فرجينيا وولف - السيد بينيت والسيدة براون (محاضرة) ت: خضير اللامي

يبدو انني الشخص الوحيد (1) في هذه القاعة الذي ارتكب حماقة الكتابة؛ او حاول كتابة الرواية (2)؛ او اخفق في كتابتها. تساءلت مع نفسي بعد دعوتكم لي في ان اتحدث اليكم عن الرواية المعاصرة. اي عفريت هذا الذي همس في اذني، وحثني ازاء قدري وبرز امامي على هيأة رجل او امرأة. " انا براون، امسكي بي ان كان بمقدورك؟! "
معظم زملائي الروائيين يمرون بهذه التجربة. بيد ان الاختلاف في اسم العفريت، البعض اسمه براون، والاخر سمث، او جونز، يظهر امامهم ويتحدث بطريقة مغرية جدا، وساحرة في الغالب، ( ها انذا امامكم هل تستطيعون الامساك بي؟!) وهكذا يستدرجهم بهذه الطريقة السرابية. ويروح الروائيون يتخبطون في كتابة رواية بعد اخرى، ويقضون جل سنوات اعمارهم في المطاردة، ولا يتسلمون مقابل ذلك الا جزءا قليلا من الأجر، والبعض الآخر لا يقبض الا الريح. والغالبية منهم تقنع بخرقة بالية من بدلة تلك الشخصية، او خصلة شعر من راسها .
واعتقد ان النساء والرجال ممن يكتبون الروايات يستخدمون طعما في خلق شخصية روائية تفرض نفسها عليهم، وعلى وفق مواصفات السيد ارنولد بينيت للشخصية. وفي مقالة له اقتبس هذه الفقرة " فاساس الرواية الجديدة هو خلق الشخصية، ولا شيء آخر. فالاسلوب يؤثر، والحبكة تؤثر، ووجهة النظر الاصيلة تؤثر، ولكن، لا شيء له تاثير فاعل ابدا، مثل تاثير الشخصيات ، فان كانت الشخصيات واقعية، فثمة فرصة لها، وان كان العكس ، فالنسيان سيكون من نصيبها ، ويستنتج السيد بينيت في ختام مقاله.. انه ليس لدينا روائيون شباب، مهمون من الدرجة الاولى في الوقت الحاضر؛ لانهم غير قادرين على خلق شخصيات واقعية وحقيقية ومقنعة . "
هذه هي المسائل التي اريد ان اناقشها، واريد ان ابرهن، ماذا تعني حينما نتحدث عن ( الشخصية ) في الرواية. لنذكر شيئا ما عن السؤال الذي اثاره السيد بينيت عن الواقعية، ولنقدم بعض الاسباب عن إخفاق الروائيين الشباب في ابداع الشخصيات الروائية، فاذا هم كما يؤكد السيد بينيت فشلوا حقيقة في هذه المهمة، وهذا سيقودني، وانا واثقة من ذلك الى بعض المسوحات والتاكيدات الغامضة جدا، ذلك ان السؤال غاية في الصعوبة. الا تتفقون معي اننا لا نعرف الا النزر اليسير عن الشخصية، ومعلوماتنا تقتصر على الشيء القليل من الفن؟ ولكن، لا بد لي من ان اكون واضحة قبل ان اشرع بالاجابة، هو ان نصنف الكتاب الادوارديين(3 ) والكتاب الجورجيين(4) الى مخيمين، وساطلق على السيد ويلز والسيد بينيت والسيد غالزوورثي مخيم ( الادوارديين ) والسادة، فورستر ولورنس وستراشي وجويس واليوت مخيم ( الجورجيين ). فان تحدثت باسم ضمير المتكلم المفرد الاول وبذاتية ربما لا تطاق، فانني استميحكم مقدما العذر ، فانا لا اريد ان اعزو الى نفسي عالم الاراء الانعزالية، والفردية المضللة والسرد المريض .
فتاكيدي الاول، هو احد التاكيدات التي اعتقد انكم ستخولونني اياها - ان كل شخص كما افترض هو محلل في هذه القاعة، وفي الواقع، سيكون من المستحيل ان تمر سنة دون ان تلم بنا كارثة، ولا يمكن مواجهتها ما لم يمارس المرء قراءة الشخصية، ويمتلك شيئا من المهارة في الفن، فعلاقاتنا الزوجية وصداقتنا تعتمد عليها، وشؤون عملنا ترتكز عليها بقدر او اخر، وفي كل يوم يمر تثار اسئلة لا يمكن حلها الا بقدرتنا على تحليل الشخصية. اخاطر بالتاكيد الثاني، وخاصة عندما نشير الى العام 1910، الذي ترك بصماته وتاثيراته على الشخصية .
وهنا، لا ادعي ان التغير يحدث سريعا، مثلما يخرج شخص الى حديقة ويشاهد هناك ان زهرة جديدة قد تفتحت، وان دجاجة قد وضعت بيضة، فالتغير لا ياتي فجاة ومحددا بهذه الطريقة، بيد ان التغير حاصل رغم ذلك، ومهما كان الانسان تعسفيا في ارائه. فدعونا نضع تاريخا للتغير للعام 1910، (5). فعلاماته الاولى، مدونة في مؤلفات صاموئيل بتلر، في كتابه، طريقة الجنس البشري، The Way of All Flesh، واستمرت مسرحيات جورج برنادشو تشير اليه.. من هنا نستطيع ان نلاحظ وتيرة التغير في مسار الحياة. فلناخد مثالا مالوفا لدينا نحن الانجليز، عن شخصية الطباخ في العهدين الفيكتوري والجورجي، فالطباخ في العهد الفيكتوري عاش شبيها بالوحش البحري الشرير في الاعماق السفلى، فهو كائن مرعب، وصامت، وغامض، ومحاط بالالغاز، في حين ان الطباخ في العهد الجورجي مخلوق لشروق الشمس، والهواء الطلق في داخل وخارج قاعة الاستقبال . وثمة مثال اخر ، دعونا نلتمس من الديلي هيرالد، The Daily Herald، ان تقدم لنا نصيحة في شراء قبعة، فهل نطلب منها تفاصيل وافية عن تاريخ السلالة البشرية وسلطتها وتغيرها؟!! اقرا اغا ممنون، Agamemnon، ولاحظ ان كانت مشاركتك الوجدانية في عملية الزمن في الغالب لا تتطابق مع كليتمنسترا Clytemnestra، او تامل الحياة الزوجية لكارليل، والنواح على الخراب، واللاجدوى ( له او لها )، هو العرف المحلي المرعب الذي يجعل من ذلك شيئا ملائما للمرأة العبقرية في ان تمضي وقتها في مطاردة الخنافس، والبحث عن الفضلات في القدور بدلا من تاليف الكتب! فقد تغيرت جميع العلاقات الانسانية - تلك التي بين السادة والعبيد، والازواج والزوجات، والاباء والابناء. من المنطقي، حينما يعتري العلاقات الانسانية تغيرا، فلا بد ان يحدث تغيرا في الدين، والسلوك، والسياسة والادب. دعونا نتفق على المتغيرات في العام 1910.
وقد ذكرت انه يتطلب من الناس قدرا جيدا من المهارة، لقراءة الشخصية لمواجهة اية نكبة قد تواجههم، وقراءة الشخصية هو فن الشباب. فقد استخدم هذا الفن في العصر الوسيط والعصر القديم، وكان من النادر ان تخلق الصداقات والمغامرات الاخرى، والتجارب في فن قراءة الشخصية، ولكن، الروائيين يتمايزون عن بقية الناس، لانهم لا يتوقفون عند الاستمتاع في تحليل الشخصية ذاتها.. وحين تكون جميع الاعمال العملية في الحياة قد افرغت من مضامينها، فان ثمة شيئا ما يستمر حول الناس؛ يبدو لهم ذا اهمية غامرة بالرغم من الحقيقة ان ليس هناك قدرة على الاحتمال. مهما كانت اهميتها، لها تاثير على سعادتهم وراحتهم، وربما على دخلهم، وامست دراسة الشخصية بالنسبة لهم مطاردة شيقة، ليضفوا عليها نوعا من التسلط الفكري.. وقد وجدنا هنا، من الصعوبة بمكان، ان نوضح، ماذا يعني الروائيون عندما يتحدثون عن الشخصية؟ وما هو الدافع الذي يحثهم بقوة بين مدة واخرى ليجسدوا رؤيتهم في العمل الابداعي ؟
وهكذا، فلو سمحتم لي، ان اسرد عليكم بدلا من هذا التحليل والتجريد، قصة بسيطة، هي على كل حال، لا تحتوي على ثيمة، بيد انها جديرة، ان تكون حقيقية. وهي عبارة عن رحلة ريجموند الى واترلو، على امل ان اريكم ماذا اعني بالشخصية ذاتها.. وبالتالي بامكانكم ان تدركوا المظاهر المختلفة التي يمكن ان تتلبسها الشخصية، والخطر الشنيع الذي يحدق بكم مباشرة، ساحاول ان اصفها لكم ..
موعد مع السفر
في احدى الليالي، قبل اسابيع مضت، كنت على موعد مع السفر، بيد انني تاخرت بعض الشيء، عن موعد القطار، وعند وصولي المحطة، قفزت الى اول عربة واجهتني، وعند جلوسي انتابتني مشاعر غريبة، وغير مريحة في الوقت ذاته، ذلك انني قطعت حديثا كان يجري بين شخصين كانا جالسين في العربة، ليس لانهما شابان او سعيدان، ان الامر يتعدى ذلك، كانا كلاهما متقدمان في العمر، فالمرأة تجاوزت الستين والرجل فوق الاربعين، وكانا متقابلين في جلستهما، كان الرجل يتكلم بثقة، كان ذلك يبدو ومن خلال جلسته، ومن خلال الضوء الذي ارتسم على وجهه، لاذ بالصمت، ويبدو انني سببت له ازعاجا . فضلا عن مضايقتي له. اما السيدة العجوز التي ساطلق عليها، على كل حال ، اسم السيدة براون، كانت تبدو الى حد ما، مرتاحة، وكانت واحدة من السيدات اللائي يتمايزن بالنظافة، برغم الملبس الرث - فكل شيء مزرر، ومربوط باحكام، ومرتب، ومصقول، وتوحي بالفقر اكثر مما توحي اسمالها، وثمة شيء ما يبدو يضايقها -نظرة المعاناة والخوف من شيء مرتقب، كانت ضئيلة البنية جدا ، وكان قدماها في جزمتها الصغيرة النظيفة، نادرا ما تمسان الارض، وشعرت بان لا احد يريد انقاذها، وعليها ان تفكر بطريقة ما للخلاص من هذا الوضع الحرج. ويبدو انها هجرت او تركت ارملة منذ سنوات مضت، ويبدو انها تعيش حياة يشوبها الترقب والانهاك، ربما كان ذلك ناتجا عن معاناتها من تربية وليدها الوحيد، او من المحتمل انه في هذا الوقت يسيء التصرف.. كل هذا انثال في ذهني بسرعة وانا جالسة، وانتابني شعور بعدم الارتياح، مثل بقية الناس الذين هم في سفر مع زملائهم المسافرين، واحسسب لهم حسابا آخر، بطريقة او باخرى، بعد ذلك، تطلعت الى ذلك الرجل، لم تكن له علاقة مع السيدة براون، وانا متاكدة من ذلك تماما، انه ضخم البنية، ومن النموذج الذي يعوزه التهذيب، واستطيع ان اتخيل انه من رجال الاعمال، ومن المحتمل جدا، ان يكون بائع قمح قادما من الشمال، يرتدي نسيجا صوفيا ازرق جيدا، يحتوي على جيب سكين، وقد وضع منديلا حريريا في جيب صدره، ويحمل حقيبة جلد كبيرة. ومن الواضح، على كل حال، انه ارتكب عملا غير سار ويريد ان يضع حلا مع السيدة براون، عملا سريا، ربما عملا فاسدا، لا ينويان مناقشته في حضوري. قال السيد سمث " كما سأسميه " " ان الكروفتيين (6) سيئوا الحظ مع خدمهم ".. قال ذلك، بطريقة توحي بالاحترام عائدا الى الموضوع الرئيس بقصد التمويه والحفاظ على المظاهر. ردت السيدة براون " آه، يالها من انسانة مسكينة.. " قالت العبارة بطريقة تظهر تفوقا تافها، ثم اردفت " كان لجدتي خادمة ، جاءت عندما كانت في الخامسة عشرة، وبقيت معها حتى الثمانين " قالت ذلك، بشفقة مشوبة بالم، واعتداد عدائي ،ربما بدافع التاثير علينا. قال السيد سمث بنبرة توفيقية " ان المرء لا يلتقي احيانا بهذا البشر في هذه الايام"، ثم لاذ بالصمت لمدة وجيزة، بعدها اردف، ويبدو ان الصمت لم يبعث في داخله الارتياح. " انه من الغريب، انهم لم يبدأوا بعد تاسيس ناد للغولف - واعتقد ان احد الزملاء الشباب سيقوم بذلك . "
ولم تاخذ السيدة براون المشكلة محمل الجد، لذا لم تكلف نفسها بالاجابة .
قال السيد سمث، وهو يتطلع الى النافذة ويختلس النظر اليً كما يفعل دوما " ما هي التغيرات التي يقومون بها في هذا الجزء من العالم؟"
يبدو جليا من صمت السيدة براون، ومن الدماثة غير المحببة التي تحدث بها السيد سمث ان له تاثيرا عليها من خلال الجهد الذي بذله من اجل ذلك. ربما كان بسبب ابنتها، ولربما كانت ذاهبة الى لندن لتوقيع بعض الوثائق لتحويل ملكية عقار، ومن الواضح، انها وقعت في براثن السيد سمث ضد رغبتها.. وبدأت اشعر بتعاطف كبير ازاءها، حينما قالت فجاة وبطريقة لا صلة لها بالموضوع وبصوت نير والى حد ما دقيق، وبطريقة مهذبة يشوبها الفضول، " هل بالامكان ان تحدثني ان كانت اوراق شجرة البلوط تموت عندما تبدأ الدودة الجرارة باكلها على مدى سنتين متتاليتن . "
جفل السيد سمث ، لكنه تنفس الصعداء ، ليتناول موضوعا لا ينطوي على مخاطر عن السؤال الذي وجهته اليه ، اخبرها بسرعة عن وباء الحشرات ، وقال ،ان له شقيقا كان يمتلك مزرعة فواكه في منطقة كينت . واخبرها ايضا عن عمل المزراعين الذين ياتون الى في كل سنة الى هذه المنطقة . وهكذا ، وهكذا ، وعندما تحدث اليها عن شيء غريب حدث هناك ، تناولت السيدة براون منديلا صغيرا ابيض ، وبدأت تمسح عينيها ، كانت تبكي ، بيد انها استمرت في الاصغاء برباطة جأش لما يقوله سمث ، استمر يتحدث بصوت مرتفع قليلا ، تتخلله نبرات غضب ، كما لو انه كان فعلا قد شاهدها من قبل تبكي ، وكما لو انها كانت مادة مؤلمة ، وفي النهاية اثارت عصبيته ، توقف حالا ، تطلع الى النافذة ، ثم مال باتجاهها ، وبينما هو كذلك ، افسحت مجالا ، وهددته متوعدة ان يكف عن هذا الحديث ، عن هذا الهراء .
قالت السيدة براون وهي تجمع نفسها وتوحي تعبيراتها بكرامة فائقة : " سبق ان كنا نتناقش في هذا الموضوع . ومن الافضل الا اتاخر اكثر لان جورج سيكون هناك يوم الثلاثاء القادم ."
لم ينبس سمث ببنت شفة ، نهض زرر معطفه ، تناول حقيبته ، وقفز من عربة القطار ، قبل ان يتوقف في محطة كافلام جنكشن ، وقد نال ما اراد ، ولكنه احس بالخجل من نفسه . مع انه بدأ عليه السرور وهو يغادر مشهد السيدة براون .
بقينا انا والسيدة براون حسب ؛ جلست هي في زاويتها المقابلة ، جد انيقة ، جد ضئيلة ، غريبة الى حد ما ، تعاني الكثير ، مما تركت لدي انطباعا غامرا ، جاءني متدفقا مثل تيار ، مثل رائحة حريق ، كيف تكوَن ذلك الانطباع الخاص ، وذلك التيار الغامر ؟! انهما يتألفان من افكار وعناصر لا تعد ولا تحصى ، متناثرة وغير مترابطة ، واخرى منسجمة مع بعضها ، تزدحم في رأس الانسان في مثل هذه المناسبات ، فانت تشاهد انسانا ما ، والاخر يشاهد السيدة براون في مركز جميع المشاهد المتباينة .. تخيلتها وهي تسكن في دار على شاطيء البحر ، تحيطها زخارف غير مألوفة ، وقنافذ بحرية ، ونماذج من السفن موضوعة في صناديق زجاجية ، واوسمة زوجها معلقة فوق رف الموقد الحجري . وهي تدخل الغرفة ثم تخرج منها تتكيء على حافات الكراسي ، تلتقط بعض الطعام من الاواني القريبة منها ، وتطلق العنان لتحديقات طويلة وصامتة في الفضاء ، بدت تتأمل الدودة الجرارة ، وشجرة البلوط التي تحتوي على جميع هذه الاشياء ، وفي خضم هذه الحياة الخيالية المنعزلة ، رايت السيد سمث يتهاوى في مهب الريح في يوم عاصف مطير ، وهو يتكلم ويضرب ويصفق بمظلته الارض ، مما ادى الى خلق بركة من الماء وسط الغرفة وقد جلسا مختليين معا .. بعد ذلك ، واجهت السيدة براون الهاما مرعبا ، فقد اتخذت قرارها البطولي ، في وقت مبكر من الفجر ، حزمت حقيبتها وحملتها بنفسها الى المحطة ولن تدع السيد سمث يمسسها ، فقد احست ان كبرياءها قد جرحت وتحرر مركبها من مرساة المرفأ ، ووصلت الى مرتبة الاشراف الذين يملكون الخدم – ولكن لا بد من انتظار التفاصيل ، وما يهمنا هو ان نبدأ بفهم شخصيتها والغور في قاع محيطها ؛ بيد انه ليس ثمة وقت كاف لاوضح ان ثمة احساسا قد غمرني ، ان تلك الشخصية كانت الى حد ما ، تراجيدية ، وبطولية ، وقذفت بالطيش والفنتازيا جانبا قبل ان يتوقف القطار . راقبتها وهي تختفي وهي تحمل حقيبتها ، دخلت في وهج المحطة الهائل ، بدت صغيرة ومتضائلة ، وبطولية ، ولم ارها ثانية ، ولم اعرف ماذا حل بها ..
من ريجموند الى واترلو
القصة تنتهي دون اي موضوع يشير اليها ، بيد انني لم اخبركم ، ان هذه الحكاية توضح اما براعتي او سعادتي في السفر من ريجموند الى واترلو . اريدكم ان تلاحظوا مايلي : هنا شخصية اسمها السيدة براون فرضت نفسها على شخص اخر ، كي توحي للكاتب اوتوماتيكيا في الاغلب ان يكتب رواية عنها . واعتقد ان جميع الروائيين ، لنقل هكذا ، يتعاملون مع الشخصية ليعبروا عنا – ولا يعظون تعاليم او يؤدون اغان ، او يحتفلون بامجاد الامبراطورية البريطانية . هذا النوع من الرواية هو ثقيل جدا ، ومطنب ، ولا دراماتيكي ؛ رغم انه ثر ، ومرن ، وحيوي ، للتعبير عن الشخصية ، وكما قلت ، انكم ستبقون تتأملون مليا ، ان ذلك التأويل الواسع جدا ، يمكن ان تحتال عليه الكلمات ، فعلى سبيل المثال ، ان شخصية السيدة براون ستدهشكم بطريقة مختلفة جدا طبقا للعمر ، والبلد الذي ولدتم فيه . ومن السهولة بمكان ، ان تكتب ثلاثة روايات متمايزة للحادثة التي وقعت في القطار ، رواية انجليزية ، ورواية فرنسية ، واخرى روسية . فالكاتب الانجليزي سيحول السيدة براون الى شخصية character، وسيظهر غرائبها ، واخلاقياتها ، وازرتها ، وتجاعيدها ، اوسمتها وثآليلها ، وستسود شخصيتها في الرواية . اما الكاتب الفرنسي ، سيزيل كل هذه الصفات ، وسيضحي بفردية السيدة براون ليعطي فكرة عامة عن الطبيعة الانسانية ، ليجعل من ذلك اكثر تجريدا وتناسبا . وسينفذ الكاتب الروسي الى السيدة براون من خلال جلدها ، وسيظهر لنا روحها – الروح فقط ، متجولا في واترلو ليطرح تساؤلا كبيرا عن الحياة سيبقى يرن ويرن في اذاننا حتى نهاية الرواية ، فضلا عن العمر ، ثمة مزاجية الكاتب التي يجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار . فانت ترى في الشخصية شيئا وانا ارى شيئا آخر . انت تقول تعني كذا ، وانا اقول تعني كذا ، وحين يحين مخاض الكتابة ، فكل واحد منا يختار ما يناسبه وانسجاما مع مبادئه . وهكذا ، بالامكان ان تتعامل مع السيدة براون في تنوع مطلق من الاساليب ؛ طبقا للعمر والبلد ومزاج المؤلف . والان يجب ان ان نستحضر قول السيد ارنولد بينيت ، حيث يقول : " اذا كانت الشخصية واقعية فقط ، فان الرواية لها نصيب في البقاء على قيد الحياة ؛ وبعكسه ، فموتها حتمي . ولكن دعونا نطرح هذا السؤال على انفسنا ، ما هي الواقعية ؟ ومن الذي يحكم عليها ؟ فالشخصية يمكن ان تكون واقعية من وجهة نظر السيد بينيت ، ولا واقعية من وجهة نظري تماما . فعلى سبيل المثال ، يقول ، D. Watson، في شرلوك هولمز ، هو شخصية واقعية بالنسبة له . اما انا فارى د. واتسون هو عبارة عن كيس محشة بالقش ، ابكم ومثير للسخرية . وهكذا ، مع بقية الشخصيات الاخر ، وبقية الروايات واحدة بعد الاخرى ، ولا شيء يثير جدلا اكثر مثل الواقعية في الشخصية المعاصرة ، فاذا وسعنا المشهد اكثر ، فاعتقد ان السيد بينيت كان صائبا تماما . ومن هذا المنطلق ، المشهد ، بامكاننا ان نفكر بروايات قد تبدو لنا عظيمة ، مثل الحرب والسلام ، وتدسترام وشاندي ، وعمدة كاستر بريدج الخ .. وان تاملتم هذه الروايات فانكم لا تفكرون فجاة في شخصية محددة ، قد تبدو لكم واقعية ، " ولا اعني بذلك الحياة الواقعية " . ذلك انها ، اي الشخصية تمتلك القوة لتجعلك تفكر بقوة ليس فيها حسب ؛ بل تفكر في كل انواع الاشياء من خلال عينيها – في الدين ، والحب ، والسلام ،والحرب ، والحياة الاسرية ، والعاب الكرة في مقاطعات البلدان ، وشروق الشمس ، وبزوغ القمر، وخلود الروح . وقلما نجد موضوعا عن التجربة الانسانية لم تتناوله رواية ( الحرب والسلام ) . وان جميع الروايات هذه وجيمع اولئك الروائيين العظام طلبوا منا ان نرى ما كانوا يظهرونه من خلال الشخصية ؛ والا لما كانوا روائيين ، بل مجرد شعراء ومؤرخين او كتَاب كراسات .
ولكن دعونا نتمحص . مايريده السيد بينيت هو الاستمرار في حديثه . فقد ذكر انه لا يوجد روائي عظيم بين الكتَاب الجورجيين ، لماذا ؟ لانهم لا يستطيعون خلق شخصيات واقعية ، وحقيقية ، ومقنعة . وهنا ، لا اتفق معه . ثمة اسباب ومبررات وامكانات تجعلني افكر في ان اضع طيفا على القضية ؛ وتبدو لي هكذا على الاقل ، بيد انني ادرك جيدا ، ان هذه القضية التي من المحتمل ان اكون فيها متحيزة ، ومتفائلة ، او قصيرة النظر . وساضع وجهة نظري هذه امامكم على امل انكم ترون فيها النزاهة والشرعية والعقل الحصيف .. وهنا ، نتساءل ، هل من الصعوبة بمكان بالنسبة للروائي في هذا العصر ، ان يخلق شخصية تبدو واقعية ليس بالنسبة لبينيت حسب ، ولكن على نطاق العالم اجمع ؟ بيد ان ثمة سؤالا لا بد ان يطرح نفسه ، لماذا اخفق الناشرون تزويدنا برائعة ادبية منذ العام 1910؟ للاجابة على ذلك ، هناك سبب واحد ، هو ان الروائيين والروائيات الذين استلهموا كتابة الرواية من العام 1910، او قريبا من هذا التاريخ ، كانوا يواجهون مشكلة عويصة – ذلك لانه ليس ثمة روائي انجليزي حي استطاع الافادة من تجربته الروائية باستثناء السيد كونراد Mr. Conrad، الذي كان يشكل في الرواية احد قطبي ارضين جامدين ، بالرغم من انه كان رائعا ، لكنه لا يبدي اية مساعدة .اما السيد هارديHardy ، فلم يكتب اية رواية منذ العام 1895، وكان اغلب الروائيين البارزين والذين حققوا نجاحا يذكر منذ العام 1910 ، هم ، كما افترض ويلز، والسيد بينيت ، والسيد غالزوورثي ، والان ، يبدو لي الموضوع ، كما لو انك تذهب الى هؤلاء الرجال وتطلب منهم ان يعلمونك كيف تكتب رواية – وكيف تبدع شخصيات واقعية – وعلى وجه الدقة ، كما لو انك تذهب الى اسكافي وتطلب منه ان يعلمك كيف تصنع ساعة ؟ وهنا ، لا اريد ان اعطيكم انطباعا انني لا اعجب او استمتع برواياتهم – فهم يبدون لي ذا فائدة عظيمة ، فضلا عن انهم سيشكلون ضرورة كبيرة بالنسبة لي ، وهناك فصول من السنة تكون اكثر اهمية في ان نصنع فيها احذية بدلا من صنع ساعات . دعونا نسقط هذه الاستعارة ، ذلك انه بعد النشاط الابداعي في العصر الفكتوري ، اعتقد من الضرور ي جدا ، ان على الانسان ان يؤلف او يعيد تاليف الكتب التي الفها ويلز وبينيت وغالزوورثي ، ليس في الادب حسب ؛ وانما في الكتب التي تتناول مختلف مسارات الحياة ، واتساءل مرة اخرى ، ماهذه الكتب الغريبة ؟! ان كنا صائبين ان نسميها كتبا ؛ اذ ثمة شعور غريب ينتابني ان هذه الكتب لا تسد حاجة القاريء او جوعه ، وهي غير مقنعة . ولكن قد تم كل شيء . وطبعت الكتب ولا يمكن الا ان نضعها على الرف ، ولا نحتاج الى قراءتها مرة ثانية . بيد ان الامر مع الروائيين مختلف ، فرواية ترسترام وشندي .. ورواية Pride and Prejudice ، هما روايتان تامتان ، ويتمتعان باكتفاء ذاتي ، ويخلقان لدى القاريء شعورا غامرا بالعودة الى قراءتهما ثانية بهدف استيعابهما ، وربما الاختلاف هو ، ان ستيرن Sterne ، وجين اوستن Jane Austen، كانا كلاهما يستمتعان في الاشياء وفي الشخصية ذاتها ، وفي مجمل الكتاب ذاته . وهكذا ، فان كل شيء كان في داخل الكتاب ولا شيء خارجه ، بيد ان الادوارديين كانوا على العكس من ذلك ، لا يستمتعون في الشخصية او في الكتاب ، انهم يستمتعون بشيء خارج الكتاب . ولهذا ، فان كتبهم او رواياتهم تعد كتبا ناقصة ، وفي هذه الحالة ، يتطلب من القاريء ان يبذل جهدا عمليا وحيويا لانجاز هذه الروايات .
وربما ، نقدم صورة اوضح ، ان اخذنا حريتنا في تخيل حفلة صغيرة في عربة قطار السيدة العجوز براون – فالسادة ويلز وغالزوورثي وبينيت هم مسافرون الى واترلو مع تلك العجوز ، وقد سبق لي ان ذكرت ان هذه السيدة كانت رثة الثياب الى حد ما ، وضئيلة الجسم ، وتمتلك نظرات متلهفة ومنهكة . وقد انتابني شك ، حينما اطلقتم عليها صفة امرأة متعلمة ، وربما ساكون غير منصفة عندما لا اعير اهمية للتعليم المدرسي ، ولكن لا استطيع الا ان اكون غير ذلك ..
حسنا ، سيعرض السيد ويلز من خلال لوح زجاج نافذة القطار رؤية لعالم افضل واروع واسعد وايسر واكثر مخاطرة وعملقة . من خلال عربات قديمة في احداها امرأة عجوز محافظة ، في وقت تجلب البوارج العملاقة الفواكه الموسمية من كامبرويل في الساعة الثامنة صباح كل يوم ، وحيث مشاتل الازهار العامة منتشرة ، والنافورات والمكتبات في كل زاوية ، وبيوت فيها غرف استقبال وغرف طعام ، وتقام حفلات الزواج ، والمواطن الانجليزي كريم ونزيه وشهم ومعتد بنفسه ؛ والى حد ما شبيه بالسيد ويلز ، ولكن لا احد يشبه السيدة براون ، وليس ثمة سيدات بهذا الاسم في عالم اليوتوبيا . وفي الحقيقة ، لا اعتقد ان السيد ويلز يريد ان يجعل من عاطفته ما ينبغي ان تكون عليه السيدة براون ، ولكن من جهة اخرى ، ماذا يرى السيد السيد غالزوورثي ؟ هل نستطيع ان نشك ان جدران مصنع دولتون تستقبل تصوره ؟ ففي هذا المصنع ثمة نساء يصنعن خمسا وعشرين دزينة من الخزف في كل يوم ، وثمة امهات في مايل ايند وود يعتمدن في رزقهن على ربع ما تكسبه تلك النساء . ولكن ، هناك في المقابل اصحاب عمل في سوري يدخلون السيجار الفاخر على انغام صوت العندليب ، ويمورون سخطا ورؤوسهم محشوة بالمعلومات التافهة ، فضلا عن عدم رضاهم عن الحضارة .
ويرى السيد غالزوورثي في السيدة براون مجرد اناء خزف مكسور مقذوف على عجلة عربة في احدى الزوايا المهملة ، بيد ان السيد بينيت هو الكاتب الوحيد في العهد الادواردي الذي يحافظ على نظرته في عربة القطار . وفي الواقع ، انه سيراقب كل التفاصيل باعتناء دقيق ، بما فيها الاعلانات وصور سواناج وبورتسموث وانتفاخ تنجيد جلود المقاعد وتقطع ازرتها . وسيلاحظ كيف ان السيدة براون تضع دبوس الزينة الذي اشترته بثمن بخس من وتوورث وقد عدلت من قفازيها . ويبدو ان ابهام قفاز اليد اليسرى قد وضع خطأ في ابهام قفاز اليد اليمنى ، ولن يفوته على مسافة سير القطار دون التوقف من وندسور الى ريجموند ، هو ملائم لمواطني الطبقةالوسطى الذين بامكانهم ارتياد المسارح دون ان ترهقهم النفقات . بيد انهم لم يصلوا المرتبة الاجتماعية التي تؤهلهم شراء سيارة . لكنهم بامكانهم الذهاب لحضور بعض المناسبات بوساطة استئجار السيارات وهكذا ، سيمشي السيد غالزوورثي برصانة اتجاه السيدة براون ليقدم لنا ؛ او ليقول ، ان السيدة براون قد تركت ارضا هي ملكا صرفا copyhold (7)، واخرى اقطاعية ملزمة freehold (8)،وثروة في داتشيت مرهونة باسم السيد بنغيه المحامي .
ولكن ، لماذا عليَ ان استأنف التلفيق ضد السيد بينيت ؟ هل انه لم يكتب روايات بنفسه ؟ ان السيد بينيت لم ينظر بكل قوة ملاحظاته المدهشة وعاطفته وانسانيته العظيمة الى السيدة براون في زاويتها ولو مرة واحدة – فهي تجلس هناك في زاوية العربة التي كانت مسافرة ليس من ريجموند الى واترلو ، ولكن من عصر الادب الانجليزي الى عصر اخر ، لهذا ، فان السيدة براون تتغير فقط على السطح ، وليس ثمة احد من الكتاب الادوارديين قد نظر اليها كثيرا . فهم نظروا نظرة قوية ومتفحصة وعاطفية من خلل النافذة الى المصانع واليوتبيات ، وحتى الى زينة تنجيد اثاث العربة ، ولكن ليس الى السيدة براون ، ولا الى الحياة ، او الى الطبيعة الانسانية . وعلى هذا فهم قد طوروا تقنية كتابة الرواية التي تلائم اغراضهم ، ولكن تلك الاساليب (الادوات ) لم تكن اساليبنا ، وتلك لم تكن اعمالنا . وان تلك التقاليد والاساليب بالنسبة لنا هي بقايا اثار عفا عليها الزمن حسب .
وهنا ، ربما تشكون من غموض لغتي ، وربما تتساءلون ما هي التقاليد ؟ وما هي الاساليب ؟ وماذا تعنين بقولك ان تقاليد السيد بينيت والسيد ويلز والسيد غالزوورثي هي تقاليد خاطئة من وجهة نظر الجورجيين ؟ ويبدو ان السؤال غاية في الصعوبة ، ذلك ان التقاليد في الكتابة لا تختلف كثيرا عن التقاليد في الاخلاق . فكلاهما ضروريان في الحياة والادب . ولا بد لنا من بعض الوسائل لتجسير الثغرة بين الكاتب وقارئة المجهول . فالكاتب على وفق هذه الاساليب يجب ان يكون في تماس مع قارئه من خلال شيء ما امامه يعرفه ويحفز مخياله ويخلق لديه الرغبة في التعاون في اعمال اكثر صعوبة وحميمية . ومن الاهمية بمكان ان هذا اللقاء العام بينهما يجب ان يصل بسهولة وبطريقة عفوية ، كما لو ان الكاتب يسير في الظلام ويستخدم في الوقت ذاته عينا واحدة في تلمس الاشياء ، وهنا ، يستخدم السيد بينيت هذه الارضية المشتركة بين المؤلف والمتلقي . والان لو تسمحون لي ، ان امزق حكايتي هذه الى مزق صغيرة ، وسترون كيف انني اشعر بحماس لحاجتي الى التقليد ، وكم يبدو ان الموضوع جاد حينما تكون ادوات احد الاجيال عديمة الفائدة للجيل التالي . فالحادثة حفرت في ذاكرتي انطباعا حادا ، ولكن كيف انقله لكم ؟ كل ما استطيع فعله هو ان اكتب بدقة قدر الاستطاعة لأصف بالتفصيل ما قد ارتدت السيدة براون من زي ، ولاقول ان جميع تلك المشاهد انثالت في ذهني لمتابعة تخبط الروائيين ، ولأصف هذه الحيوية ، وهذا الانطباع الغامرالشبيه بالتيار المتدفق ، او رائحة الحريق ، ولا اكتمكم اذا قلت انني اغريت بقوة لفبركة رواية من ثلاثة اجزاء عن ابن السيدة العجوز ، ومغامراته عبر المحيط الاطلسي ، وابنتها وكيف حافظت على محل صنع قبعات النساء في ويستمنستر ، والحياة الماضية لسمث ذاته ، ومنزله في شيفيلد ، رغم ان هذه القصص تبدو اكثر جفافا ، وغير مترابطة ، فضلا على احتوائها قضايا احتيال في العالم ؟
ولكنني ، اذا انجزت ذلك فلا بد لي من الهروب من الجهد المروع من قول ما اعنيه ، ولكي ادرك ما عنيته ، فعلي العودة الى الخلف ، ثم الخلف ، ثم الخلف . ولاجرب هذه الجملة اوتلك ، وهذه الفقرة او تلك ، والرجوع الى مصدر كل كلمة من خلال رؤيتي ، واجعل لها مرادفا دقيقا قدر الامكان . ومعرفة ذلك بطريقة او اخرى، فانه من الضروي ايجاد ارضية مشتركة بيننا ، وتقليد ادبي لا يبدو لكم غريبا جدا او غير واقعي ، او تصديقه بعيد الاحتمال ، واعترف انني تجنبت هذا التعهد الشاق . وجعلت سيدتي براون تنزلق من بين اصابعي ولم اخبركم عنها اي شيء . بيد ان هذا كان خطأ الادوارديين الكبير الى حد ما ، وسألتهم بوصفهم الادباء الكبار والافضل – كيف ابدأ في وصف هذه الشخصية ؟ قالوا : ابدئي بالقول ، ان والدها مثلا ، يمتلك محلا في هيروغريت للرقابة على استيفاء الايجارات ، ورواتب عمال المحل في عام 1878 ، وانك اكتشفت سبب وفاة امها ، وصفي مرض السرطان الذي توفيت بسببه ، وصفي القماش القطني . واكتشفي .. " بيد انني صرخت : كفى ! كفى ! " وقد شعرت بالندم ان اقول انني قد رميت تلك الاداة القبيحة ، والفظة ، والمنفرة ، من خارج النافذة ، لانني ادركت ان انا وضعت السرطان والقماش القطني ، فان سيدتي براون تلك الرؤية التي اتشبث بها لا اعرف كيف اصورها لكم ؟ وسأكون على هذا الاساس متبلدة الاحساس ، ومتبددة ، ومتلاشية للابد .
هذا ما اعنيه بالقول ، ان ادوات الادوارديين غير صالحة لنا في استخدامها ، لانهم ركزوا بقوة على فبركة الاشياء واعطونا دارا على امل ان تكون لدينا القدرة على تمييز الناس الذين يسكنون فيها ، ولنمنحهم استحقاقهم ، كما جعلوا من تلك الدار افضل سكن يمكن العيش فيه . فاذا كنتم تعتقدون ان تلك الروايات هي تعبير عن مشاعر الناس بالدرجة الاساس ، وثانيا ، عن المساكن التي تسكنون ، فهذه بداية خاطئة – وعلى هذا ، كما ترون ، ان الكاتب الجورجي وجب عليه ان يتخلى عن ذلك النهج في الكتابة الذي كان يستخدم في ذلك العصر . قد ترك هناك وحيدا في مواجهة السيدة براون دون اي منهج لايصاله الى المتلقي ، بيد ان هذا ليس دقيقا ، فالكاتب ليس وحيدا ، فثمة اناس معه ، فاذا لم يكونوا على المقعد في عربة القطار اوغيرها ، ففي الاقل هم في الشقة المجاورة له . اما الجمهور فهو رفيق سفر غريب ؛ فهو في انجلتر مخلوق لديه رغبة في التعلم ومثير جدا . فان قلت له بلغة مقنعة تماما : " ان جميع النساء لهن ذيول وان جميع الرجال لهم سنامات ." سيفكر فيما قلته ، وربما لا نحتاج ان نقول له " هذا هراء ! القرود هي التي لها ذيول والجمال هي التي لها سنامات .. ولكن النساء والرجال يملكون عقولا وعندهم قلوب . وهم يفكرون ويشعرون ." وهذا يبدو نكتة سمجة غير مناسبة للوصول الى اقناع .
ولنعد للموضوع ، هنا جمهور انجليزي جالس الى جانب الكاتب ، ويقول بطريقة جمعية واسعة ان العجائز يمتلكن منازب ، ولهن آباء ، وعندهن موارد مالية ، ويمتلكن خدما ، ويواجهن مأزقا ، وبهذه الطريقة نعرف انهن عجائز . فقد علمنا السادة ، ويلز وبينيت وغالزوورثي ان نميزهن بهذه الطريقة ، ولكن كيف نتعامل مع سيدتك براون ، كيف نصدقك ؟ فان كانت الفيلا التي تمتلكها تسمى البرت ، او بالمورين ، وكم دفعت ثمنا لقفازيها ؟ او كانت امها توفيت بمرض السرطان ، او بذات الرئة ، وكيف تعيش ؟ كلا ، ان الامر تلفيق من بنات خيالك حسب .
فالنسوة العجائز لكي يكونن عجائز ، يجب ان يقترنن بما يملكن من فلل Freeholds ،او عقار فلل Copyholds ، وليس هنا ذلك الخيال حسب .
فالروائي الجورجي ، على هذا الاساس ، هو في مازق صعب ، ذلك ان السيدة براون كانت تحتج انها كانت متميزة ، واستطاعت ان تغري الروائي لانقاذها بطريقة ساخرة ، رغم اسلوب وميض سحرها الزائل . من جانب آخر ، كان هناك الادوارديون الذين ينشرون رواياتهم بين البيوت الفارهة ، وبيوت اللصوصية في ان واحد ، فضلا عن الجمهور الانجليزي الذي يصر على ان يرى المأزق اولا في وقت كان القطار مندفعا باتجاه المحطة الاخيرة ، حيث يجب على الجميع ان يهبط منه .
وهكذا ، فانا اعتقد ان المأزق الذي وجد الروائيون الجورجيون الشباب انفسهم في خضمه حوالي العام 1910 ،امثال ، فورستر ولورنس بشكل خاص – وقد دمروا اعمالهم ، لانهم بدلا عن التخلي عن تلك الاساليب التي حاولوا استخدامها ، وحاولوا ان يوفقوا ، وحاولوا ايضا ان يربطوا احساسهم المباشر بما فيه من غرابة ومغزى للشخصية – بمعرفته ل Factory Acts، ومعرفة بينيت للمدن الخمس Five Towns ، نعم انهم جربوا السيطرة ، ولا بد لهم من القيام بعمل ما ، ومهما كلف الثمن في الحياة كلا او جزءأ لتدمير الثروة النفيسة ، ويجب علينا ان ننقذ السيدة براون ، وان نعبر عنها وتنطلق في علاقاتها السامية مع العالم قبل ان يتوقف القطار ، وتختفي للابد . وهكذا ، بدأ التحطم والتهشم ، وهكذا ، ايضا نسمع ما يدور حولنا في القصائد والروايات والسير الذاتية ، وحتى مقالات الصحف وافتتاحياتها نسمع صوت التحطم والسقوط والتهشم والخراب .. انه الصوت في العصر الجورجي – انه الصوت القادم من الماضي .. فكروا في شكسبير وملتون وكيتس وحتى في جين اوستن وثاكري وديكنز في اللغة والسمواللذين يحومان طليقان حينما يشاهدان العقاب نفسه حبيسا اصلع وناعبا ..
في ضوء هذه الحقائق – مع تلك الاصوات التي ترن في اذني ، وتلك المخيالات في رأسي – لا اريد ان انكر ان السيد بينيت لديه سبب وجيه عندما يشكو من ان كتابنا الجورجيين غير قادرين على ان يجعلونا نؤمن ان شخصياتنا هي شخصيات واقعية ، وانا مرغمة ان اقول لهم انهم لم ينتجوا ثلاث روائع ادبية خالدة في العهد الفكتوري في كل خريف ، وبدل من ان اكون متشائمة ، فانني اشعر بالتفاؤل ، وفي هذه الحالة ، انه من المحتم كما اعتقد سواء في العصر الجليدي ام في عهد الشباب الغر ، سيتوقف النقد الادبي عن كونه وسائل اتصال بين النص والمتلقي بل العكس من ذلك سيتحول الى عائق او معرقل بينهما . وفي عصرنا سنعاني من عدم وجود نظام اخلاقي يقبله القاريء او الكاتب على حد سواء ، كاستهلال لاتصال اكثر اثارة في العلاقة بينهما ، والتقليد الادبي للعصور هو مسألة تلطف ليس الا – وفي هذه الحالة ، من الطبيعي جدا ، ان يؤدي الوهن الى حالة من الغضب ، والقوة الى تخريب المؤسسات والقواعد في المجتمع الادبي ، وتبدو علامات ذلك ظاهرة في كل مكان ، فقواعد اللغة منتهكة ، والاعراب متحلل ، تماما مثل صبي يقضي عطلة نهاية الاسبوع مع عمته فيروح يتدحرج بحرية في حقل زهور الجيرانيوم ، نتيجة يأس مطلق اصابه . اما الكتاب الكبار فلا يفعلون ذلك . وبالطبع يطلقون عنانهم في مثل لهو الصبي في حقل الزهور ،لان اخلاصهم شديد ، وشجاعتهم فائقة ، لكنهم لا يعرفون متى يستخدمون ايديهم ؟ وهكذا ، اذا قرأت جويس واليوت فانك ستصاب بالصدمة لبذاءة الاول وغموض الثاني ، فبذاءة جويس في عوليس تبدو لي وعي وحسابات الرجل اليائس الذي يشعر كي يتنفس عليه ان يهشم زجاج النوافذ ، وفي اللحظة التي تتهشم فيها النوافذ ينتابه شعور بالعظمة ، ولكن ، اي تدمير للطاقة هذا ؟! وبعد ذلك كم تبدو غبية تلك البذاءة ، اما غموض اليوت فاعتقد انه كتب ابياتا فاتنة في الشعر الحديث ، ولكن ، كم كان متعصبا للاستخدامات القديمة واخلاقيات ذلك المجتمع ، الذي يحترم الضعيف ويقدر البليد !
وهكذا ، فقد جربت امتدادا مضجرا ، واخشى ان اجيب عن بعض الاسئلة التي شرعت بطرحها ، وقدمت تعليلا لبعض الصعوبات التي هي من وجهة نظري تكتنف كل الصيغ الادبية للكاتب الجورجي . وقد بحثت عن مسوغ اقدمه له ، فهل انتهى الى مغامرة ، لاذكر كم كانت مدهشة ورغم ذلك ، فانكم ستسمحون لهؤلاء الكتاب كي يقدمون نسخا من رواياتهم ، وصورة للسيدة براون التي ليس لها شبه لكل ما يظهر من اندهاش ، وتبدون في تواضعكم ان اولئك الكتاب يتباينون عنكم دما ولحما ، ذلك انهم يعرفون السيدة براون افضل منكم ، وهم معصومون عن الاخطاء . هذا هو الفاصل بين المتلقي والمؤلف ، وهذا هو التواضع من جانبكم ، وهذه هي اجواء الاحتراف والتمايز، وهذا هو فساد الكتب وعجزها التي من المفروض بها ان تكون عافية فصل الربيع ، فصل التحالف والتقارب بيننا .
ودوركم هو ان تصروا على ان اولئك الكتاب سيهبطون الى الدرك الاسفل من قاعدة التمثال ، وتصفون بجمالية ان امكن ، وبواقعية السيدة براون على كل حال ، وتصرون على انها سيدة عجوز في مقدرتها اللامحدودة وامتلاكها تنوعا متعددا ، ومقدرة على الظهور في اي مكان . وترتدي اي زي تشاء ، وتقول ما تشاء ، وتفعل اشياء لا تعلم بها الا السماء .. بيد ان هذه الاشياء التي تقولها والافعال التي تنجزها ، وان عينيها وانفها وكلامها وصمتها كله سحر غامر ، ولانها بالطبع ، الروح الذي نستنشق من خلاله الحياة ، بل هي الحياة ذاتها .
ولكن ، لا تتوقعوا في الوقت الحاضر ، ظهور صورتها كاملة مقنعة وقادرة على تحمل التشنج والغموض والاخفاق . ومساعدتكم هو ان تستحضروا سببا وجيها . ولهذا ، ساقوم بتنبؤ نهائي واندفاع مدهش – ذلك ، اننا نرتعش على حافة احد العصور العظيمة للادب الانجليزي ، ولكننا ، فقط سنصل الى ما نريد اذا صممنا الا نهجر السيدة براون ابدا ، ابدا ..


ــــــــــــــــ
1ـ هو ارنولد بينيت Arnold Bennet ، ناقد وروائي انجليزي والسيدة براون شخصية روائية مفترضة بدات الكاتبة بتحليلها في هذه المحاضرة ( المترجم )
2 ــ محاضرة القتها فرجينيا وولف في نادي هيرتكس في كمبردج ( المترجم )
3 ــ نسبة الى ادوارد السابع ملك بريطانيا وآيرلندة 1841ــ 1910 ( المترجم )
4 ــ نسبة الى جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى 1865ــ 1936( المترجم )
5 ــ وهي السنة التي تولى فيها جورج الخامس عرش بريطانيا العظمى وحدثت في عهده الحربين العظميين الاولى والثانية ( المترجم )
6 ــ هم اصحاب الحقول الصغيرة المقسمة بين المزارعين عن طريق الشراء والاستثمار خاصة في اسكوتلنده ( المترجم )
7 ــ التملك الصرف للعقار ، فلل ، بيوت ، اراض . ( المترجم )
8 ــ عقار التملك للارض وفق شروط بائعها الاصلي ( المترجم )



* خضير اللامي
كاتب ومترجم عراقي مقيم في السويد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى