يتطلب حالة خاصة من الإجهاد الذهني المستمر ، حالة من الثبات و الإثارة الزائدة و الإنفعالات الدامعة . و بخلاف تورغينييف و الذي دائما ما يأخذ الشخصية في عمله نحو الإنحراف و الذي لا يجلس أبدا ليكتب رواياته قبل عمل خطة مفصلة لتطويرها ، فإن دوستويفسكي يبدأ أولا مع الفكرة الرئيسية لروايته و لا يضع خطة عمل لها أو لشخصياتها . و رواية الأبله تستطيع أن تعطي مثلا ممتازا لتركيبة هذا العمل الإبداعي المؤثر ، و في وقت مبكر جدا من بداية عمله في الرواية ، كتب دوستويفسكي إلى مايكوف : " تعذبت بالفكرة لوقت طويل فقد كنت خائفا من عمل رواية منها ، لأنني كنت مترددا جدا و لم أكن جاهزا لها رغم أنها كانت مغرية و أعجبتني كثيرا . الفكرة هي إحتجاج رجل متكامل ، و إن كنت لا أعتقد بأن هنالك من يستطيع أن يكون مميزا أو مختلفا أكثر ، خاصة في مثل هذه الأيام . لقد أمسكت بلمحات رشيقة في هذه الفكرة قبلا لكن ذلك لم يكن كافيا ، إن حالتي البائسة فقط هي التي أجبرتني على تبني هذه الفكرة الفجة . لا أدري ! ربما تطورت تحت قلمي ، هذا لا يغتفر " . خلال عمله في أول مسودة للأبله أعد دوستويفسكي ثمانية نسخ مختلفة و التي كان في بعضها الأبله ينتمي إلى عائلة مختلفة و أصبح متورطا في كل أنواع المغامرات الميلودرامية ، قبل أن ينجزه كاملا . في النهاية تمكن الآن من كتابة الجزء الأول من الرواية و التي كانت أصلا في ثمانية أجزاء ، لكنه تخلص منها و بدأ في كتابة رواية مختلفة تماما . و كتب إلى إبنة أخته صوفيا إيفانوف في 13 يناير 1868 و التي أهديت إليها الرواية فيما بعد : " مباشرة و بعد أن كنت سأرسل الرواية إلى موسكو قررت إتلافها لأنها لم تعجبني بأي شكل ، و إذا لم تعجبني بأي شكل فلن يكون بإستطاعتي كتابتها جيدا ، ثم و من ثلاثة أسابيع مضت في 18 ديسمبر تحديدا بدأت في كتابة رواية جديدة و أعمل فيها ليلا و نهارا . لقد كتبت الجزء الأول في 23 يوما و سأبعثه مباشرة ، أما الجزء الثاني الذي أجلس لأكتبه حاليا فسأنتهي منه خلال شهر ، أنا أعمل هكذا طوال حياتي " . و في نفس الوقت كتب إلى مايكوف : " لقد أمضيت كل الصيف و الخريف محاولا أن أضع أفكارا متنوعة ، بعضها يجنح نحو التوحد و السمو ، لكن التجربة المؤكدة تجعلني أحس في افضل الأوقات بالتضليل و الزيف ، بالصعوبة و عدم نضوج بعض الأفكار . في الآخر سأختار واحدة منها و أجلس لأعمل ، لقد كتبت الكثير ، لكن في 4 ديسمبر أتلفته كله ، أؤكد لك بأنها ستكون رواية متوسطة الجودة و سأكون متعبا و مريضا فقط لأنها متوسطة و ليست عملا متكاملا . لا أريد ذلك ، حسنا ، وماذا علي أن أفعل ؟ " . كيف إذا نشأت الرواية ؟ لحسن الحظ أن مذكرات دوستويفسكي قد حفظت و من هنا يمكن إحراز فكرة جيدة عن أول ثمانية نسخ أصلية من الرواية و الأفكار و الشخصيات التي طورها منها أخيرا . و أصبح واضحا من هذه النسخ أن دوستويفسكي كان من البداية يحاول تقديم الرجل الكامل في عملية النشوء و ليس في الجزء الأخير كتجسيد للعقيدة المسيحية عن الرجل الكامل . ليس هنالك مجال للشك بأن دوستويفسكي حاول بنجاح في الأبله أن يقدم المسيحي المثالي ، و بخلاف المسيحي التقدمي وهب بطله ميزات و سمات في شخصيته و منزلته في الواقع و ليست إستعارية أو مجازية أو من عالم الخيال . إنتقد دوستويفسكي من خلال الأبله و بشكل لاذع و ساحق هذا العالم و خصوصا الطبقة الحاكمة في عصره . و في الواقع فإن الرواية بمجملها هي هجوم ساخر حاد و موجع على الأرستقراطية الروسية .



* ديفيد ماغارشاك ، ولد في العاصمة اللاتفية ريغا ، و درس الثانوية في المدارس الروسية . إنتقل للعيش في إنجلترا عام 1920 ، و تحصل على جنسيتها في العام 1931 . درس الأدب الإنجليزي و تخرج من جامعة لندن . عمل في الصحافة في الفليت ستريت ، و صدرت له عدة روايات . في العام 1948 بدأ العمل في ترجمة روائع الأدب الروسي الكلاسيكي .. و من بين ذلك رواية الأبله التي ترجمها من الروسية الى الإنجليزية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى