شادية شقروش - شذرات من كنوز التراث بين د. محمد حسن عبد الله ورولان بارت

«إن القصص التراثي الذي جفاه العلماء قديما، ولا يقدره المحدثون حق قدره، ينطوي على كنوز وأسرار من الفن والفكر والخبرة الإنسانية ما يستحق أن تبذل في سبيل كشفه جهود وأعمار ...»

لا شك في أن الانبهار ببريق الآخر، يعمي شعاعة البصائر عن التمعن في قضايا الأنا كالناظر إلى الشمس برهة فإنه يصاب بنوع من العمى المؤقت عندما يعود ليبصر واقعه.
هذا ما حدث لمعظم المثقفين العرب الذين هجروا التراث العربي الأصيل بغية اللحاق بركب الآخر، ليس عبثا أن نساير الركب ولكن العيب كل العيب أن نتنصل من جذورنا ونرفض تراثنا جملة وتفصيلا، بحجة أنه لا يفي بأغراضنا ...
أكاد أجزم أن الذين يتبصرون في التراث هم قلة قليلة من ذوي العقول النيرة لأن التنقيب في كتب التراث ليس بالشيء الهين، ومحاولة التأصيل والتنظير أصعب.
يلمس الناظر في كتاب " الحب في التراث العربي( ) " لـ د.محمد حسن عبد الله أبعادا غائرة وحركة دينامية منظمة في سبر أغوار التراث وربطه بالمناهج السياقية والنصانية ويتبين من خلال رؤيته الجديدة في النظر إلى عاطفة الحب والعشق وهي أنبل العواطف اللصيقة بالإنسان منذ أن وجد على وجه الأرض.

إن للعرب نظرية في الحب، تستمد أصولها من التراث العربي المحكي في القصص والنوادر والحكايات العربية القديمة، التي يمر عليها الباحث مرور الكرام دون أن يستنبط منها تلك الأفكار والتصورات التي تصلح لأن تشكل في مجموعها "نظرية في الحب"
يلتقي د.محمد حسن عبد الله في كتابه "الحب في التراث العربي" مع رولان بارت في كتابه "شذرات من خطاب في العشق" ( )
لا يهم في هذا المقام المؤثر الخارجي، لأن الأسبق هو رولان بارت حسب الطبعة الأصلية، إذا كانت الترجمة قد تمت سنة 2000 و " الحب في التراث العربي" طبع سنة 1994 فإن الحدس يقول أن الدكتور محمد حسن عبد الله لم يطلع قبل ولوجه في موضوع كتابه على كتاب رولان بارت، هذا اذا تتبعنا التأثير والتأثر من وجهة نظر المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن، ولكنني سأعتمد في دراستي المقارنة نظرة المدرسة الأمريكية وأنظر للنص من الداخل.
فكيف تعامل كل من" رولان بارت" و"د.محمد حسن عبدا لله" مع أعظم وأنبل عاطفة في الوجود ولماذا؟

أولا: "رولان بارت و "شذرات من خطاب في العشق"

جمع رولان بارت في كتابه الشذرات أجمل ما في العشق من روائع الفن وهي زبدة قراءاته الغائرة في روائع هذه المصنفات الغربية والعربية منها كتاب الوليمة لأفلاطون، وكتب نيتشه وكتاب آلام الفتى فرنز لـ غوتيه ومؤلفات المتصوفة كأعمال روسبروك وجان دي لاكروا... وحصيلة ما طالع من مذاهب البوذية من تاو و زنّ وكتب التحليل النفسي وعلم النفس (فرويد وفينيكوت وبتلهم) بالإضافة إلى تجربته الخاصة وما أطلع عليه من مداولاته مع أصدقائه: فرنسوا فال، وأنطوان كومبانيون، وفليب سولرز جان لويس بوت، ودنيز فرارى، ورولان هافا...إلخ.

اعتمد في كتابه على الأدب والفنون الأخرى، أي المصنفات الأدبية من شعر ورواية وأدب شعبي، والموسيقى والسينما والرسم.
حاول رولان بارت أن يقدم صورا متناعمة من أقوال المبدعين صنّفها تحت عناوين مثل الغياب، الانتظار، التوله المفاجئ، الألم، التماهي، أحبك، الجسد، القلب، الحنان، الانتحار، الحقيقة، النميمة... وكل هذه العناوين ينضوي تحتها أجمل ما قيل في التوله المفاجئ وأجمل ما قيل في الألم ...إلخ.
وهذا ما جعل الكتاب يخالف التقسيمات التقليدية لأنه لا ينتظم في أجزاء وفصول بل يتألف مما يسميه بارت صورا (figure)، ويقدم رولان بارت تعليقا سابقا عن الصورة ثم تعليقا تعقيبيا.
ويستعرض معاناة العشاق متوقفا عند مختلف حالات العشق، سابرا بذلك خفايا النفس البشرية.
يستخلص رولان بارت في كتابه الشذرات من خلال التجارب التي عرضها، ثلاث مراحل للعشق:
أولها الافتتان والتوله المفاجئ: الحب من النظرة الأولى وفيه يستحيل العاشق أسير صورة ما، تفتتنه وتأخذ بلبابه، والمرحلة الثانية هي مرحلة – الزمن السعيد-: مواعيد ومكالمات هاتفية ورسائل ورحلات ...إلخ.
ثم تأتي مرحلة -زمن التعاسة- : أي كمية كبيرة من الآلام والجروح والقلق والاستياء واليأس والشدة والحيرة التي أصبح فريستها ( ).

ثانيا: د. محمد حسن عبد الله و" الحب في التراث العربي "

استطاع د. محمد حسن عبد الله أن يقدم نظرة شاملة ومنظمة حول أخبار العشاق والمحبين من خلال التنقيب في الركام المعرفي العربي القديم، وأن يزيح ركام الغبار الجاثم فوق كنوز التراث العربي لاستخراج درر العشق والحب من طوفان الأخبار والحكايات والقصص، التي تجمع بين الواقع والممكن والمستحيل وربطها بجدل الفلاسفة وأقوال الفقهاء في ماهية الحب.
حاول هذا الكاتب أن يتبع الطريقة المنهجية في تقديم كتابه متبعا المنهج التاريخي في سرد مادته، ممهدا لمادته باهتمام العرب بالحب قبل مجيء الإسلام وهو عاطفة إنسانية لا يستطيع أن يتخلى الإنسان عنها كالأكل والشرب، بل كحاجته للأكسجين؛ حيث « كان العربي في العصر الجاهلي تلقائيا بعلاقته بالمرأة مع احترامه للأعراف القبلية وأحيانا يستجيب للصبوة ما سنحت له الفرصة وأمن العار وتتراوح قصائد الشعر الغزلي وقصص الحب ومغامرات العشاق بين العفة والتهتك »( ).
إلى أن جاء الإسلام الذي نظم هذه العاطفة النبيلة، فهو كما يقول : «الصحابة بشر وأداؤهم للفرائض وتطلعاتهم إلى الله لا يعني العجز عن تذوق الجمال أو رفض المباح من متع الدنيا »( ).
ثم ينتقل الكاتب إلى الحب من الشعور الفردي إلى التصور الكوني، وذلك بدخول الحب في رحاب الكلمة عن طريق الفن الأدبي، والشعر بصفة خاصة، أي في حيز الاهتمام بالشعور الفردي والتجربة الذاتية: سواء أكان ذلك شخص الشاعر أو شخصا آخر متخيلا، وعلى الرغم من ذلك فإن أشعار المحبين وأخبارهم وقصصهم، قد شاعت واستقرت طرق روايتها وخضعت للنقد، وهذا التنوع يدخل في نطاق العاطفة الفردية، والشعور الذاتي، إلا أنه قدم حصرا شاملا لكل أنواع الحب تقريبا، العفيف والجنسي والشاذ( )

ولكن ما ينتقل من الفرد إلى الكون هو أن يتحول حب الجمال ضرب من ضروب عبادة الجمال و السعي إلى تأمل الصنعة، تعظيما للصانع المطلق الجمال، ويرى فيه المعنى الكامل للحب وبالتالي يصبح كل ما في الكون إنما يتكون ويتحرك بالمحبة وأن العشق هو الصلة الطبيعية الوحيدة التي تصنع حالة التوازن والتجاذب بين الأفلاك، كما يرى داود الأنطاكي( ).
متح د.محمد حسن عبد الله من كتب التراث وجمع بين خيوطها وغربلها وأخرج منها شذرات من كنوز الحب مبينا من خلال تحليله لبعض القصص تحليلا نفسيا مستعينا بالمنهج النفسي وأقوال علماء النفس، من أمثال فرويد أن « الحب هو الإنسان وهو الإنسانية، وبدونهما لا يبقى شيء غير الوحشية والظلام، والحب يفسر السلوك الفردي، كما يفسر حياة الأمم والحضارات »( ).
كما أن الحب « عاطفة مستمرة تظل في حالة تفاعل ما عاش الإنسان »( ).
حاول الكاتب من خلال كتاب "طوق الحمامة " لابن حزم في الألفة والآلاف، وكتاب "مصارع العشاق" للقاضي التنوخي، و" ذم الهوى" لابن قيم الجوزية، و"تزيين الأسواق في أخبار العشاق " لداود الأنطاكي، و"رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء"، وما كتبه الجاحظ في رسائله، وكذلك "أشعار النساء" للمرزباني، والعديد من كتب التراث المتنوعة في مادتها في تقديم شذرات من حكايات الحب أو فلسفة الحب...إلخ.
حاول أن يستخلص نظرية العرب في الحب والعشق من فقهاء وفلاسفة وأطباء ومنجمين ومصنفين في كل فن فضلا عن الشعراء والقصاصين ( ): وهي أن الحب فكر تأملي في المحبوب يلتزم بآداب إنكار الذات، من حيث هو سلوك يرقى بصاحبه إلى أن يتلقى سروره عبر سرور محبوبه.
ولعل ما يجمع رولان بارت ود.محمد حسن عبد الله، هو أن الإنسان يتجلى مجردا في قصص الحب والعشق، ويلغي عقله في التعامل مع المحبوب « يلعب به هواه وتلعب به غرائزه ويعيش تجربة الفضيلة بعناء واضح، هي كالمشي على الماء كما يقول ابن الجوزي »( ).
كان د.محمد حسن عبد الله أكثر منهجية كونه تدرج من القديم إلى الحديث في كتب التراث، ثم حاول استخلاص نظرة كل فريق على حده، وأن يقف موقفا معتدلا في النظر إلى الأشياء،وبخاصة عاطفة الحب التي هي إكسير الحياة، وأجمل ما نختم به هذه الورقة المتواضعة المتسرعة هو قول الأعرابية الذي استهل به كاتبنا كتابه حين يقول: « قال الأصمعي: سألت أعرابية عن العشق فقالت: جل والله عن أن يرى، وخفي عن أبصار الورى، فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى » ثم يعلق على هذا القول قائلا : « وهذه العبارة على إيجازها وبساطتها يمكن أن تعطي بالتأمل دلالات عميقة لعل هذه الأعرابية المجهولة لم تقصد إليها قصدا، ولكن إدراكها للباطن قد انطوى عليها بوعي أو بغير وعي، فتأمل مثلا وصف العشق بالجلالة، التي تعطي إحساسا بالضخامة، ثم الوصف بما يناقض ذلك، فهو يرى، لكنه لا يرى لجلاله، لا لهوانه، ومن هنا كان تقديم القسم بالله أمام موضوع يسبق إلى الخاطر أنه مع تنافر معه، ووصفه بالخفاء مع قيامه في الصدور، وتقريب هذا الوصف المتناقض ظاهريا بالنار الكامنة في الحجر، وهو تشبيه فلسفي في صميمه، قال به المتكلمون والفلاسفة توضيحا لعلاقة الروح بالجسد، وعلاقة الله بالعالم، وتأمل الصلة بين الإنسان والحجر، وكلاهما من طين، وصلة العشق بالنار وهي نور ودمار، وانظر كيف تتولد المادة اللطيفة المضيئة من المادة الثقيلة المعتمة، وكيف يتم ذلك بطرف آخر، هو حجر أو ما يشبهه، فبارتطام الجسمين تتولد الشرارة المضيئة المحرقة، ولو تركا دون صدام لما زادا عن حجرين !! وإذا كانت هذه الأعرابية المجهولة قد اكتفت في تعريف العشق بالإشارة إلى غموضه والاستعانة بالتشبيه فإن الأمر بالنسبة للباحث في التراث العربي أشد صعوبة لأسباب عديدة في مقدمتها أن الحب مرادف للعشق، عاطفة إنسانية ذات طبيعة خاصة »( ).
إن تعليق الكاتب يوحي بأن تعريف الأعرابية هو تعريف كوني إذ ربطت بين الإنسان والكون، الإنسان بعاطفة الحب والحجر مشتقا من الطبيعة.
ونختار من كتاب شذرات من خطاب في العشق لرولان بارت ما قاله: تحت عنوان:
عرس فيغارو الحب عاجز عن التعبير عن الذات، وعن النطق ومع ذلك فإنه يود الجهر والصراخ والإعلان في كل مكان، وما أن يبدع العاشق أو يصنع شيئا ما، يتملكه اندفاع إهدائه،ويود في الحال تقديم ما ينتجه، حتى بشكل مسبق لما يحب،ولمن أجله عمل أو سيعمل، ولا تكون كتابة الاسم سوى تعبير عن العطاء ( ).
ولك أن تقارن بين ما قالته أعرابية في قرون غابرة، من أحاسيس فطرية مزجت بين الإنسان والكون وبين هذا القول.
والطبائع البشرية تختلف من زمن إلى زمن إلا الحب فهو واحد منذ الأزل لأنه هو العطاء بكل المقاييس.

الإحالات:
- د.محمد حسن عبد الله: الحب في التراث العربي، دار المعارف، القاهرة، 1994.
- رولان بارت شذرات من خطاب العشق (fragment d'un discours amoureux)، ترجمة إلهام سليم حطيط، حبيب حطيط، المجلس الوطني للثقافة والفنونوالآداب، سلسلة إبداعات عالمية الكويت، 2000 الطبعة الأصلية كانتسنة 1977.
- رولان بارت شذرات من خطاب في العشق ، مقدمة الطبعة العربية، ص 9-10 بتصرف.
- د.محمد حسن عبد الله: الحب في التراث العربي،ص 09.
- المرجع نفسه، ص10.
- المرجع نفسه، ص
- المرجع السابق، ص 15-16 بتصرف.
- المرجع نفسه، ص 03.
- المرجع نفسه، ص 255.
- المرجع نفسه، ص
- المرجع السابق، ص 260
- المرجع نفسه، ص50
- رولان بارت، شذرات من خطاب في العشق ص125


.
* د. شادية شقروش - الجزائر
- شذرات من كنوز التراث بين" د. محمد حسن عبد الله" و"رولان بارت"

otto mueller - trois bohemes assises
صورة مفقودة
  • Like
التفاعلات: 2 أشخاص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى