بثينة العيسى - جماليات المكان.. دعوة للمساءلة

بغض النظر عن ذكرياتنا فإن البيت الذي ولدنا فيه محفور – بشكل مادي – في داخلنا ، إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية ، بعد مرور عشرين عاماً .. و رغم السلالم الكثيرة الأخرى التي سرنا فوقها ، فإننا نستعيد استجاباتنا " للسلم الأول " ، فلن نتعثر بتلك الدرجة العالية بعض الشيء ، إن الوجود الكلّي للبيت سوف ينفتح بأمانة لوجودنا ، سوف ندفع الباب الذي يصدر صريرا بنفس الحركة ، كما نستطيع أن نجد طريقنا في الظلال إلى حجرة السطح البعيدة ، إن ملمس أصغر ترباس يظل باقياً في أيدينا .. "

هل صحيحٌ ما أوردته الفلسفات الميتافيزيقية ، أن الإنسان ( مقذوفٌ في العالم ) ، مخذولٌ ، متروكٌ للتساؤل في عالمٍ صريح في عدائيته ؟ أم أن ما نسمّيه ( الوجود – هناك ) ليس كابوسياً كما يُصوّر لنا بقدر ما هو مشروع لانفتاح الداخل على الخارج ، لاحتواء العالم عوضاً عن الذوبانِ في أتونه ؟

أستحضر هنا من الذاكرة ما جاء في فلسفة هيغل الجمالية ، حول أن المرحلة الثالثة من اللا انتماء هي العودُ الجميل إلى العالم عبر الانفتاح عليه ، و السيطرة عليه بالوعي ، لا عبر التماهي فيه لدرجة الغياب ، لدرجة يتحوّل فيها الإنسان إلى فرد في قطيع .

إن غاستون باشلار ، كما يتبدى جلياً من خلال الاقتباس السابق يعارض بقوّة ما تضخه الفلسفات الوجودية حول عدائية المكان ، و حتى انفصالية المكان ، حيثُ " أنا المكان الذي أوجد فيه " ( نويل آرنو ) ، و حيثُ " المكان في لا مكان ، إنه في الداخل ، مثل العسل في الخلية " ( جو بوسكوي ) .. و حيثُ نصوص شعرية كثيرة اعتمدها كوثائق لدراسته عبر اتباعه للمنهج الظاهراتي في كتابه ( جماليات المكان ) .

" إن الفلسفة التي تنطلق من لحظة " إلقاء الإنسان في العالم " هي فلسفة ثانوية ، إنها تقفز فوق الأوليات ، و تلك ، حين كان الوجود هنيئاً ، حين كان الإنسان منخرطاً في الهناءة ، و حين كانت الهناءة ترتبط بالوجود "

إنه كتابٌ جاء ليعيد صياغة العلاقة بين ما سماه فلاسفة الوعي ( الأنا و ما ليس الأنا ) حيث ينفي عدائية العالم من حقيقة بسيطة و مهمشة بمبالغة : أن الإنسان في بداية قدومه إلى العالم يكون محفوفاً ببيت ما ، بيت يرادف ما سماه " الهناءة " و من ثم " الوجود " حيث " البيت هو ركننا في العالم، إنه كوننا الأول " إذ يتفتح العالمُ كله بألفةٍ وتستحيل العلاقة بين الشخصي والكوني إلى شيءٍ حميم ، أو لنقل بأن جدلية الداخل والخارج ( الوجود والعدم ) تتبدى عبر سلسلة من الترددات ، التفاعلات ، التي تسيرُ جنباً إلى جنب نحو إزالة الفواصل العدائية بين الاثنين ، لأن الخارج و الداخل كلاهما ألفة ، و " العتبة شيءٌ مقدّس " ( بورفيرس ) ، و كل شيءٌ ينطلق نحو نقيضه ، إنها ديناميكية الحبّ المقدّسة.

يبدأ الكتاب في شرح وظيفة المكان الأليف ، البيت / العش / القوقعة و حتى الغابة ، بأن ما يحققه هو – من وجهة نظر نفسية – عملية تثبيت للسعادة ، ( بمعنى أن يثبت الإنسان عند مرحلة أو موقف معين لا يستطيع تجاوزه ) و إن كان باشلار يشير إلى عملية التثبيت هنا بشكلٍ أكثر إيجابية ، إن ما يحققه هذا الكتاب – على المستوى الأول على الأقل – أنه يجدد علاقتنا بالأمكنة ، العلاقة التي ما فتئت تضمر بسبب تضخم إحساسنا باللا انتماء ، و بالانفصال عن العالم ، و على مستوى آخر ، يسعى الكاتب حثيثاً نحو تجديد الروتينية التي نسبغها على تعاطينا مع / عبر الأمكنة ، إنه مغامرةٌ جيدة لنشعر – كالأطفال – بأن الوجود يتحقق عبرنا ، و في كل لحظة ، بشكلٍ مفرط الخصوبة و الجدة ، بامتداد المسافة التي أوردها باشلار بين ماهو متناهي في الصغر ، كالقواقع و الأعشاش و الأدراج .. و بين الألفة المتناهية في الكبر ، في الأودية و الصحارى و البحار .. إنه يعبئنا بحبّ العالم مرة أخرى ، وكأن الكتاب معاهدةِ سلامٍ ( فعّالة ) – و يا للعجب – بين الإنسان و العالم ، الإنسان المنخرط في المكان و المنفتح فيه ، لأننا بمجرد ما نغادر منظومة المكان و الزمن نصبحُ أمواتاً ، أو نصبح في عالم الآخر حيثُ الحقائق تختلف ، هل نشعر بالزمن في الجنة ؟! لو كان الأمر كذلك لكان الخلود عقوبة ! و لكن الأمكنة – في هذا العالم على الأقل – تجيء لتكثف إحساسنا بالزمن ، لأننا آنيين و مدركين لذلك :

" في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن ، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان ، و الذي يود حتى في الماضي حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة أن يمسك بحركة الزمن ، إن المكان ، في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها ، يحتوي على الزمن مكثفاً ، هذه هي وظيفة المكان "

فالأمكنة ، بكل ما تضمه من تفاصيل و ملامح و روائح و زوايا ، هي التي تضخ في أعقاب الذاكرة جذوة الزمن ، حيث يتعامد البعدان ، المكان و الزمن ، و يتحقق التواجد ، فعبر المكان وحده يسمح بلحظةِ التداخلِ بين الأزمنة .. و يصبح الماضي – من جديد – ملكاً لنا ، و نحن – بحكم إنسانيتنا – ندرك بأن ماضينا هو في الغالب أثمن ما نملك ، لأننا محصلة تراكمٍ حيٍ لحضوره الممعن في التجذر ، إننا ظلالٌ لحضوره :

يا لذلك التوق إلى أماكن لم
تنل استحاقها في تلك الساعة العابرة
لكم أتوق لأن أعيد بشكل أجود ، عن بعد
تلك الإيماءة المنسية ، ذلك الفعل الإضافي ( ريلكه )

والمكان – بالمعنى الصوفي – ظهور ، أو لنقل : تجسيد لغواياتٍ تتملكنا حول الرغبة في العزلة و الاتصال و ما بينهما ، لأن وجودنا في الأمكنة هو شرط الفعل ، و الفعل شرط الوجود ، الوجود الذي يتحسر لمجيئه ناقصاً .. حيث " الإنسان وجود نصف مفتوح ! " ، إننا نعرفُ ذلك حدسياً ، و هذا ما يجعل الذكريات مفرطة الخصوصية ، و ما يجعل الأمكنة تصبغ بتلك الخصوصية أيضاً ، لاسيما بالنسبة للذات الشاعرة ، عندما يستحيلُ المكان إلى إنسان نحاكيه ، و يضّمنا :

" طويلاً بنيتك أيها البيت !
مع كل ذكرى أحمل الحجارة
من الأرض حتى أعلى جدرانك
و رأيت سطحك يصقله الزمن
متغيراً كالبحر
يرقص على خلفية من الغيوم
يخلط السقف – معها – دخانه

...
يا بيت الريح ، المأوى الذي أزالته نفخة " ( لوي جوليم )

إن مفاد هذه القراءة المستعجلة حقيقةً لكتاب جميل هو أن نعيد ضخ أسئلة المكان في أعماقنا ، أن تكون فرصةً لتجاذب الزمن عبر الأمكنة الأليفة و الإنصات إلى جدليّتها الظاهرة ، و بعيداً عن الإفراط في التعقيد .. لنتساءل ببساطة عن بيوتنا ، عما نحبه في بيوتنا ، عن تلك الأركان الأثيرة .. لنعيد صياغة أنفسنا في اتساقٍ أجمل مع المنظومة الزمكانية ، لنندمج لأول مرة ، و لكن بدون الذوبان الذي يصوّره الوجوديون ككابوس ، بل بالانفتاح الجميل ، و السلام إن أمكن ..


بثينة العيسى
16 ديسمبر 2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى