كتاب كامل عبد الفتاح القرقني - رحلة عجيبة

حَوَالَيْ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ صَبَاحًا ذَاتَ صَيْفٍ قَائِضٍ ، أَصَرَّتْ جُمَانَةُ الْفَتَــاةُ الْمَمْشُوقَةُ الْقَوَامِ ذَاتُ السَّابِعَةِ عَشَرَ رَبِيعًا عَلَى اجْتِيَازِ الْبَحْرِ الْقَصِيرِ وَ هْيَ تَحْمِلُ فَوْقَ ظَهْرِهَا جِرَابًا مِنْ سَعَفِ النَّخِيلِ بِهِ قَارُورَةُ مَاءٍ وَمِنْشَفَةٌ مُتَآكِلـــــــــةُ الْأطْرَافِ وَ لُمْجَةٌ مَلْفُوفَةٌ في وَرَقِ نَظِيفٍ، نَاصِعِ الْبَيَاض.
كَانَتْ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْاِنْشِرَاحِ وَ الْاِسْتِبْشَارِ تَتَطَلَّعُ فِي شَوْقٍ جَارِفٍ إِلَى اسْتِكْشَافِ رَأْسِ الرَّمْلِ بِأُسْلُوبِهَا الْخَاصِّ دُونَ لُجُوءٍ لِلْاِشْتِرَاكِ فِي رِحْلَةٍ بَحْرِيَّةٍ آمِنَةٍ صُحْبَةَ الْعَدِيدِ مِنْ زُوَّارِ الْجَزِيرَةِ عَلى مَتْنِ سُفُنٍ كَأنَّهَا سُفُنُ الْقَرَاصِنَةِ حَجْمَا وَ شكْلاً وَ طِلاَءً.
إِنَّهَا فَتَاةٌ مُولَعَةٌ بِحُـبِّ الْاِسْتِطْـلَاعِ وَ الفُضُولِ ، تَوّاقَـــــــةٌ إِلَى التَّحَــــــــــــدِّي وَ الْمُغَامَراتِ الْجَرِيئَةِ عَلى الرَّغْمِ مِنْ ضُعْفِ إِمْكَانَاتِهَا الْمَالِيَّةِ فَهْيَ نَشَأَتْ فِي الرِّيفِ دَاخِلَ أُسْرَةٍ بَائِسَةٍ ، شَقِيَّةٍ .
مَشَتْ زُهَاءَ كِيلُومِتْرَيْنِ فِي الْبَحْرِ دُونَ أَنْ يُدْرِكَهَا الْفُتُورُ، غَيْرَ عَابِئَةٍ لَا بِالْوِحْدَةِ وَ لاَ بِالسِّيَاطِ الْحَارِقَة الَّتِي تَلْفَحُ وَجْهَهَا الطَّلْق المُشْرِقَ النَّقِيَّ مُنْذُ بُزُوغِ الشَّمْسِ .
عَلَى حِينِ غِرَّةٍ ، تَوَقَّفَتْ جُمَانَةُ عَنِ السَّيْرِ لِتشْرَبَ جُرْعَةَ مَاءٍ بَارِدٍ تُطْفِئُ بِهَا نَارَ ظَمَئِـهَا وَ تُرَطّـِبُ جَفَافَ حَلْقِهَا فَدُغْدِغَ قَدَمَاهَا الْبَضَّانِ النَّاعِمَـــانِ وَ خُدِشَتْ أَصَابِعُهَا خَدْشُا مُوجِعًا. طفَرَتْ مَذعُورَةً طَفْرَاتٍ طَائِشَةً فِي الْمَاءِ و هْيَ تَزُمُّ شَفَتيْهَا مِنْ هَوْلِ الْوَجَعِ . رَفَعَتْ قَدَمَهَا الْأَيْمَنَ بِصُعُوبَةٍ فَوْقَ الْمَاءِ فَلَاحَتْ لَهَا قَطَرَاتُ دَمٍ فِي أَسْفَلِ أَصَابِعِهَا فَمَسَحَتْهَا بِكَفّهَا دُونَ أَنْ تَكْتَرِثَ بِهَا فَهْيَ أَلِفَتْ رُؤْيَةَ أَطْفَال فَلَسْطِيـــنَ يُرَدِّدُونَ الشَّهَادَةَ فِي أَنَفَـــــةٍ وَ عِزَّةٍ وَ كَرَامَــــةٍ وَ هُمْ مُتَضَرٍّجُونَ فِي دِمَائِهِمْ الطَّاهِرَةِ الزَّكِيَّةِ .هَؤُلاَءِ الْأَبْطَالُ أَضْحَوْا رُمُوزًا لِلنِّضَال الْفَلَسْطِينِيِّ الْمَشْرُوعِ مِنْ أَجْلِ الْاِنْعِتَاقِ وَ نَيْــلِ الْحُرِيَّـــةِ وَ بُرْهَانًا قَاطِعًا سَاطِعًا عَلَى وَحْشِيّـــةِ جَيْشِ الْاِحْتِلاَلِ الصُّهْيُونِيِّ الْغَاشِــمِ وَ جَبَرُوتِهِ .
تَفَحَّصَتْ جُمَانَةُ قَاعَ الْمَاءِ فَأَبْصَرَتْ سَرَاطِينَ زَرْقَاءَ بِالْعَشَراتِ تَزْحَفُ فَوْقَ الضَّرِيعِ الْأَخْضَرِ عَلَى مَهَلٍ وَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهَا أَصْدَافٌ مُشْرِقَةُ الْأَلْوَانِ أَغْلَبُهَا فَارِغَةٌ . وَجَفَ قَلْبُــــــهَا وَ اقْشَعَرَّ بَدَنُهَا النَّحِيفُ تَقَزُّزًا مِنْ مَنْظَرِهَا وَ خَرْبَشَتِهَا . بَحَثَتْ فِي وَجَــلٍ وَ ارْتِبَاكٍ عَنْ مَسْلَكٍ آمِنٍ فَمَا أَفْلَحَتْ فِي الْعُثُورِ عَنْ مَوْطِئِ قَدَمٍ خَالٍ مِنْهَا فَكَأَنَّ هَذِهِ السَّرَاطِينَ لِكَثْرَتِهَا مِنْ قَوْمِ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ .
بِسُرْعَةٍ مذْهِلَةٍ اِسْتَحْضَرَتْ فِي ذِهْنِهَا الِبَعْضَ مِمَّا حَكَاهُ لَهَا جَارُهَا أَحْمَدُ مُتذَمِّرًا مُتَأَفِفًا مِنِ سَرَطَانِ الْبَحْرِ الَّذي اجْتَــاحَ سَواحِلَ جَزِيـــرَة الْأَحْلاَمِ وَ عَاثَ فَسَــادًا فِي الثَّرَواتِ الْبَحْرِيَّةِ : « كَثِيرًا مَا أَسْحَبُ شِبَاكِي مِنَ الْبَحْرِ مُنْذُ الرَّمْيَةِ الأُولى إِذا بَدَتْ مُمَزّقَةً ، مُرَصّفَةً ، مُرصَّعَةً بالسّراطين الزَّرْقَاءِ فَأودِعهَا فِي مُؤَخِّرةِ الْقَارِبِ وَ أَنا مُسْوَدُّ الْوَجْهِ ، كَظِيمً ثُمَّ أَعُودُ إِلَى الْمِينَاءِ لِتَسْرِيحِهَا وَ رَتْقِ فُتُوقِهَا . تَبًّا لِهَذِهِ الدَّوَاعِشِ البَغِيضَةِ الَّتِي هَرّأَتِ الشِّبَاكَ وَ الْتَهَمَتْ الْأَسْمَاكَ فَتَضَاءَلَ رِزْقِي وَ صَارَ صَعْبَ الْمَنَال أَخْدَعَ مِنَ السَّرَابِ . مَا أَتْعَسَنِي وَ أَنَا أُخْبِرُ زَوْجَتِي وَ أَبْنَائِي فِي صَوْتٍ خَافِتٍ مُتَهَدِّجٍ بِأَنَّ قُفَّتِي فَارِغَةٌ لاَ تُوجَدُ فِيهَا وَ لَوْ سَمَكَةٌ واحِدَةٌ ! كيفَ سَأُقِيمُ أَوْدِي وَ أُؤَمِّنُ قُوتَ عَائِلَتِي مِنْ بَحْرِ شَحِيحٍ ، مُهَدَّدٍ بِالتَّصَحُّرِ ؟ »
أَرْسَلْتْ جُمَانَةُ إِلَى الْبَحْرِ النَّظْرَةَ تِلْوَ النَّظْرَةِ لَعَلَّهَا تُبْصِر عَنْ بُعْدٍ سَفِينَةً تُعَجِّلُ إِلَى إِنْقَاذِهَا مِنْ« داعش» العَدُوُّ اللَدُودُ لِلصَّيّادِينَ وَ الْبِيئَةِ الْبَحْريَّةِ لَكِنْ هَيْهَات مَا كُلُّ مَا يَتَمَنّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ.
اضْطَرَبَتْ اِضْطِرَابًا شَدِيدًا وَ فَاضَ بِهَا الْأَسَى وَ فَاضتْ مَعَهُ دُمُوعٌ كَأَنَّهَا الْجَمْرُ و كَادَ كَبِدُهَا أَنْ يَنْشَقَّ غَمًّا وَ كَمَدًا .
هَا هِيَ تَرْنُو إِلَى الْأُفُقِ بِنَظَرَاتٍ زَائِغَةٍ حَادَّةٍ بَعِيدَةِ الْغَوْرِ وَ هْيَ تَنْشُدُ السَّلاَمَــــةَ وَ تَلْتَمِسُ النَّجَاةَ مِنْ هَذِهِ السَّرَاطِينِ الزَّرْقَاءِ ، الْمُؤْذِيَـةِ . مِنْ أَلْطَافِ اللهِ إِنَّ بَرِيقَ أَمَلٍ نَيِّرٍ سَطَعَ فِي قَلْبِهَا فَقَالَتْ بِصَــــــــوْتٍ عَالٍ إِثْرَ اسْتِعَادَتِهَا رَصَانَتَهَا وَ اطْمِئْنَانَهَا و وَقَارَهَا :« مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلَ فَأنَا لاَ تَفْصِلُنِي عَنْ رَأْسِ الرَّمْلِ سِوَى مَسَافَةٌ قَصِيرَةٌ فَبَعْدَ حَوَالَيْ نِصْفِ سَاعَةٍ سَأَسْتَلْقِي عَلَى رَمْلٍ ذَهَبِيٍّ مَسْتَظِلَّةً بِنَخْلَةٍ بَاسِقَةٍ وَ أَخْلُدُ بَعْضَ الْوَقْتِ للرَّاحَةِ مُسْتَمْتِعَـةً بِخُضْــــــــرَةِ الْبَحْــــرِ وَ هَمْسِ مَوْجِهِ وَ رِقَّةِ نَسَائِمِهِ ».
عَزِمَتْ جُمَانَةُ عَلَى بُلُوغِ مُرَادِهَا مَهْمَا كَانَتِ الْمَشَاقُّ وَ الْأَهْوَالُ وَ التَّضْحِيَاتُ فَمَا هِيَ إلاَّ دَقَائِقُ مَعْدُودَةٌ حَتَّى شَرَعْتْ فِي السِّبَاحَةِ مُتَوَكِّلَةً عَلَى اللهِ . وَ ظَلَّتْ هَذِهِ الَفَتَاةُ تُقَاوِمُ الْمِيَاهَ الْغامِرَةَ فِي عُسْرٍ مُسْتَمِدَّةً مِنْ مُحَاكَاتِهَا لِلْأَسْمَاكِ خِبْرَةً وَ مِنْ حُبِّهَا لِلْحَيَاةِ قُوَّةً وَ مِنْ شَغَفِهَا بِالنَّجَاةِ إِصْرَارًا. كَانَ سِرْبُ بَجَعٍ يَحُومُ عَنْ مَقْرُبَةٍ مِنْهَا فَيُرْشِدُهَا إِلَى الطَّريقِ وَ يَشْحَذ عَزْمَهَا وَ يُحَفِّزهَا عَلَى الْمُثَابَرَةِ وَ مُضَاعَفَةِ الْمَجْهُودِ عَنْ طَرِيقِ حَرَكَاتِهِ الْمُذْهِلَةِ وَ تَغْرِيدِهِ الرَّقِيقِ النَّاعِمِ .
وَ عِنْدَ بُلُوغِ مَشَارِفِ وَادٍ عَمِيقٍ مُحَاذٍ لِرأْسِ الرَّمْلِ قَيَّضَتْ لَهَا الْأَقْدَارُ دِلْفِينًا أَرْقَطَ وَدِيعًا فَائِقَ الَجَمَالِ لِتَشُقَّ عَلَى مَتْنِهِ الِمَسافَةَ الْمُتَبَقِّيَة وَ هْيَ مَسَافَةٌ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَخَاطِرِ لِحِدَّةِ تَيَّارِهَا وَعُتُوِّ عُبَابِهَا.
وَ بَعْدَ تَفْكِيرٍ عَمِيقٍ يَنِمّ عَنْ رَجَاحَةِ عَقْلٍ وَ رَوِيَّةٍ ، تَخَلَصَتْ جُمَانَةُ مِنَ الذُّعْرِ الَّذِي انْتَابهَا فَمَسَّحَتْ عَلَى رَأْسِ الدِّلْفِيــــــنِ وَ هْوَ مُسْتَسْلِمٌ لَهَا يَرقُصُ طَرِبًا مُبْتَهِجًا . سُرْعَانَ مَا اِمْتَطَتْ ظَهْرَهُ النَّاعِمَ وَ هْيَ تَكَادُ تَطِيرُ مِنْ شِدَّةِ الْغِبْطَةِ فَمَضَى بِهَا إِلَى رَأْسِ الرَّمْلِ فِي سُرْعَةِ السَّـــهْمِ .
حِينَمَا بَلَغَتْ جُمَانَةُ غَايتَهَا الْمَنْشُودَةَ لَمْ تَتَوَانَ عَنْ تَقْدِيمِ شُكْرِهَا وَ امْتِنَانِهَا لِهَذَا الدِّلْفِينِ الرَّائِعِ بَعْدَ أَنْ طَوَّقَتْـــــــــهُ بِذِرَاعَيْهَا وَ غَمَرَتْهُ بِقُبُلاَتِهَا الْعَذْبَةِ :
- « أَنْتَ أَهْلٌ لِلثَّنَاءِ فَشَكْرًا جَزِيلًا عَلَى رَحَابَةِ صَدْرِكَ و َ سخَاءِ عَوْنِكَ»
- « الْعَفْوُ أَيَّتُهَا الْفَتَاةُ الْحَسْنَاءُ فَأنا فِي خِدْمَةِ أَيِّ إِنْسَانِ طَلَبَ مِنِّي الْمُسَاعَدَةَ»
- « فِي أَمَانِ اللهِ أَيُّهَا الرَّفِيقُ الْوَدِيعُ»
- « إِلَى اللِّقَاءِ أَيَّتُهَا الصَّدِيقَةُ النَّبِيلَةُ »
آنَ الْأَوَانُ أَنْ تُسَرِّحَ جُمَانَةُ طَرْفَهَا فِي بَحْرٍ هَادِئٍ، مُمْتَدٍّ وَ فِي خِيَامٍ فَسِيحَةٍ عَجَّتْ بِالمُصْطَافِينَ مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَجْنَاسِ وَ الْأَعْمَارِ أَغْلَبُهُمْ مِنَ الشَّبَابِ وَ الأَطْفَالِ. آنَ الْأَوَانُ أَيْضًا أَنْ تَمْلَأَ رِئَتَيْهَا بِنَسِيمٍ رَخْوٍ نَقِيٍّ مُنْعِشٍ فَتَنْسَى وَطْأَةَ الْحَرِّ وَ الْمَشَاقَّ الَّتِي تَجَشَّمَتْهَا فَخَلَّفَتْ فِي بَدَنِهَا النَّحِيفِ كَثِيرًا مِنَ الْوَهَنِ وَ الْإِعْيَاءِ.
انْتَبَذَتْ نَخْلَةً وَارِفَةَ الظِّلاَلِ وَ سَوَّتْ بِأَنَامِلِهَا الرَّقِيقَةِ رَمْلاً زَعْفَرَانِيًّا ، نَاعِمًا كالْحَرِيرِ ثُمَّ اسْتَلْقَتْ عَلَيْهِ وَ هْيَ مَكْدُودَةٌ ، لاَهِثَةٌ لَكِنَّهَا عَلَى الرَّغْمِ مِنْ مَتَاعِبِ الرِّحْلَـــــةِ وَ مِنْ بَلاَيَا «الدَّوَاعِشِ» الزَّرْقَاءِ كَانَتْ مُنْشَرِحَةَ الصَّدْرِ ، طَلْقَةَ الْمُحَيّا ، نَاعِمَةَ الْبَالِ ، قَرِيرَةَ الْعَيْـــــــنِ. وَ فَوْرَ إِغْفَائِهَا حَوَالَيْ عِشْرِينَ دَقِيقَةً ، هَرَعَتْ إِلَى البَحْرِ وَ هْيَ تُرَدِّدُ فِي زَهْوٍ أُغْنِيَةَ :« أَنَ بَعْشَقْ الْبَحر...» .
اِنْضَمَّتْ إِلَى زُمْرَةٍ مِنَ الشَّبَابِ تَعْرِفُهُمْ فِي الْمَعْهَدِ فَسَبَحَتْ معَهُمْ وَ مَرَحَتْ فِي جَوِّ لَطِيفٍ خَالٍ منَ الصَّخَبِ وَ الْخُصُومَاتِ» .
وَ لَمّا حَانَ مَوْعِدُ الْغَدَاءِ تَحَلَّقَ الْمُصْطَافُونَ حَوْلَ الْمَوَائِدِ لنَيْلِ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْأُكْلاَتِ التُّونِسِيَّةِ الْمُرَصَّفَة فِي أَطْبَاقٍ خَزَفِيَّةٍ : كُسْكُسٌ وَ سَلْطَةٌ بِالتُّنِّ وَ سَمَكٌ مَشْوِيٌّ وَ بَرِيكٌ وَ عِنَبٌ وَ مَشْروبَاتٌ غَازِيَّةٌ . آنَذاكَ تَذَكَّرَتْ جُمَانَةُ رَغِيفَهَا الْمَحْشُوَّ بِالْهَرِيسَةِ عَرْبِي وَ الْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ وَ السَّرْدِينِ الْمُمَلَّحِ فَتَحَلَّبَ فَمُهَا وَ تَوَاثَبَتْ أَمْعَاؤُهَا مِنْ شِدَّةِ الْجُوعٍ . إِنَّهَا لَمْ تَنْدَمْ إِطْلاَقًا عَلَى تَفْتِيتِ تِلْكَ اللُّمْجَةِ الْقَارِصةِ الْمُبَلَّلَةِ لِلْبَجَعِ لِأَنَّهَا مُهْتَمَّةٌ بِسَلاَمَةِ جِسْمِهَا وَ حَرِيصَةٌ عَلَى الرِّفْقِ بِالْأَطْيَارِ. لَوْ كَانَتْ لَدَيْهَا وَرَقَةً مَالِيَّةٌ مِنْ فِئَةِ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ لَشَرَتْ مَا تَشْتَهِيهِ مِنَ أَطْعِمَةٍ : لَحْمٌ مَشْوِيٌّ وَ بَطَاطِسٌ مَقْلِيَّــةٌ وَ مَوْزٌ وَ عُلْبَةُ مَشْرُوبَاتٍ غَازيَّةٍ .
أَشْفَقَ عَلَيْهَا سَائحٌ رُوسِيٌّ فَجَفَّفَ دُمُوعًا مُنْهَمِرَةً عَلَى خَدَّيْهَا بِمِنْدِيلِه الْأَبْيَضِ وَ دَعَاهَا فِي بَشَاشَةٍ وَ تِرْحَابٍ إِلَى وُلُوجِ مَطْعَمٍ مُتَواضِعٍ مُشَيَّدٍ بِالْجَرِيدِ و أَعْجَازِ النَّخْلِ فَاسْتَجَابَتْ لِطَلَبِهِ عَنْ طِيبَةِ خَاطِرٍ وَ فِي مُقْلُتَيْهَا الْعَسَلِيَّتَيْنِ دُمْعٌ رَقْرَاقٌ وَ عَلَى ثَغْرِهَا ابْتِسَامَةٌ شَاحِبَةٌ وَ فِي صَدْرِهَا غُصَّةٌ مَكْبُوتَةٌ سُرْعَانَ مَا انْفَلَتَتْ منْ سِجْنِهَا فِي شَكْلِ زَفَرَاتٍ مُؤْلِمَةٍ . آنّذاكَ قَدّم لَهَا النَّادِلُ أَصْنَافًا مِنَ الْأُكْلاَتِ الشَّهِيَّةِ فَالْتَهَمَتْهَا فِي نَهَمٍ شَدِيدٍ كَأَنّهَا لَمْ تَذُقْ الطَّعَامَ مُنْذُ أَيَّامٍ ثُمَّ حَمَدَتْ اللَهَ حَمْدًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ عَلَى جَزِيلِ نِعَمِــهِ وَ شَكَرَتْ مُضيِّفَهَا عَلَى سَخَائِهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ .
وَ عَقِبَ تَنَاوُلِ الْغَدَاءِ قَامَتْ بِنُزْهَةٍ رَائِقَةٍ عَلَى ضِفَافِ الْبَحْرِ فَأَغْرَاهَا الْأُفُقُ الرَّحْبُ وَ الْمَوْجُ الْعَازِفُ عَلَى رَبَابِهِ وَ الْأَصْدَافُ ذَاتُ الْأَلْوَانِ الزّاهِيَةِ وَ الْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ. حَادَثَتْ نَفْسَهَا حَدِيثًا خَافتًا لاَ يكَادُ يَتَجَاوَزُ نِطَاقَ صَدْرِهَا أَفْصَحَتْ فِيهِ عَنْ رَهَافَةِ رُومَنْسِيَّتِهَا و عِشْقِهَا لِلَجَمَالِ وَ مَدَى شَغَفِهَا بِالْفُنُونِ :« سَبَانِي رَأسُ الرَّمْلِ بِتَمَاوُجِ كُثْبَانِهِ وَ صَفَاءِ بَحْرِهِ وَ نَقَاوَةِ هَوَائِهِ
وَ تَنَوُّعِ طُيُورِه . يَا لَهُ منْ مَشْهَدٍ خَلاَّبٍ يَسُرُّ النَّاظِرِينَ وَ يُجْلِي الْحُزْنَ عَــــــنِ الْمَكْرُوبِيـــنَ وَ يُلْهِمُ الشُّعَرَاءَ وَ الْفَنّانِينَ ! عَلَيَّ أَنْ أَنْفَضَ عَنِّي غُبَارَ الْكَسَــــــــــلِ و أَسْتَثْمَرَ أَوِقَاتِ فَرَاغِي خِلاَلَ هَذِهِ الصَّائِفَةِ بَعِيدًا عَنِ السَّآمَةِ وَ الْمَلَلِ فِي أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ يَعُودَانِ عَلَيَّ وَ عَلَى مَوْطِنِي بِالنَّفعِ الْعَمِيمِ :
* الْأَمْرُ الأَوَّلُ يَتَلَخَّصُ فِي صَيْدِ السَّرَاطِينِ الزَّرْقَاءِ بِمِنْجَلٍ طَوِيلٍ وَ بَيْعِهَا لِأَصْحَابِ الْمَطَاعِمِ بِأَثْمَانٍ مَعْقُولَةٍ وَ هَؤُلاَءِ بِطَبِيعَةِ الْحَالِ سَيَتَفَنَّنُونَ فِي اسْتِنْبَاطِ أُكْلاَتٍ لَذِيذَةٍ مِنْهَا بِمَا أَنَّهَا ذَاتُ قِيمَةٍ غِذَائِيَّةٍ عَاليَةٍ شَأْنُهَا شَأْنُ بَقِيَّةِ الْقَشْرِيَاتِ . وَ بِهَذَا السُّلُوكِ الْمَدَنِيِّ الْمُتَحَضِّرٍ أَكُونُ قَدْ ضَرَبْتُ عُصْفُورَيْنِ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ : كَسَبْتُ مَالاً بِكَدِّ يَمِينِي وَ عَرَقِ جَبِينِي وَ سَاهَمْتُ بِمَا هُوَ مُتَاحٌ لِي فِي الْحِفَاظِ عَلَى التَّوازُنِ البِيئِيِّ دَاخِلَ بَحْرٍ سَخِيٍّ زَاخِرٍ بِالثَّرَوَاتِ وَ الخَيْرَاتٍ .
* الْأَمْرُ الثَّاني يَتَمَثَّلُ فِي تَجْمِيعِ الْأَصْدَافِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَ وَضْعِهَا دَاخِلَ جِرَابِي الصَّغِيرِ فِي خِفَّةٍ مُتَنَاهِيَّةٍ وَ حَزْمٍ كَبِيرٍ . وَ لَمّا أَظْفِرُ بِنَصِيبٍ وَافِرٍ مِنْهَا أَنْهَمِكُ فِي تَنْظِيفِهَا : أَتَنَاولُ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا بَيْنَ أَنَامِلِي الطَّوِيلَةِ وَ أُفْرِغُ مَا عَلِقَ بِهَا مِنْ رَمِلٍ بِكَامِلِ اللُّطْفِ. ثُمَّ أَغْسِلُهَا دَاخِلَ جَفْنَةٍ مِنَ الْفَخّارِ بِمَاءٍ دَافِئٍ لِتَخْلِيصِهَا مِنَ الْأَوْسَاخِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ فَتَغدُو كَأَنَّهَا قِطَعُ مِنْ رُخَــــامٍ مَصْقُولٍ .
وَ عَقِبَ عَمَلِيَّةِ التَّجْفِيفِ فِي فِنَاءِ الدَّار الْمُشْمِسِ أَصْنَعُ مِنْ بَعْضِهَا قَلائدَ بَدِيعَةَ الْمَنْظَرِ وَ مِنْ بًعْضِهَا الْآخَرِ تُحَفًا آيَةً فِي الْجَمالِ وَ قِمَّةً فِي الْبَهَاءِ . أَبِيعُ الْقَلاَئِدَ للسُّيّاحِ يَوْمَ السُّوق الْأُسْبوعِيّةِ بِثَمَنٍ بَاهِضٍ وَ أَحْتَفِظُ بِالتُّحَفِ الْفَاتِنَةِ لِزَخْرَفَةِ غُرَفِنَا الْمُتَوَاضعَةِ فِي ذَوْقٍ رَفِيعٍ »
اِنْهَمَكَتْ جُمَانَةُ فِي جَمْعِ الْأَصْدَافِ الْمُتَنَاثِرَةِ هُنَا و هُنَالكَ عَلَى ضِفَافِ الْبَحْرِ فِي رِفْقٍ وَ عِنَايَةٍ وَ لَمْ تُبَالِ لاَ بِسُرْعَةِ مُرُورِ وَقْتِ وَ لاَ بِطُولِ الْمَسَافَةِ الَّتِي قَطَعَتْهَا .
أَثْنَاءَ آذَانِ الَعَصْرِ اسْتَفَاقَتْ مِنْ غَفْلَتِهَا فَانْدَهَشتْ لِوِحْشَةِ الْمَكَانِ وَ قَفْرِهِ فَهْوَ خَالٍ تَمَامًا مِنَ الَبَشَرِ لاَ يُقِيمُ فِيهِ سِوَى النُّحَامِ الْوَرْدِيِّ وَ هْيَ طُيُورٌ عَلَى خِلْقَةِ الْإِوَزِّ تَتَمَيَّزُ بِمَنَاقِيرِهَا الْمَعْقُوفَةِ وَ رِقَابِهَا الطَّوِيلَةِ وَ سُوقِهَا الْمُرْتَفِعَةِ . اِرْتَاعَتْ فَرَشَحَ جَبِينُهَا عَرَقًا وَ اخْتَلَجَتْ جُفُونُهَا وَ اصْطَكَّتْ أَسْنَانُهَا الْبَيْضَاءُ وَ تَسَارَعَ خَفَقَانُ قَلْبِهَا .
جَلَسَتْ وَ الْخَوْفُ فِي عَيْنَيْهَا تَلْتَمِسُ مَنْفَذًا لِلْخَلاَصِ مِنَ هَذهِ الْوَرْطَةِ الَّتِي وَ قَعَتْ فِي شِرَاكِهَا . مَا ضَرَّ لَوْ خَاضَتْ مِنْ جَدِيدٍ مُغَامَرَةَ هَذَا الصَّبَاحِ بِمَزِيدٍ مِنَ الثَّبـــــاتِ وَ التُّؤَدَةِ وَ الْحَزْمِ وَ الْعَزْمِ فَاللَهُ سَيَكُونُ فِي عَوْنِهَا .
وَ بَيْنَمَا كَانَتْ جُمَانَةُ شاَرِدَةَ الذِّهْنِ زَائغَةَ الْبَصَرِ عَلَى أُهْبَةِ الرَّحِيلِ إِلَى بَيْتِهَا إِذْ حَطَّتْ بِجَانِبِهَا نُحَامَةٌ وَرْدِيَّةً فِي حَجْمِ النَّعَامَةِ أَوْ أَكْبَرَ بِقَلِيلٍ وَ الْتَمَسَتْ مِنْهَا فِي رِقَّةٍ أَنْ تُعَجّل لِرُكُوبِهَا :
- « أَيَّتُهَا الصَّدِيقَةُ الْعَزِيزَةُ امْتَطِي ظَهْرِي فِي أَمَانٍ »
- « لِمَاذَا يَا تُرَى فَأَنَا أَجْهَلُ السَّبَبَ»
- « لاَ تَحْزَنِي و لاَ تَبْتَئِسِي فَالله قد سَخَّرَنِي لِإِيصالِكِ إِلَى دَارِكِ »
- « بِكُلِّ سُرُورٍ عَلَى أَمَلِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّحْلَةُ الْجَوِّيَّةُ شَيّقَةً وَ مُرِيحَةً »
حَمَلَهَا هَذَا الطَّائِرُ الْوَدِيعُ فَوْقَ ظَهْرِهِ فِي مُنْتَهَى اللُّطْفِ وَ طَارَ بِهَا فِي الْجَوِّ عَالِيًا فَانْدَرَسَ الزَّيْتُونُ وَ النَّخْلُ وَ المِعْمَارُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْهَا وَ أَصَابَهَا دُوَّارٌ كَادَ يخِلُّ بِتَوَازُنِهَا وَ يُؤَدّي إِلَى سُقُوطِهَا لَوْلاَ تَشَبُّثُهَا بِجَنَاحَيْهِ بِكُلِّ مَا أُوتِيَتْ مِنْ قُوَّةٍ وَ إِقْدَامٍ.
وَ عِنْدَمَا كَانَتْ جُمَانَةُ تَتَجَرَّعُ مَرَارَةَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الْقَاسِيَةِ سَائِلَةً اللهَ السَّلاَمَــــــة وَ حُسْنَ الْخِتَامِ كَانَتِ النُّحَامَةُ الْوَرْدِيَّةُ تَشُقُّ رِحَابَ الْفَضاءِ كَالشِّهَابِ الثَّاقِبِ جَاعِلَةً وَجْهَهَا شَطْرَ بَيْتِ صَدِيقَتِهَا.
وَمَا كَادَتِ هَذِهِ الرَّحَالَةُ الشَّابَّةُ تَصِلُ إِلَى بَيْتهَا الْمُتَوَاضِعِ حَتَّى سَلَّمَتْهَا النُّحَامَةُ عُلْبَةً ثَمِينَةً تَحْتَوِي عَلَى هَدِيَّةٍ قَيِّمَةٍ وَ أَوْصَتْهَا فِي رِفْقٍ :« لاَ تَفْتَحِي هَذِهِ الْعُلْبَةَ إلاَّ حِينَمَا تُحِسّينَ بِضِيقٍ شَدِيدٍ أَوْ تَشْتَاقِينَ للرَّحَلاَتِ » ثُمَّ غَابَتْ عَنِ الْأَنْظَارِ.
اِسْتَقْبَلَ الْوَالِدانِ ابْنَتَهُمَا الْوَحِيدَةَ مُرَحِّبِيْنِ ، مُهَنِّئَيْنِ قَدْ عَلاَ الِبِشْرُ وَجْهَيْهِــــمَا وَ سَرَتْ الْفَرْحَةُ فِي قَلْبَيْهِمَا . أَمَّا جُمَانَةُ فَبَعْدَ تَقْبِيلِ أَبِيهَا وَ أُمِّهَا مِنْ جَبِينَيْهِمَا خَيَّرَتْ الانْصِرَافَ إِلَى حُجْرَتِهَا دُونَ أَنْ تَخوَضَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ رِحْلَتِهَا هَذَا الْيَوْمَ فَهْيَ مُنْهَكَةٌ ، خَائِرَةُ الْقُوَى . دَخَلَتْ غُرْفَةَ نَوْمِهَا بَاسِمَةً ،مُطْمَئِنَّةَ الْقَلْبِ ، هَادِئَةَ النَّفْسِ فَدَغْدَغَتْ أَنْفَهَا رَائِحَةُ الْبَخُورِ الْفَوَّاحَةُ . حَفِظَتْ هَدِيَّتَهَا النَّفِيسَةَ وَ جِرَابَ أَصْدَافِهَا فَوْقَ صُوَانٍ منْ خَشَبِ الأَبْنُوسِ ثمَّ تَمَدَّدَتْ عَلَى فِرَاشٍ بَسِيطٍ ، فَائِـــــــــــقِ التَّرْتِيبِ وَ أَسْلَمَتْ جُفُونَهَا إِلَى نَوْمٍ هَادِئٍ مُرِيحٍ.



.
[/plain]





.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى