حسام المقدم - عودات غير مقدسة

* إلى صديقي الشاعر.. الغائب في بلاد الثلج والضباب.



عليك السلام في ليالي الصقيع. السماء - لابد- ترعاك وأنت تحت مظلتك في طرقات الثلج. ليرفق بك الليل الطويل هناك، ولتزرك الشمس الخجول. أنا وعظام أجدادي المتقلقلة في ترابها نقرؤك السلام، ونقاسمك خبزك وشاي الصباح وأخبار بلدنا في الفضائيات.




عليك السكينة، والأمل، والعقل.. نعم العقل الذي سلبوه منك، حين زعموا أن مجنوناً ظهر بميدان التحرير وجاء بأفعال عجيبة جلبت معها القلق الأمني. عرفتك، وتيقنتُ أنك عُدتَ في زيارات خاطفة، قُمتَ خلالها بأمور كثيرة..

(1) المائدة..

قالوا إنك وقفت بقلب الميدان الفخم، عيونك بيضاء مقلوبة نحو سماء متهللة بالبشر والصفاء. ملابسك فضفاضة، أصابعك دقيقة طويلة مفتوحة على السماء. بوجهك كان نور، وبقلبك كان لطف، وبعيونك كانت ألفة. لماذا التموا حولك؟ ماذا ظنوك؟ كانت حلقة أخذت تضيق حولك، حلقة تهاب الاقتراب، تشير دون لمس. كيف أصف ما قالوا بشأن نظراتهم نحوك؟ تلك النظرات من عيون لا تضحك، وإذا ضحكت سارع العنكبوت وبنى بيوتاً حولها. قالوا لك: فيك نور يا شيخ، نسألك عن الحال؟ قلت لهم وعيونك في السماء: ليس عندي ما ليس عندكم، حالكم أنتم أدرى به. قالوا: نراك موصولاً مع السماء، ادع لنا؟ قلت لهم: في بعض الأحيان السماء تدير وجهها عنا. قالوا في رجل واحد: أنت والسماء أمامنا، اطلب لنا المائدة، بحق هذه العيون الملهوفة، وهذه الأجساد التي أمضها العراء، وهذه الآذان التي صُمت عن نشرات الأخبار، هيا ادع لمائدة تنزل علينا. قلت لهم: أقول لكم إن لكل منكم سماء يخبئها في قلبه، ويستطيع أن يطلب بنفسه. قالوا: لا نفهم.. أنت وأمثالك يا شيخ موهوبون للسماء، أما نحن فأولاد الأرض. قلت لهم : السماء لا نطولها، أما الأرض فتحت أقدامنا. قالوا في لغط كبير: اطلب لنا مائدة السماء، اطلب لنا المائدة. أحنيت رأسك للأرض، ونظرت في عيونهم واحداً واحداً. إنهم في انتظار كلمة، همسة، إشارة. قلت لهم: المائدة ستنزل، لكن ربما تكون السماء ليست معكم. اشتد أزيز النحل في كلامهم، وتداخلت ألسنتهم، فيما وقعت أنت جاثياً على ركبتيك، رافعاً كفيك النحيلتين، ذائباً في كلمات مبهمة. قالوا إن جلستك المتبتلة دامت لدقائق، قمت بعدها وانتحيت جانباً برأس منكس. أشرت لهم أن ينظروا صوب السماء. كانت رقابهم تماثيل متصلبة، والعيون جحظت وتكورت كأنها ستفقأ السماء بنظرات مصممة راجية. ها هي نقطة بنفسجية فائرة تنبثق من جوف السماء. القلوب تدق بفرحة الأجراس، والوجوه مستبشرة تهنئ بعضها بالفرج. قالوا إن وجهك انسحب منه النور وتكتل في بؤرة حول قدميك. النقطة تنزل الهوينى، وتبين تدرجاتها اللونية الرائعة. إنها الآن على ارتفاع مبنى المجمع، بنفسجية ذات حواف حمراء. قدّروا أنها مائدة ما رأوا لمثلها شبهاً، ولا للونها مثلاً. الأيدي امتدت وطالت، وأصابع الأقدام أنّت تحت ثقل أجساد تود أن تطير لولا الأرض المحبة الجاذبة. ميزوا لمائدتهم زوجين من الأرجل المقوسة المذهبة، ونقوشاً غريبة تسلب اللب. العيون أخرجت ماءها، والوجوه احمرت بدم القلوب الزاعقة بالدق، أطراف الأصابع طالت ولمست، والكتلة الآدمية انزاحت للخلف وتركت المائدة تستقر فوق رخام الميدان برفق. القلوب زعقت، والدم غار من الوجوه واختبأ في زوايا المفاصل. العيون تجري وتمسح وتفحص في كلمتين كُتبتا بالخط الكوفي الرائع فوق ظهر المائدة الملساء. قرأوا وجزعوا وبحلقوا حولهم فلم يجدوا لك أثراً. قالوا إنك ضحكت عليهم واستغفلتهم. أحدهم انفجر بصوت صارخ رجعه الصدى وقرأ: مائدة المفاوضات!

(2) القلم..

حكوا أنك ظهرت في الميدان، بعدها بأربعين يوماً، في يوم مطير كانت السماء فيه بلون جلد الفأر. وكنت أنت غائر الوجه تصطك ساقاك. قالوا إن حلقة ذات عيون ثعلبية أحاطتك، عيون تكشف ما تحت جلدك المومياوي. خلف الحلقة كانت جموع غفيرة قد جاءت تتابع المشهد بعيون حزينة. رجال الحلقة كانوا قد حددوا الموعد في اليوم الحافل: يوم الزينة! أنت لوحدك إلا من بضع عيون في الخلف تعرف أنها معك بالقلب. قالوا: هل تلقي أنت أم نحن؟ قلت لهم: لا يهم.. إنني أرى في وجوهكم لهفة البدء، ودائماً كان الإنسان لهوفاً. قالوا: لا تزد، بيننا وبينك هذه الساحة، وهؤلاء الواقفون هناك، أليسوا هم الماشين خلف كلماتك؟ دعهم اليوم يروا مصير كلماتك الخائبة. قلت لهم: إن كانوا قد مشوا خلف كلماتي، فهي لم تطعم لهم فماً، ولم تشف لهم مرضاً. قالوا: لكنك دائماً ما قلت لهم أيمنوا وأيسروا فأطاعوك. كانوا على الدوام يحبون كلماتك. قلت لهم: كيف أنزع من قلوبهم حب الكلمة، ربما عرف واحد منهم سر الكلمة، وشرف الكلمة، وثبات الكلمة. قالوا: نراك تكثر وتزيد، هيا ألق أنت أولاً. أخرج قلمك الجبار وألقه ها هنا في الساحة. قلت لهم: سألقي قلمي تحت أرجلهم لو طلبوا. قالوا: بل تحت أرجلنا، وسنلقي أقلامنا، وستعرف تلك الجموع أنها سارت خلف قلم من أقلام الأنبياء الكذبة. قلت لهم: القلم يضعف، لكن لا يكذب. كنت في مركز الحلقة، ويدك امتدت بلطف وأخرجت قلمك. انحنيت قليلاً كأنك على مشارف بئر سحيقة، وألقيت بالقلم الذي انفلت على الرخام متقلباً عدة دورات حتى سكن. هم ألقوا أقلامهم الملونة فأحاطت بقلمك من كل جهة. قلمك تلوى وانثنى ودب زاحفاً بعيون متألقة هادئة. أقلامهم تكورت وانثنت وأخرجت ألسنتها المشقوقة. قلمك ثعبان وليد ممشوق يشبه سحلية صفراء شاحبة، يتحرك ببطء وينظر لتلك العيون الزجاجية الهائلة المحدقة به. ثعبانك يروغ، يتودد تحت جلد أحدهم، يدفن نفسه، يلتقطه أحد الثعابين العملاقة بفمه ويقذفه في وسط الحلبة. ثعبانك رفع رأسه وفحص بعينيه تلك الجحافل. لوى نفسه بمهارة مستديراً، وفي لمحة انفلت من ثغرة بين ثعبانين، وبجسده الانسيابي مرق بخفة مذهلة تلحقه الثعابين بسرعة تناسب أجسادها الممتلئة. الواقفون أخلوا الساحة وتابعوا المباراة العجيبة بعيون متوثبة. دورات عديدة في أرض الميدان.. على الرخام وفوق المقاعد، مروراً بالحشيش الأخضر وعبور الطريق، حتى محاذاة السور المشجر لمبنى الجامعة الأجنبية. كيف أوتي هذا الشيء الهزيل هذه القوة ليسحب تلك الكائنات في لفات مرهقة لاهثة؟ كيف همدت الثعابين بعدما اختفى عنها ذلك الشيء؟

قالوا إن ثعبانك غافلهم ودس بنفسه في مكان آمن. لقد حام حول تمثال "عمر مكرم"، وزحف بخفة حتى نام داخل صفحات الكتاب الضخم الذي يتأبطه التمثال.

(3) الغيمة..

هذه المرة قالوا إنك كنت محروساً بغيمة تظللك أينما سرت. حدث هذا بعد أربعين يوماً أخرى. كنت تجلس على مقعد رخامي من مقاعد الميدان وهي فوقك.. غيمة رقيقة في حجم رغيف كبير، وبها تدرجات من الرمادي الفاتن. كان القادمون من بطن نفق المترو يتوقفون لحظة مندهشين من هذا الذي تنازلت له الطبيعة عن إحدى غيماتها. بعضهم كان يمشي في طريقه برأس مثقل، وآخرون لاذوا بالقرب منك، يتأملونك بعين على الغيمة والأخرى عليك. قمتَ ماشياً بخطو حكيم، فتبعتك الغيمة إلى مربع أخضر من الخضرة الزاهية. واحد منهم قال لك: هل تقبلني تابعاً على أن تُعلمني مما عُلمت؟ أحنيت رأسك على الرحب والسعة. نظرت للسائل فوجدته ذا عينين فيهما قلق السؤال، تشيان بحيرة مؤلمة. قلت له: أقول لك إن هذه الغيمة لا تصحبني.. أنا الذي أصحبها. فتح عينيه: كيف؟ قلت له وقد كسرت بصرك في الأرض: الحق أن التابع والمتبوع شيء واحد! قال لك بضيق: لا تزدني حيرة على حيرتي، إنني أبغي غيمة تخصني، غيمة يراها الكارهون فتغسل قلوبهم. قلت له: لا تَنْسَ أن الكراهية حين تخطر على بالك، فهذا كفيل بإبعاد أي غيمة عن رأسك. قال: تظلمني أيها الصالح.. أحتاج غيمة فعلاً وبسرعة، غيمة تحرسني وتمطرني دماً بديلاً عن دمي الذي أبيعه بانتظام باسم التبرع، أو يهبط منها ملاك عملاق يضربني إذا فكرت مرة أخرى أن أُفرط في كليتي. أريد غيمة تحميني مني إذا ما خطر لي أن أهب ذلك النابض بين ضلوعي لذيل ورقة بها توقيع على عقد إيجار. قلت له: لك قلب إذن.. أوليس هذا يكفي؟ قال: وهل القلب هو الدم؟ قلت له: دم وأمور أخرى تتوقف عليك. قام الرجل ومضى نافراً. شيعته بعيون محزونة. قالوا إنك في دقائق حاورت وجادلت الكثيرين الذين صبروا وأنسوا لكلامك. واحد واثنان وثلاثة، والغيمة استطالت شيئا فشيئا. ماذا نسمي غيمة بحجم الميدان تحتها بشر يسمعون بعيونهم ويرون بآذانهم؟ قلت لهم أشياء رائعة، حكيت عن غيمتك الحنونة القادمة من الجنوب، حين كانت ماء عذباً في نهر، ثم صعدت بإذن السماء إلى السماء، وما زالت في تحولاتها حتى رأيتها أنت ذات فجر مهيب، أتى بعد ليل عسير الصحبة. كنت قلقاً ضجراً، وفي رأسك طواحين تدق دقات التمرد. تقول لنفسك: ماذا تساوي حياة بهذا الشكل، بل ماذا أكون؟ ومن شرفتك تراها، في لحظة عشق يومي بين الليل والنهار. إنها قطة هزيلة مستكينة جنب الجدار وبحضنها قططها الطرية. صوت المواء الرقيق لف بك عوالم غريبة. نزلت مُخدراً واقتربت وانحنيت: رأيت رؤوساً صغيرة مدفوسة في بطن مهزولة للقطة الأم التي جعلت من نفسها فراءً. لحظتها ملت عليهم وجعلت من جسدك فراء لكل العائلة، ولحظتها أيضاً انبثقت غيمتك من مكان ما. أصبحت لا تسير إلا وغيمتك تحرسك. لقد حكيت لمريديك وحكيت.. وكلماتك نزلت في الآذان صوب القلوب فسكنت، وفي الأفواه إلى البطون فشبعت، وفي الأنوف إلى الصدور فتنهدت. غيمتكم انفرشت فوقكم كأم، أم حقيقية تخشى على عيالها من البطش الواقف على القرب، بعد عدة إنذارات عبر الميكروفونات الآمرة بوجوب التفرق. ومع احتمائكم ببعضكم أحاطت الغيمة بكم وانثنت على هيئة قوس قزح، لتقيكم خراطيم المياه وقنابل الدموع. حتى وأنتم تتفرقون أصبح لكل منكم غيمته. كان مشهداً رائعاً تلك الغيمات الصغيرة المهرولة نحو ميدان آخر.


* منقول عن موقع الكتابة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى