نجلاء حسون - القصةُ العربيةُ القصيرة.. ميلادٌ وامتداد

الحديثُ عن القصة القصيرة أمرٌ لا يخلو من المجازفة، ولا يخلو من اجتهادات تصطدم باجتهادات متنافرة حتى يصل بك الأمر إلى دوامة «اجتهاد على اجتهاد»، فهذا الفن من النثر الأدبي لم تعرفه العرب بصورته الحالية، وهو بالتالي بوّابةٌ مفتوحةٌ للدارسين لتحديد هويته وتعريف مسمّاه ومحاولة تصنيف أنواعه.
إن سردَ الخبر في حكايةٍ لم تخلُ منه لغة من لغات العالم، ولم يغب عن ثقافة من ثقافات الشعوب، فقصّ الخبر أمام الآخرين -معلومةً أو تصويرَ حادثةٍ- أمرٌ مألوف منذ القِدم، لكنه جاء بصور كثيرة ومسميات متعددة، كانت تعتمد في هويتها على ناقل القصة أو راويها، وعلى أهميتها للمجتمع التي وُلدت فيه، وعلى الأشخاص المعنيين بالاستماع، وقد كان لكل مُخاطَب لغةُ خطاب، فقصُّ الخبر على سماع القائد أو الزعيم أو شيخ القبيلة يحتاج لغةً هي غيرُها عندما يكون القصُّ للعامة أو الأهل والأصحاب، وقد أطلق العرب قبل الإسلام على هذا الفن النثري الأدبي أسماء بعضُها قريب مما نحن بصدده وبعضُها الآخرُ بعيدٌ كلّ البعد، فهو عندهم «الحديث، والخبر، والسمر، والخرافة». وعلينا أن نأخذَ بما قالوا ضمن ثقافة العصر ومفهوم القول، ولا نحاولُ التقليل ممّن اجتهدوا في هذا المضمار ومما وصلوا إليه من أسماء.
لم تعرف العرب قصصاً مدوّنةً حتى جاء الإسلامُ بدستوره القرآني، فقد ازدحم القرآنُ الكريم بقصص كثيرة كانت هي الأقرب لمخاطبة العرب، وحملت كل قصة منها مضموناً وأحداثاً وهدفاً «موعظة «. ومن هذه القصص، قصص الأنبياء والرسل (موسى وعيسى وهود ونوح)، وقصص الحكماء (لقمان والخضر)، وقصص النساء (حواء ومريم وزليخة)، وقصص الأقوام (عاد وقوم ثمود)، وقصص الظالمين (فرعون وقارون)، وقصص الحيوانات (بقرة إسرائيل وناقة صالح ونملة سليمان). وهذه القصص تمثّل أول قصص مدوّنة عرفتها اللغة العربية.
لقد شُغف الإنسان منذ الأزل بالتقليد والمحاكاة، والعرب لم يكونوا استثناءً، ففي صدر الإسلام حتى نهاية العصر الأموي ظهر الكثير من القصاصين الذين حاكوا القرآنَ الكريمَ في سرده للقصص وأخذوا في مجالسهم سرد بعض الوقائع حول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما جرى له مع الصحابة أو مع الكافرين، ثم جنحوا في ذلك إلى سرد قصص من سبقهم من الأعراب وخاصة الشعراء منهم، كذلك سردوا أيام العرب في الجاهلية، وربما يكون أولُ كتاب وصلنا مدوّناً هو كتاب «السيرة» لابن هشام الذي ذكر فيه الكثيرَ من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة، وفي العصر الأموي زاد عدد القصاصين وتنوعت محاور القصص واختلفت أساليبها حتى جاء العصر العباسي الذي عرف أدبَ فارس المتنوعَ، فقاموا بمحاكاته وتقليده وظهرت عندنا الحكاية الطويلة القابلة للاستماع من جمهور خاص كما في المساجد، وظهرت أيضاً الحكاية القصيرة التي فيها العبرة في المجالس الخاصة والعامة، كما ازدهر شيوع القصة الطويلة جداً والتي يُمكن لنا أن نسميها «رواية»، ونموذجه فن الحكواتي في مجالس السمر.
هناك من سيقول إن ما تناقلته العرب في تلك الفترة لا نستطيع أن نسميه قصصاً، وهو بعيد عن مفهوم القصة القصيرة، ولا يحمل في داخله ما عرفناهُ حديثاً من عناصر القصة القصيرة الحديثة، حتى وإن حاكى القرآنَ الكريمَ في السرد وطريقة العرض، فكيف إذن أسماها الله عز وجل قصص الأولين، ولنتذكّر قوله تعالى: «نحن نقصّ عليك أحسنَ القصص».
يُجمع الدارسون لهذا الفن كما هو في صورته الحالية، على أن بداية ظهوره قصةً قصيرة في الأدب العربي كان في منتصف القرن التاسع عشر، ولم أجد في الدراسات التي واكبت هذا الظهور نصاً تعريفياً وافياً للفن الجديد، فقد جاءت هذه الدراسات لتصف القصة كوافدٍ جديد على الثقافة العربية ولتحاول تحديدَ منهجيته وأُطره، فهو –بحسبها- فن نثري يقوم على تصوير جانب من جوانب الشخصية التي تدور حولها ومعها الأحداثُ من خلال سلوكيات تسير خطوطها متوازنة ومتناسبة أو منسجمة مع الأحداث التي تعيشها لُتكمل لنا الصورة الحياتية للشخصية، وقد زاد بعضهم ليقول إن تصوير المواقف كان جُلّ اهتمام الكاتب على حساب تصوير الشخصيات الثانية، وفي مراحل لاحقة اجتهد الكثيرون لتعريف هذا النوع الأدبي الجديد، وصاغوا من خلال نماذج قصصية جاهزة مبادئ القصة القصيرة الحديثة ومرتكزاتِها.
إن القصة القصيرة بنائياً فنياً عندي هي فن التكثيف عند الوصف، وعند السرد، وعند رسم الشخصية مرتبطة بالأحداث، وأقول التكثيف الذي يحتفظُ بالدلالة اللغوية والحَدَثية -نسبة إلى الحدث- إضافة إلى القيمة الأدبية للمنتج الإبداعي دون تشويه للصورة الكلية للفكرة، والتكثيف كما هو الحذف، فن قد يدفع من لا يتقنه إلى تشويه المعنى والخروج عن الدلالة، فليس معنى التكثيف أن أصل بالقصة القصيرة عند تكثيفها إلى كلمتين أو سطرين كما يُمارَس كتابياً فيما يسمى «القصة القصيرة جداً»، والتكثيف حين يطال النص الإنشائي الذي يميل إليه بعضهم، أو النص السردي الذي ينشأ عن مونولوج أو حوار طويل أو وصف متكرر، لا يغني القصة، فيصبح عندها خارج النص.
وبالإضافة إلى التكثيف في العبارة الواصفة أو الموصوفة، هناك البنية الدرامية التي ترتكز عليها فكرةُ القصة، وهذه البنية عليها أن تبقى متوهجةً بتنامٍ حَدَثيٍّ مرتبطٍ بشخصيات القص، والبنية الدرامية المتنامية هي العمود الفقري للقصة دون قصدية المعنى وهدف النص، وأنا قبل الكتابة لا أرتكز على قصدية معنى من معاني الحياة، وأحياناً أرى نفسي مسيّرَةً مع الشخوص التي رسمتها بعناية قد تأخذني إلى حدثٍ جديدٍ لم أفكر به، وهذا لا يعني أنني أكتب القصةَ بوعي الشخوص مع غيابي، بل بما أردته للشخوص أن تفعلَهُ ضمن خصوصية شخصياتها المرسومة، فالشخصيات عندي أرواحٌ لها ما لنا، وليست مجرد أسماء مرسومة لا علاقة لها بالنص، من هنا فإن الشخصيات تُشاركني معاناة الكتابة، وتفرح معي بفوز الإنجاز.
من الطبيعي أن لا تقف مبادئ القصة القصيرة على التكثيف، فهناك وحدة الفكرة ووحدة الهدف، إضافة إلى الشخوص التي هي العمود الفقري للقصة، وليس بالضرورة أن تكون شخوصاً بشرية، بل يمكن أن تكون حيوانات أو نباتات أو المكان الذي يمنح الكاتب لغة الكتابة، وأما عن نهاية القصة فلا أقبل بنموذج واحد للنهاية، فلكل قصة أحداثها وظروفها، ولكل كاتب رؤيته في هذا المجال، وهو الأقدر على وضع النهاية التي يراها مناسبة لقصته.
وبشأن قولنا إن القصة القصيرة أحد فنون الأدب النثرية، فهو قولٌ مبنيٌّ على الغالب، وليس على الكل، فالقصةُ القصيرة قد تكون شعراً، أو زجلاً عامياً، ولنا في لاميّة الشنفرى دليلٌ على ذلك.
إن السرد والحوار يتناوبان في تشكيل القصة القصيرة، وقد يغيبُ أحدهما عن قصة ما وقد يجتمعان معاً، وإلى جانب هذين المرتكزين، على الكاتب ألّا يغفل الجملة المدهشة، والعبارة التي تفيض دلالات تُغني السرد والحوار معاً .
إن وحدة الفكرة ووحدة الهدف وتكثيف العبارة لا تعني أن يكون الزمان ثابتاً غيرَ متحرك، وأن يكون هناك وحدة للمكان، فالقصة القصيرة تحتمل التنقل في الزمان والمكان ضمن السياق الذي تجري به الأحداث، وضمن تحرك الشخصية في الزمان والمكان، وهذا الأمر ميسور في القصة ولا يُخرجها إلى فكرة الرواية التي تحتاج إلى كل ذلك.



* عن الراي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى