احمد زين الدين - فبركة الثقافة والسلع

مع صعود نمط الإنتاج الرأسمالي، يهيمن سلطان الإعلان على كل الفضاء العام من حولنا، وعلى كل نشاط عمومي. وباتت وظيفته تتخطى المدارات التجارية الاقتصادية التي يعمل داخلها، بقصد تصريف الإنتاج، عبر الدورة الاستهلاكية التي هي في أصل وجوده وانبثاقه في الأزمنة الحديثة، ليصبح عصب العصر، ومهندس الذوق الحديث، فارضاً سننه وأنظمته على العقول والنفوس. وغدا هذا المنحى جزءاً ريادياً من بنية الحضارة الصناعية، وابتكاراً لا غناء عنه من ابتكارات المدنية، وضرورة من ضروراتها. ولعله حمل في جيناته الأولية قابلية النمو والتشعّب إلى حقول ومجالات أخرى. فالإعلان قبل أن تكتمل عناصره في الإطار الحالي، وقبل أن يتسع مفهوم السلعة والتشيؤ عند ماركس ليشمل المنتوجات الثقافية الحديثة، وعند لوكاتش العقلنة التكنولوجية. كان آلية أو طريقة من طرق الإقناع والتأثير المستوحاة من متون البلاغة الإغريقية كجزء أساس من الخطابة الأرسطية والمنطق السوفسطائي. واستخدم المبشرون المسيحيون بعض هذه المبادئ لنشر عقائدهم. وعبّرت القراءة البلاغية في التاريخ العربي عن خلاف بين الفرق الإسلامية، هدفه الأول إقناع كل طرف بصحة أطروحاته.
طبيعة الإعلان ووظيفته الإشهارية حتّما اتساع مداه وتأثيره، لا سيما عقب ازدهار الوسائط الإعلامية المعاصرة. فهو لغة تخاطُب وتواصُل، يمزج العلامات اللغوية مع العلامات البصرية والتمثيلات الأيقونية. وهو يستخدم في تركيباته الأساليب والمحسنات اللفظية مثل: الجناس والطباق والسجع والتورية، والمكتسبات الألسنية والسيميائية الحديثة، والإيقاعات الموسيقية والغنائية والمؤثرات الصوتية، والميكانيزمات السيكولوجية. ويقتبس الأساليب الهوليوودية في طريقة العرض والتصوير، وفي استلهام أبطالها ورموزها، وكل الإمكانيات التكنولوجية المتاحة في سبيل إقناع المتلقي بأهمية الحصول على المنتوج المقترح بيعه.
بيد ان الإعلان لا يفصح لغوياً عن مبتغاه التجاري، ولا يدعو مباشرة إلى الشراء. إنما يعمل على بناء استراتيجية تحيل إلى تضمينات وإيحاءات تحمل طابعاً فكرياً، وإلى استثمار قيم اجتماعية رائجة ومرغوبة في المجتمع الذي يتوجه إليه. وإلى إحاطة المنتوج أو تقديمه بصورة باروكية أحياناً. والإعلان بمعنى من المعاني هو ميتافيزيقا أو ميتولوجيا، كما يسميه بارت في كتابه الشهير «Mythologies» أي انه يستعلي على الواقع، حيث يتحوّل المطبخ في مجلة «Elle» الفرنسية الشهيرة إلى مطبخ أفكار، إلى مطبخ أحلام وصور، مطبخ سحري يدغدغ أحلام الشريحة الشعبية. وأطباق يمكن استهلاكها بمجرد النظر إليها. والإعلان لا يقدم السيارة أو الأزياء أو المنظفات أو العطور أو الحلي أو الأطعمة أو النبيذ أو المرطبات أو السجائر أو الهواتف الذكية إلا بوصفها أكثر تفوقاً وسحراً من الحياة نفسها. فهو يخلع على المنتوجات صفات عجائبية متسامية تجعلها في مرتبة روحية مثالية. وتنحو جوديث وليامسون منحى بارت، قائلة إن من يستحوذ على منتوج معلن عنه، إنما يشتري سهماً في خرافة !!

أسلوب حياة

تبثّ الدعاية صوراً ذهنية وأفكاراً وقيماً ثقافية ترسّخها الاستراتيجيات التجارية في اللاوعي الجماعي. وهي من طبيعة رمزية ومتخيّلة. وعليه، فإن المنافسة بين الماركات ليست منافسة تجارية فحسب. إنما مزاحمة بين رؤى متباينة للعالم، وصراع بين القيم. فقد تحوّلت السلعة التجارية إلى أسلوب حياة، أو إلى جزئية حلمية منفصلة عن واقعها وطبيعتها ومادتها الحقيقية، ووظائفها النفعية، كما يقول برنار كاتولا، في أحدث كتبه «الإشهار والمجتمع».
أضحت الماركات العالمية معيار انتماء في مجتمع معولم يتسارع فيه تطبيع الأذواق والرغبات والعادات، وخلق مناخات من الحبور والاحتفاء بكل جديد ومبتكر، وذيوع متعة الاستهلاك والبذخ، وأنماط التملّك والاستحواذ، والانجذاب إلى أبطال جدد في ميدان الرياضة والفنون والتمثيل والاقتصاد، والتمركز حول الفرجة واستثارة الخيال. وتعبّر اللغة الإشهارية، وهي تعرض السلع المصورة والمترافقة مع مفردات ومصطلحات الكلام الترويجي، عن تشكيل حقل مغناطيسي جاذب لكل الصفات الدالة على الصفاء والنقاء والفاعلية، مثل: الدقة والصقل واللمعان والجدّة والرفاهية والنعومة والطواعية والأناقة والسرعة والمتانة والحيوية. محوّلة ذهن المتلقي إلى الجانب المخيالي والاستيهامي لديه على حساب النفعي والوظيفي. وترى وليامسون انه في اللحظة التي تحثّنا الإعلانات على شراء سلعة ما، إنما تدعونا للانخراط في ايديولوجية معينة عن ذاتنا وعن العالم، لأن الإعلانات العصرية تُشركنا دون ان ندري، في تفسير علاماتها اللغوية والبصرية وشيفراتها، وفي تركيب المعنى الذي تستخدمه السلعة المعلن عنها، وكيفية تمثّلها لما يمتلكه المجتمع من أساطير وخرافات، ومن مضامين وإيحاءات ناجمة عن خياراته السوسيوـ ثقافية.
أفضى الإعلان بتوليده الصور في كل مكان إلى تأثيرات مباشرة على عاداتنا وسلوكنا. فهو يلعب دور الضابط الثقافي الذي يبشّر بأساليب حياتية، ويمثّل التطلعات والرغبات المكبوتة والصور التعويضية. وغالباً ما استعار مضامينه من الأدب والشعر والفن التشكيلي والذاكرة التاريخية للشعوب. بيد ان النسق الإعلاني الذي يقدّم نماذج إنسانية وثقافية مقبولة من شرائح اجتماعية عديدة، إنما ينمّي في اشتغاله اليومي بجرعات محسوبة وبطيئة وممنهجة، نزوعاً غير منظور أو ملموس إلى ثقافة تغيّر حساسيات المستهلكين ومواقفهم، من خلال دينامية لغته الترويجية، وموضوعاته المنفتحة على كل جديد، وعبر ما يقترحه على المتلقين من قيم ونماذج من المماهاة السلوكية. دون ان يعني هذا إذعان المتلقي وقبوله المواقف والقيم الجديدة. وهذا بالذات ما يثير حفيظة المجتمعات الشرقية والإسلامية على الإعلان الصحافي والتلفزيوني الذي يُرمى عادة بالتغريب الثقافي، من خلال الترويج للسلع الأجنبية، وما تحمل من أبعاد رمزية دالة على التصاقها بطابع الحياة الغربية وأخلاقياتها وسلوكياتها. ومن خلال إظهار المرأة بكل فتنتها وشبقيتها وإثارتها الجنسية. بما يحوّل هذا الموقف المعارض إلى صراع بين القيم المحلية والقيم الغربية. وهذا صراع متفرع من أصول فكرية، على علاقة وثيقة بموقف بعض المسلمين من تجليات الحداثة ومنجزاتها.

لسان الشعب

كذلك اتخذ المفكر الأميركي هربرت ماركوز في كتابه «الإنسان ذو البُعد الواحد» من الدعاية التجارية ووسائل الاتصال الجماهيري موقفاً فلسفياً ذا جذور ماركسية، يقوم على مفهوم الاستلاب، حيث ان الحاجات التي تروّج لها الدعايات التلفزيونية، ويلبيها المجتمع ليست حاجات تلقائية أو ضرورية. بل هي كاذبة ووهمية ومصطنعة من فبركة الدعاية. وهي تقلّص الخيارات الفردية، وتولّد عادات مفروضة واستجابات مقنّنة. وإذا كان هذا الإنسان يتوهم أنه حرّ لمجرد انه يستطيع أن يختار تشكيلة من البضائع والخدمات، فهو أشبه بالعبد الذي يتوهّم بأنه حر، بعد أن مُنحت له حرية اختيار أسياده. وتنظر وليامسون النظرة ذاتها إلى الإيديولوجية التي تستولدها الإعلانات، والمنطلقة من حجب الفروقات الطبقية بين الناس، وتمييزهم وفق معايير نوعية ما يستهلكون من منتوجات وسلع. وعديد من المفكرين يناوئون سيطرة البروباغاندا، لا سيما عملها على «غسل الأدمغة» والتلاعب بالعقول، وتغذيتها إياها بآراء مغلوطة ومعلومات جاهزة مباشرة، وقتلها الحس النقدي والقيم الثقافية الرفيعة، فيتحوّل الناس إلى ما يسميه جوزيه أورتيغا «Man mass» (الإنسان الجمهور) أي ان الجمهور يتحوّل إلى كتلة متماثلة غير متميّزة المعالم، ووحدات مجهولة الهوية، لا وجه لها. وفي رأي علي عزت بيغوفيتش ان الدعاية تجرّد الثقافة من شحنتها الوجدانية، و«تصبّ الأرواح في قوالب متماثلة».
وتستثمر السياسة هذه الظاهرة فتدمج استراتيجية الإشهار الإعلاني في سياق الحملات الانتخابية، وتقتبس الأحزاب السياسية لغة الإعلانات لنشر أفكارها ودعمها والمنافحة عنها من خلال الوسائط الإعلامية الجماهيرية، وعبر نشر الملصقات الدعائية التي تحمل رسائل أيقونية وتشكيلية ولغوية معبّرةً عن المكوّنات السياسية لهذه القوى الحزبية، ومبلورةً صورة إيجابية عن خطابها وعن مرشحيها. وتكتسب أطروحاتها كثافة درامية من خلال المزايدة والتضخيم والتفخيم، واحتدام المنافسة والتحريض بين الأطراف المتصارعة، لا سيما في الأوقات العصيبة والحرجة ولحظات القلق الاجتماعي.
لا مناص من التوجّس من المنظومة الدعائية، لما تحمل من عواقب سلبية، كتغريب الإنسان عن واقعه، وخلق مؤثرات اصطناعية، وأفكار مخادعة، ومثاقفة وهمية، تقوم على تماثل خاطئ واختيارات مؤذية. إلا انه بتأثير الصيرورة القاهرة للعقلانية التكنولوجية، أصبحت الثقافة أكثر اندماجاً بفضاء السوق الرأسمالي الواسع. وباتت الآثار الفنية والأدبية جزءاً من العدّة التي تزخرف عالم الأعمال. وتنوّعت أنماط الانتاج الثقافي ومفهومه الذي لم يعد مقتصراً على الكتاب أو على الجهد الشخصي، بل أضحى منوطاً بفريق عمل متكامل الاختصاصات ومدرّب، ومؤلف من منتجين وفنيين ومصورين ومهندسي ديكور، ومرتبط بأجهزة تواصل متطورة وأقمار صناعية وأجهزة بث والتقاط وحملات دعائية لتمويله ونشره. والمرء لا يملك ان يتجاهل هذا التفاعل بين معطيات الثقافة الحديثة وحاملها المادي التقني ذي التوجّه الدعائي، مهما تعاظمت سلبياته ومخاطره، فقد غدا الإعلان لسان الثقافة الشعبية الجماهيرية، التي يهيمن عليها خطاب تجاري مخيالي بمفرداته وصوره ونماذجه. بل هو الحلم الذي تمّ إيقاظه داخل ثقافة ما لبثت أن تعولمت. «إنه خرافته الحية» التي نُسجت على مهل وروية، كما يقول برنار كاتولا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى