حسين عبد الرحيم - مدارات الجوزاء.. قصة قصير

قالوا، أمامك سبعة أيام لتكمل روايتك، وسبعة أيام تعد فيها نفسك لمواجهة العالم الروائي. أعطوني ورقاً كابياً، غير مسطور. كتبت ستكتمل أعوامي الستون قريباً. كنت دائماً ما أرى صوري القديمة في عقود من أزمنة فرت في جنون. كتبتُ: أنا الحسين بن الحسن بن أيوب، بلا حسنات. ضحكوا، فتماسكت. سحبوني من عنقي، فانصعت للقسوة وقلت: أمهلوني حتى أفيق من سباتي، حتى أطل على الابنتين. قبّلت أقدامهما. تركتهما في دفء العَرق. تمنيت الموت بعيداً، من فراش الرفيقة المكلومة.
أتحسس رأسي المدبّبة الصلعاء إلا من شعيرات قليلة، تطيش وسط عربات مسرعة في طريقي الطويل. أتحسس جروحاً غائرة. تاريخي القديم المسطور في شوارع ومدقَّات متعرجة. أتحسس جروحاً لم تلتئم بعد.
أكتب: أنا ابن الليل العاري إلا من خرق بالية. أحاول الطيران، أصحو في منتصف الليل. دائماً، على سفر. لا أعلم وجهتي. هويتي معلقة، كلوحة معدنية تدلت من قعر عربة بيجو موديل 1967.
أكتب. دائماً ما تزورني الصورة في نومي، تفر في الظلام على أسفلت أسود كلما اقترب الفجر. يُجرونه من جلبابه الكابي. يُساق إلى غرفة القتل المشروع. أبي؛ يترجرج جسده النحيل في الجلباب. أتحسس عظامي. أترك عَرقي. أصرخ. أصارع أزمنة تطاردني. هل لي بيت هناك؟ أتذكر موعدكم جيداً. أعلم أنها فرصتي الأخيرة معكم. سأرقص فوق أجسادكم، وحدي، بعد أن تفر عائلتي بعيداً. لن أقتل الأب. هو مقتول من المهد إلى اللحد. أعاودُ محاولة الطيران فوق البيوت. مدينتي تسمى السلام. أحلق بلا صعوبة تذكر. جسدي خفيف. صرتُ نحيلاً. فوق النيل، جسدي خفيف ولكنه هش. أحلق بلا وجهة، ومن دون اتزان. أشعر بخفة طائر يعصف به الهواء.
قبل الولوج من باب الله المفتوح على مصراعيه؛ أكتب: كنت قد فرغت من ليلتي الأخيرة قبل عامي الستين بسبعة أيام. كانت السهرة الأخيرة، وسط رجال الضبطية، وكانت اللفائف البنية، وأقراص النشوة الهاربة. كنت أنا الفتوة في تلك الليلة. كنت نجم السهرة. الفتى المتهور بلا ضابط. أيقنت أنها الفرصة الأخيرة. قضمت الأحمر، ورميت بالأخضر في جوفي بلا ماء، وسلمني الهياج إلى الأبيض، فراودت نفسي حتى موعد الإقلاع. اليوم؛ تحدث الضابط عن توحده معنا، قال إنه لا يشرب إلا في وجودي.
بكى كثيراً بعد السيجار الثامن. تحدث عن خيانة زوجته، وخيانة الأوطان لأبنائها. أذاب القطعة المتبقية في فنجان القهوة السادة. شربت كأساً. تحول جسدي إلى هالات، فوقفت لأرقص. خلعت قميصي، وطوّحتُه في الهواء. أبحث عن ماهية السلام ومدينته؛ في العيش، والسكن، وشراذم، وتكاتك، وأراذل، ودخان أزرق ورمادي وأسود، وملامح لا تعرفني. لا أعرفها. تستهجنني. أمقتها. تبرق لي في الظلمة، في النور، هويات قاتلة في مدينة الغبار.
أضرب الأرض بقوة، لينكسر البلاط تحت حذائي. اليوم بكي العميد بلا مهابة واستند على كتفي. حدثَني عن التماهي، فحدثته عن العزلة، وأشقائي، وحنين جارف لأمي. عدتُ إلى الوراء عشرين عاماً، إلى ضربة غدر وسط المدينة الهشة الغارقة في ركام المتوسط. عدتُ إلى اثنين من إخوتي، فرَّا، فيما أهل القتيل عاقدون النية على الثأر.
عدت من سفري لأجد أن لاشين، كان قد انتهى من ضرب الجثث المعلقة في السقف، بالسياط على أمل أن ينتزع منها اعترافاً نهائياً بخصوص طربة الحشيش المغربي. قصدتُه، مرعوباً. قميصي الأحمر، صديري يلائم وهجَ الثلاثين. أثر خطواتي واضح على الأسفلت. قلتُ له: - أين أنتم؟ فأجلسني وحكيتُ له ما حدث، قال إنه يعرف أنني أعلم أنه يتاجر في المخدرات. بيَّتوا نية تأديبه. هجموا عليه في باحة شكوكو، وكان الليل الشتوي قد انتصف. ثني وفرد وتركيع، وشخر وسب وصمت، وصفعة قوية على قفا أحدهم. قطعوا رقبته، وهرب الشقيق الأوسط، ليختفي قرب المقابر. سُدت الأبواب الحديد التي يدخل الناس منها إلى مدافن الكاثوليك. وقع بصري على نصر؛ الأقرع. رأسه تلمع تحت شذرات القمر، قبالة أضواء منحسرة تأتي من بيوت عزبة عوف.
أكتب... أكتب.


* نقلا عن الدستور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى