عبدو القرقني - ما أعذب ذلك اللّقـــــاء !

السيد عبد الفتاح القرقني.jpg
أمّي منى دوس.jpg
ما إن اشتدّ قيظ الهجيرة و امتنعت الأرض على الحافي والمنتعل حتّى سلّم فاتح أمره لله و ولج غرفة قبليّة ورثها عن ولدته منى . هذه الغرفة العريقة في القدم تعــــرف ببرودتها صيفـــــا و دفئها شتاء دون أن يكون في ذلك سرّ فكلّ ما في الأمر أنّ قبابها العربيّة التصميم شاهقــة و جدرانها السّميكة من الحجارة الكلسيّة .
تمدّد فاتح ذو القامة المديدة والجسم النّحيف على سرير بنيّ من خشب الأبنوس هيّأته له زوجته شيماء بترتيب فائق دون أن يغفل بين الفينــــــــة و الأخرى عن تجفيف جبينه الغرّ الرّاشح عرقا بمنشفة من القطن أو تحريك مروحة من سعف النخيل قرب وجهه المستدير المشرق الوضّاء .
آن الأوان أن ينال نصيبا من الرّاحة بعد تناول الغداء في السّقيفة رفقة زوجته شيماء و أبنائه سليم و أماني
و نادر .على غير عادته في هذه القيلولة لم يطالع فاتح جزءا من رواية » السدّ « للأديب محمود المسعدي و لم يكحّل أجفانه نوم معسول هادئ بل طفق يجول ببصـــره شارد الذّهـــن في أرجــاء هذه الغرفـــة الّتي بدت له غريبــة و موحشة هذا اليوم فكأنّه لم يطأ عتبتها المباركة منذ أسابيع .
كلّ ما في البيت من أثاث و أمتعة و أدباش يذكّره بأمّه منى الّتي انتقلت إلى جوار ربّها في مثل هذا اليوم خلال شهرأوت منذ ثماني عشرة سنة فخلّفت في نفسه لوعة و حرقة لا يشعر بها سوى أولئك الّذين ذاقوا مرارة اليتم و فقدوا و السّنـــــد المعنــــويّ و المادّي و غدت أيّامهم أمرّ من العلقم و أحرّ من الجحيم : ملاءتها الجربيّة النّاصعة اللّون ذات الخطوط الأرجوانيّة ، مظلّتها المخروطيّة الشّكل ، صورتها الكبيرة بالأبيـــض و الأسود الملتصقة بالحائط في الواجهة قبالة الباب على يمين مرفع مرصّف بالتّحف النّفيسة و قنّينات العطــــــــر و صحاف الزنك و مصاحف القرآن ومجامر البخور ، جرّتها الخزفيّة المشقّقة المبتورة اليد ، مصباحها النّفطيّ المثبّت في مسمار قرب المرآة ، بلغتها الجلديّة الصّفراء ، أغطيتها الصّوفيّة المطويّة بنظام فوق صندوقها الأخضر المزخرف بطلاء ذهبيّ اللّون ، قرداشها و مغزلها ، جفانها السّودانيّة ، مهراسها الإسكندريّ ، حصيرها المنسوج من السّمار....
طال تفرّس فاتح في زوايا البيت في اندهاش شديد و طال معه بكاؤه الأخرس فدموع الرّحمـــة فاضت كغمامة في عينيه الزّرقاويـــن و انسكبت سخيّة على وجنتيه الحمراوين فلم يأبه بها و لم يسع إلى تجفيفها كتجفيف العرق المتلألئ على جبينه آنفا . المهمّ بالنّسبة إليه هو التّنفيس عن كروب و التّفريج عن أحزان مازالت تعتصر في قلبه كلّما تذكّـــر والدته منى و تذكّـــر خصالها الحميـــدة و فضائلها عليه في التربيــــــــــــــــة و التعليم و الإنفاق رغم قلّة ذات اليـد و ضحالة الإمكانيات فلولاها لم يكن مربّيا فاضلا ذائع الصّيت يجلّه الصّغـــــــار و يوقّره الكبار لصحوة ضميره و سعة علمه و كرم خلقه و رجاحة عقله
و نقاوة وطنيّته .و لولاها لم يكن رجلا شهما وفيّا إلى مبادئه، معتزّا بعروبته ، مفتخرا بقوميّته ، معتدّا بإسلامه.
ما أعظم حنينه إلى أمّه فهو قد اشتاق إليها اشتياق المسلمين للصّلاة في المسجد الأقصى مهد السّيد المسيح عليه السلام، و أولى القبلتيــــــــــــــن و مسرى النّبي محمّد صلّى الله عليه و سلّم !
ما أروع أن تزوره أمّه فيفضفض لها في منتهى العفويّة و الصّراحة بما يختلج في صدره كما كان يفعل حينما كانت هي على قيد الحياة !لأوّل مرّة يلوح له طيف أمّه الملائكيّ داخل تابوت أخضر مزدان بآيات قرآنيّة كريمة مذهّبة و معطّر بالمسك
و العنبر على جوانبـه ورود فوّاحة و على مقربة منه تحلّق حمائم بيض لها هديل شجيّ ناعم : كانت منى في ريعان شبابها ، نقيّة الثّوب، شذيّة الرّائحة ، بلجاء الوجه ، باسمة الثّغر، رخيّة البال ، تحدّق في ابنها بعينين برّاقتين دون أن يزوغ بصرها ذات اليمين و ذات الشِّمال . هل هذه النّظرات الفاحصة الثّابتة تترجم لواعج شوقها إلى فلذة كبدها أم أنّها تقرّ بتبرّمها من لوعة الفراق و وحشة القبر ؟
ها قد أرخى فاتح العنان لبراقه الجامح ، الثّائر ، المتمرّد و تأمّل مليّا وجه أمّه الصّبوح و أجهش بالبكاء . و بعد مهلة عصيبة من النّحيب جفّف دمعه المدرار بمنديل بنيّ و حيّاها بتحيّة أهل الجنّة و في نفسه الهائمة السّائمة قدر كبيــر من الأسى و الخنوع و الخضــوع لقضاء الله وقدره :
-« السّلام عليك و رحمة الله و بركاته يا أنبل أمّ في الوجود»
ارتجّت هذه الغرفة البسيطة ارتجاج الأرض عند نزول الصّواعـق في يوم عاصــــف و ما نبست منى ببنت شفة تشفي غليلــــــه و تخفّـــف مـــن حمّى كدره و منسوب زفراته و تزرع في نفسه زنابق عطرة هي زنابق السّلوى و الجلد و تشعّ في روحه ضياء وقّادا هو في أمسّ الحاجة إليه في هذه السّنوات العجاف سنوات الجور والغـدر و الإهانة . كيف ستكلّمه منى
و هي متوفيّة ؟ إن كلّمته الآن ففي ذلك معجزة لا يعلمها أسرارها إلاّ الله ربّ العالمين .
ظنّ فاتح أنّ شيطانا ماردا قطن هذه الغرفة و أزمع على إقضاض مضجعه و تنغيس نومــــــــه و اللّهو به كلهو الرّياح الهوجاء برؤوس النّخيل حتّى يفرّ هاربا ناجيا بجلده مُخليا له المكان .
ارتاع فاتح رعبا و هلعا على الرّغـــم ممّا كـــان يمتلكـــه من شجاعة و إقدام فارتعدت أوصاله
و انتصب شعره كمسلاّت قنفد و اصطكّت أسنانــــه النّاصعة البياض و جفّ الرّيق في حلقــــــــــه
و تسارع نبضان قلبه كقرع الطّبول في الأعراس البدويّة . سدّ أذنيه بأصابعه لتحاشي ذلك الدّويّ الهائل الّذي كاد يتلف سمعه
و يرحل بــه إلى عالم آخـــــــر لا تدركـــه الأبصار و البصائرلا من قريب و لا من بعيد .
و ما إن استعاذ فاتح من كلّ شيطان رجيــــم و تلا الفاتحــــــة و آية الكرسيّ و سورة الإخلاص و المعوّذتين بقلب منيب حتّى انقشع ذلك الصّوت الصّاخب عن غرفته لكنّ طيف أمّه لم يفارق عينيه فاستبشر به استبشارا عظيما واستعاد هدوءه
و أمنه .
ما ضرّ لو اغتنم فرصة هذا اللّقــــــــاء المباغت و حكى لها فـــي أريحيّـــــة و شفافيّة عمّا يحوم في ذهنه من ذكريات مذهلــة و خطوب مثقّلة بالأوجاع.
في الحين أسدل غطاء رهيفا على جسده المكدود و المهدود وأغمض عينيه الذّبلتين النّديّتين و قال لها بصوت خفيض متهدّج متلجلج تكتنفــــــه آهات عميقة و أنّات سحيقة :
« أمّاه أنا في صدر حياتي البائسة جرّعتني وفاة والدي سالم مرارة اليتم فبتّ لا أعرف عنه شيئا كثيرا إلاّ من خلال أحاديثك الممتعة الّتي كانت تمجّده و توليه حقّه من الوفاء و التّقدير. لقد ذكرت لي في العديد من المرّات أنّ بشرته قمحيّة و قامته معتدلة و كرمـــه حاتمـــــيّ و مرحه و مزحه خير دليل ظرافته و خفّة روحه . كنت لا أملّ من الإصغاء إليك و أنا طلق المحيّا ، منفرج الأسارير ، مشرئبّ العنق ، معجب بوالدي لا تفوتني شاردة و لا واردة .
كم وددت أن تكون لديّ صورته الشّمسيّة حتّى تقرّب لي ملامحه أكثر فأكثر فتكون في ذهني صقيلة ، شفّافة ، واضحة المعالم لا لبس فيهـــــا و لا غموض !.
أمّاه نامي في لحدك قريرة العين فأنا بحول الله سأكون مثل أبي عفيف النّفس ، رقيق القلب ، راجح العقل ، أنيق المظهر ، سخيّ اليد ، جميل الصّبر ، عظيم العفو ، حسن السّيرة ، نقيّ السّريرة ، لطيف المعشر.
أمّاه بعد رحيل والدي المبكّر إلى مثواه الأخير عشــــت في كنفــــك أنمــو و أركـــــــض و أرتــــــــــع رتع الغزلان في البيادي الرّحبـــة . و عندما تتعبني ألعاب الطفولـــة و خصومات الأتراب ألتجئ إلى أحضانك العطرة فأجـــــــد العطـــــــــف و المودّة والأنــــــس و الدّفء و الاستقرار. لا غرو إن اعتبرتك غيمة ممطرة تسقين روحي العطشى من غدق محبّتك و حنانـــــــك و تزرعيــن فيهـــــا بذور الحريّــــــــة و العـــــــدل و الإخـاء و المساواة التسامح و التكافل و التّأزر
و إلى غير ذلك من القيم الإسلاميّة الخالــــدة التي يحسدنا الغرب عليها .
و تبقى خلالك العريقـة و خصالك السّامية المشعل الوضّاء الّذي يبدّد ركام الظّلام من حولي في عصر انهالت فيه عليّ شدائد الفتـــــن من كل صوب و حدب و تقاذفتني فيه أمواج المحن . الحمد لله ربّ العالمين على مواجهتي لألوان من التحدّي الجائــر و ضروب من التّآمر الماكر في عزم و ثبات و إباء و عزّة نفــــس أمّاه ادعي بالهداية لمن ظلمنـي و اغتابني و خذلني و سعى إلى تقصيب جناحي حتّى لا أطير حرّا طليقا مع أطيار السّرب و لا أحلّق مرفوع الهامة في عالم الإبداع . متى ستشرق شمس الحقّ فيعترف المذنب بخطئه و ينثني الظّالم عن جبروته و غيّه و يسود بين الخلاّن الودّ و الوئام و الصّفاء ؟
أمّاه هل تتذكّرين جيّدا تلك السّهرات الرّائعة داخل هذه الحجرة على ضوء مصباحنا النّفطيّ الضّئيل النّور؟. كنت تغزليــــن الصّوف في انشراح وابتهاج و كنت أنا و إخوتي الثّلاثة نراجع دروسنا في كدّ و جدّ . كم قرأنا على مسمعك الواحد تلو الآخر نصوصنا الجديدة ! و الويل لمن لا يقرأ نصّه قراءة معبّرة ميسورة خالية من الأخطاء فهو سينكبّ من جديد عليه في حزم مطأطئا رأسه ، ثانيا ركبتيه إلى أن يجيد إحضاره على أفضل حال – شربة ماء – كما تقولين باللّهجة العاميّة .

كنّا نقضّي بقيّة السّمر في الإصغاء إلى حكاياتك الطّريفة المسلّية فهل أنسى كيف كنت تجلسيننا أمامك على حصير منسوج من السّمار يكسوه مرقوم قفصيّ و تغمريننا بقبلاتك العذبة ، العبقة ثمّ تحكين لنا قصصا طريفة فلا يمضي وقت طويل حتّى تنتهي تلك الحكاية القصيرة و يكحّل النعاس أجفاننا فنهبّ إلى أفرشتنا المتواضعة متثائبين مُودّعين بعضنا بعضا آملين أن ننعم بنوم مريـــــــح و نغنم بحلم هنيء لا تكدّره أضغاث الأحلام أو شيء من هذا القبيل .
أمّاه لقد رويتِ لنا ذات ليلة من ليالي الشّتاء الباردة و أنت حزينة ، مبتئسة ، مقطّبة الجبين، متربّعة في جلستك على جلد خروف ناعم حكاية فريدة من نوعها كان لها أثر عميق على حياتنا فهي قد حفّزتنا تحفيزا منقطع النّظير على الشّغف بــــــــالمعارف و العلوم الصّحيحة و الآداب . حكيتِ لنا في إسهاب يعتريه أسف شديد أنّك أميّــــة تجهليــــــــــن القراءة
و الكتابـــــة و لا تحفظيــــن من القرآن الكريم ســـــوى عدد ضئيل من السّور و قد يعود الفضل في ذلك إلى جدّك محمّد ذاك الشّيخ الضّرير الّذي أصرّ على تعليمك رفقة إخوتك الصّـلاة وأهمّ مبادئ الدّين الإسلاميّ . أمّاه في عهد الصّبا و بالتّحديد أثناء فصل الشّتاء كنت صحبة إخوتي نهرول داخل الحقول و البساتين بحثا عن الحلازين و قلوبنا طافحة بالبشـــــر و البهجة .
كنّا نجمع الحلازين في سطل أخضر من اللّدائن غير مكترثين بالبرد الّذي يلسع أقدامنا الحافية و غير آبهين بالرّذاذ الّذي يبلّل أطمارنا البالية و غير مهتمّين بالرّياح الّتي تصفع وجوهنا دون شفقة و تكاد تسقطنا أرضا . و لمّا نفوز بنصيب وافر من الحلازين تغسلينها جيّدا في قصعة من الفخّار لإزالة مع علق بها من تراب و أوساخ و رغوة لزجة كرغوة الصّابون ثمّ تطهينها في طنجرة كبيرة على موقد نفطي ( البابور) . للبابور موسيقى ساحرة أجمل من سمفونيّات بيتهوفن و موزار و أشدّ وقعا في وجدان الرومانسيّيـــــن و أعمق أثرا في نفوس الجائعين فهي تسيل لعابهم و تحرّك شهواتهم للأكل في نهم و شره.
و عند النّفاد من عمليّة الطّبخ توزّع أختي الكبرى هذه الحلازين على صحوننا فنستلّ لحمها اللّذيذ بمهارة من أصدافها بواسطة أشواك الجــــريد الخضراء و نلتهمه في نهم هنيئا مريئا حامدين الله على نعمه و جزيل عطائه.
أمّاه منذ أسبوع ابتعت محفظة جلديّة بنيّة اللون جميلة المظهر لأصون فيها دفاتري و ملفّاتي و وثائقي فتذكّرت بعجالة محفظتي البائسة التّعيسة الّتي لازمتني خلال ثلاث سنوات كاملة من التّعليم الابتدائيّ دون أن تبلى و تتهرّأ . أنت قد خطتها لي في شكل مخلاة بعناية من القماش الأزرق المالطيّ فرصّفت فيها عن مضض و أنا موزّع بيــــن الحـــــــزن و القلـــق كتبـــي و كرّاساتــــــي و أودعـــت فيهــــــــــــا لوحتـــــــي و طباشيري و طلاّستي و مقلمتـــي الخشبيّة .
أنا لست متحسّرا على البؤس الّذي عانت منه عائلي في تلك الحقبة من الزمن فليغبـــــــــر دون رجعــــة و لتندثر معه براثنه الموحشــــــة و عضّاته الدّامية و لتحلّ محلّـــــــه سعـــة العيـــش و رفاهيته
أنا متحسّر خلال هذه السّنين على تلك الحياة البسيطة الوديعة الّتي زال ألقها و انفرط عقدها و غدت أطلالا دارسة نتّكئ على أعمدتها الرّخاميّة للحنين و الاعتبار . لقد كانت الحياة بسيطة يسيرة حلوة لا تعقيد فيها و لا وهن و لا عجز و لا تكلّف
و لا كثرة إنفاق . كان أجدادنـــــــــا و آباؤنا عظماء يأكلون ما حضر من الطّعام و يلبسون ما ستر من الثّياب
و يفلــــــــحون الأرض من شروق الشّمس إلى غروبها دون كلل أو ملل لتوفيـــر مؤونتهم من خضـر و غلال و زيـت و تمر
و شعيــــــر و عدس ... بعد العشاء كانوا يتسامرون في مســـــــــرّة و إمتاع ومؤانسة على ضوء القازة . هم لا يمتلكون وسائل الإعلام و التّرفيه الحديثة مثل المذياع و التّلفاز و الفيس بوك هم يمتلكون صلة الرّحـــــم و الدّفء العائلـي و التّماسك الأسري و خفّة الرّوح و نقاوة الابتسامة . كانوا تارة يردّدون في طرب و نخوة أهازيج شعبيّة و أغاني جربيّة من التّراث
و طورا يسردون خرافــــــــات ظريفة و نوادر طريفة فيها بحر من الخيال و ضروب من المغامرات الجريئة . ما أجمل السّمر على ضوء «القازة» ! و ما ألذّ الشّاي الأخضر المحلّى بالنّعناع و المرصّع باللّوز و هو يدار على الحاضرين في كؤوس طرابلسي فيترشّفونه على مهــــل آملين أن يجدّد نشاطهم و حيويّتهم كي يواصلوا السّمر هاشّين باشّين دون أن يداعب النّوم أجفانهم ! .
أمّاه إن ردّد الشّاعر محمود درويش أشعارا جزيلـــــة تترجم حنينه إلى أمّـــــــه و تتباهيه بها بين الأمّهـــــــــــات الفلسطينيّات المناضلات : أحنّ إلى خبز أمّي و قهوة أمّي و لمسة أمّي …فأنا أيضا من أوكد حقوقي أن أحنّ إلى وجهك الضّحوك و طلعتك البهيّة و بسماتـك الرّقراقــــــــــة و أنفاسك العطـــــــــرة و دعواتك المشرقة في زمن أرعن صارت فيه الأخلاق في الحضيـض و ازداد فيه الوطن العربيّ انقسامــا و وهنا وازدادت شعوبه قهرا و عراء و ازدادت القوى الاستمارية استنزافا لثرواته و خيراته فعــــمّ القتــــــــــل و الدّمار و تفشّى الحسد و الكـــره و الغدر و الاستهتار و غدت صلة الرّحم مغبونة موؤودة في هذه الدّيار إلاّ ما رحم ربّي العزيز الغفّار .
أمّاه في هذا الصّباح الجميل جلست كالعادة بمرفإ الفلوكة الدّائري على صخرة بارزة تكاد تكون مستوية على الرّغم من تجاويفها الإسفنجيّـــــــة و التصاق الضّريع المخضرّ والأصداف الصّغيرة في حواشيها .
ها أنا أهيم في تأمّل البحر بعينين تلوّنتا بزرقته وعلى ثغري ابتسامة ضئيلة شاحبة تريد أن تصوّر الراحة
و الرضا فلا تستطيع أن تصوّر إلاّ حزنا دفينا ضاق به صدري . بعد هذا اللّقاء الحميميّ بيني و بين هذه الطّبيعة الخلاّبة ستتسع هذه الابتسامة الضئيلة و تتحوّل إلى ابتسامة عريضة متألّقة على ثغري و مشرقة على وجهــــــــي و طافحة في قلبي فيتقشّع حينئذ ضباب الحزن و الملل و ينقشع معه اليــأس و الإحباط و خيبة الأمل و ينقشع معه اليــأس و الإحباط و خيبة الأمل . تربّعت الشمس على عرشها فافترشت قرصها الأحمر الأفــــق و انسدلت جدائلها الذّهبية على البحر فبدا سطحه الصقيل أرجوانيّا عليه خربشات متعرّجة متموّجة خطّها النّسيم الرّخو العليل بريشته السّحريّة . الفلائك الرّاسية على ضفاف البحر انطبعت صورها المزدانة على سطح الماء فشكّلت لوحات متناسقة الألوان آية في الحسن و البهاء . سرب بجع حلّق في الجوّ طليقا مستبشرا بنور الصّباح و لمّا أعياه الطّيران سبح في تأنّ و أمان قرب القوارب الشّراعيّة . سمكة طائشة قفزت في خيلاء
و كبرياء قفزات عالية فوق الماء فلمع بطنها تحت أشعّة الشّمس كصفيحة من اللّجين . نحامة ورديّة اختالت في مشيتها كالعروس على ضفاف البحر و على حين غرّة اهتدت إلى هذه السّمكة المغرورة فاضطرّت للطّيران الخاطف في اتّجاهـها و هي سابلة جناحيها مقرّة العزم على صيدها . و ما إن ظفرت بهــــــا حتّى عبثت بها لحظات معدودة بين منقاريها المعقّفين ثمّ ألقت بها حيّة في الماء الصّافي دون أن تفكّر في التهامها ففي جوفها ما يكفي من المحّار و سرطان البحر الأزرق .

كم تمنّيت من أعماق قلبي أن تكون الرسّامة بلقيس أنيسة لي في هذا الصباح الجميل ! ليتها جلست على صخرة عالية بجانبي و طفقت تحدّق في هذا البحر الهادئ بعين مترعة بالإعجاب و قلب طافح بالغبطة ثمّ انبرت في رسم لوحة زيتيّة فاتنة تعكس عشقها المرهف للبحــــــــــر و نبوغها المبكّر في الفنّ التشكيلــــــــي و الزّخرفة . على أيّة حال فأنا سأصف لها وصفا دقيقا مشاهد هذا الصّبح الأنيق مع التاّكيد على هذه العناصر الّتي انطبعت في وجداني الغضّ : زرقة البحر و صفرة الرّمال و صفاء السّماء و بريق الشّمس . سألتمس منها في منتهى الأدب أن تصوغها في لوحة فنّية راقية نابضة بالحياة تتعانق رسومها في جنون و تتماوج ألوانها الحارّة و الباردة في تناسق و تتلألأ أنوار شمسها في تراقص ذابلة حينا و ساطعة حينا آخر
أمّاه اسمحي لي بتقبيل جبينك الغرّ الوضّاح و إهدائك هذه الأبيات الخالدة للشّاعر محي الدّين خريّف:
أُمَّاهُ يَا حُزْنِي وَ يَا فَرَحِــي
يَا بَسْمَةَ الْأَطْفَالِ فِي الْمَهْدِ
يَا مَعْبَدًا شَيَّدْتُهُ بِيَــــــــدِي
أَبَدًا يَضُوعُ بِأَطْيَبِ النِّــــدِّ
نَمَّقْتُهُ مِنْ نَسْجِ أَخْيِلَتِـــــهِ
وَ حَبَوْتُهُ بَأَعَزِّ مَا عِنْـــدِي
حُبِّي الْكَبِيرُ وَ أَلْفُ أُغْنِيَةٍ
تَرْجِيعُهَا مِنْ جَنَّةِ الْخُلْـــدِ ».
و حوالي السّاعة الثّانية بعد ىالزّوال تسلّلت شيماء إلى الغرفة القبليّة على أطراف أصابعها فغَشِي أنفها الدّقيق عطر عبق لا تتطيّب به إلاّ المترفات فجنّ جنونها و تطاير الشرر من عينيها الدّعجاوين . ساورتها الظّنــــــــون و تملّكتها الهواجس و ذهبت بها كلّ مذهب .
وضعت شيماء صينيّة القهوة النحاسيّة بعنف على المنضدة حتّى كادت تكسر ما عليها من آنيات خزفية و أخرى بلّوريّة ثمّ سألت زوحها فاتحا بصوت فظّ غليظ فيه كثير من التشنّج و الحنق و الغيظ .
-« من هي صاحبة هذا الطّيب أيّها المربّي الفاضل ؟»
في طرفة عين أزاح فاتح الغطاء عن وجهه المتصبّب عرقا و خاطبها لاهثا ضاحكا محافظا على هدوئه و وقاره
- « صاحبة هذا العطرهي امرأة جميلة في ريعان شبابها تعرفينها جيّدا»
- « هل هي امرأة عاهرة فاجرة ؟ »
- « معاذ الله هي امرأة عفيفة شريفة ذات حسب و نسب »
- « كلّ ابن آدم خطاء، وخير الخطَّائين التوّابون. إن كنت قد ارتكبت معصية اعترف بذنبنك فالاعتراف بالذّنب فضيلة »
- « أنا معلّم و المعلّم قدوة لغيره منزّه عن الرّذائل و عن كلّ ما له صلة بتدنيس الشّرف و النّأي عن مكارم الأخلاق »
شرب فاتح ماء باردا من « الجدّيوة» ثم استطرد قائلا في منتهى الأدب و اللّطف
- « يا عشيرة عمري و حبيبة قلبي و أكسيجين حياتي منذ متى صار المربّون الأفاضل يخونون نساءهم »
- « لست أدري لكن ما أنا متأكّدة منه هو أنّك قد ارتكبت خطأ جسيما على هذا السّرير »
- « إنّ بعض الظنّ إثم فقسما بالله العظيم إنّني بريئ من ادّعاءاتك الباطلة »
- « لا تجعل الله عرضة لأيمانك و لا تلعب بعقلي فأنت لست ملاكا تمشي على وجه الأرض و بما أنّك إنسان فيمكن أن تغريك امرأة ذات حسن و جمال فتنساق إلى أهوائك و تقع في الخطيئة »
- « أستغفر الله العظيم من كلّ ذنب عظيم و هل هنالك امرأة تضاهيك خلقــــــــا و بهاء و إشراقا و نضارة في هذا العالم ؟ »
- « أعرف أنّ لسانك يغزل الحرير و أعرف أنّك تعمل بالمثل القائل و إذا عصيتم فاستتروا «
- « باختصار شديد إنّ المرأة الّتي زارتني أثناء القيلولة هي أمّي »
- « إنّ أمّك عجوز و هذه المرأة شابّة »
- « لقد كرّمها الله بالجمال و التّشبيب ككل النساء الصالحات في جنّة الرّضـــوان »
- « بكلامك هذا أثرت استغرابي و دهشتي فمنذ متى صار الموتى يبعثون من قبورهم قبل يوم الحساب ؟ اعذرني إن لم أصدّقك»
- « الّذي حلّ بهذه الغرفة هو طيف أمّي و ليس جسدها فجسدها الطّاهر محفوظ في قبـرها »
- « هل أصابك مسّ من الجنون أو أنهكتك حمّى شديدة فكان الهذيان و الهذر و ولوج عالم الغيب الّذي لا يعلمه إلاّ الله من الباب الكبير »
- « لا تفكّري في هذا أو ذاك فأنا في كامل مداركي العقليّة »
- « لا أظنّ ذلك ربّي يسترك و يسترني فالعقل أهمّ نعمة تكرّم بها الله على عبــاده »
و عند احتدام النّقاش بين فاتح و شيماء كلّمتهما منى من أعلى السّقف بصوت خافت فيه فيض من الرّقّة و اللّطف :
- « ابني فاتح شريف عفيف سليم العقل صادق في أقواله و أعماله . إن زلّت به القدم و اقترف هفوة من شأنها أن تنكّد عيشكما فاعفي عنه و اصفحي إنّ الله يحبّ المحسنين و لا تغفلي إطلاقا عن نصحه و حسن معاشرته » .
لم يتعجّب فاتح من كلام أمّه اللّطيف المرصّع بأثمن الجواهر لأنّه كان ينتظره في لهفة و شوق بينما شيماء أصابها ذهول شديد شلّ حركتها و أزاغ بصـــرها و عقل لسانها و شرّد ذهنها و بلبل تفكيرها و دفع بها إلى أوكـار الأوهــــــــام و الضّلال .
تململ فاتح في مكانه قلقا و كأنّه جالس على الجمر ثمّ حملق إلى صينيّة القهوة عساه يجد سلوى و مخرجا لهمومه و كدره و أحلامه الضّائعة : إبريــــــــــــق و فناجين و سكّرية و مرشّ لماء الزّهر و صحن لمقروض القيروان المرشوش باللوز و الفستق . ها هي شيماء تستفيق من دهشتها في نشاط فتمرّر يدها في لين على شعر زوجها النّاعم و ترّبت على كتفه في خفر و ودّ ثمّ تقدّم له القهوة جاهزة في فنجان وضعت بجواره ملعقة صغيرة و قطعة سكّر و قطعا من المقروض . ما إن أحضرت شيماء قهوتها في فنجان من الخزف و رشّتها بماء الزّهر حتّى استقرّت بجانب زوجها و هي تفكّر في مداعبته ملاعبته و ضمّه إلى صدرها المهتزّ ضمّات عنيفة مشفوعة بجحيم من القبل و لمسات حريريّة ناعمة في أماكن مختلفة من الجسد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى