هاتف بشبوش - عبد الكريم العامري وعنبر سعيد

1
عبد الكريم العامري شاعر وروائي وكاتب مسرحي من البصرة الفيحاء ، عضو إتحاد الكتاب العراقيين والعرب ، عضو في العديد من النقابات والجمعيات الثقافية والفنية ، مؤسس ورئيس تحرير مجلة بصرياتا ، مدير شبكة أخبار العراق . صدرت له العديد من الكتب والدواوين ومنها ( لاأحد قبل الأوان …شعر) ، ( مخابيء…شعر) ، ( الطريق الى الملح …رواية) ، ( عنبر سعيد…رواية) ، ( جسدي مشاع …شعر ) ، ( مجموعة من المسرحيات) . ثم هناك له من الكتب تحت الطبع ومنها ( رواية غزو….تتحدث عن الغزو الأمريكي) ، ( مسرحية كاروك ..مترجمة للغة الإنكليزية) ، ( مسرحية قيد دار .. مثلت من قبل الممثل د. مجيد الجبوري واخراج د. حميد صابر) ،( مسرحية دعوة للمحبة (للاطفال) اخراج د. كريم عبود) ،( مسرحية جعبان اخراج د. حازم عبد المجيد )، ثم قدمت له العديد من المسرحيات في بلدان عربية مختلفة .
عبد الكريم العامري حينما يبدأ بالشّروع في الكتابة ينطلق ضدّ التيار ، يُعجبه أن يكون أكثر قوّة كي يستطيع أن يواجه أعتى أمواج البشر وأعاصيره العاتية ، ينطلق كي يرفع البيرق الذي رسم ألوانَه ، وخطّ ما يحتويه من معاني واتّخذه علماً يستطيع أن يكون رمزا له و لهدايته في الطّرق الوعرة التي تُصادفه أينما حلّ و ارتحل ، و لذلك في روايته قيد دراستنا هذه والموسومة ( عنبر سعيد) نراه قد استعان بقديس الإبداع جون كوكتو و جعل مقولته الرائعة في أوّل سطر من الرواية( ما يلومك الناس عليه اعمل على تنميته، فذلك هو أنت)، وهذه أروع من عاضدها و جسّدها لنا الممثل القدير والشّهير ( جاك نيكلسون) حين يقول (لا تضيّع وقتك لتُثبت لهم أنّك ناجح …قل لهم إنّك فاشل فسيصدّقوك فورا .. ثم عش حياتك مثلما تريد بطريقتك و أسلوبك …هذا هو النجاح الحقيقي) .
عبد الكريم العامري يكتب بالواقعية الشديدة و ما تراه عينه أو ربّما هو أحد شواهد هذه الرّواية التي بين أيدينا ، ينقل لنا طبائع البشر كما هي بلا رتوش خصوصا تلك التي تتعلّقُ بالجانب الاجتماعي المرّ و ما يجلبه لنا من كوارث و ويلات لو سكتنا عنه و لم نفضح الجانب السّلبي منه. فعلينا أن نفضح المستور حتى لو كلّفنا ذلك الكثير والكثير أو لم ترض علينا الناس فإرضاء الناس جميعهم غاية لا تُدرك ، و لذلك يتوجّب علينا أن نُؤشّر على مكامن الخطأ مثلما أشار لنا الروائي عبد الكريم حول الشخصية الدينية المزيفة المتمثلة بالشيخ ( مقطوف) و أفعاله الشريرة و هوسه الجنسي الفضيع كما سنبيّن لاحقا.
عبد الكريم العامري يكتب بدون تورية ، إنّه لا يخشى ما يأتي من الجاهل الذي يُصرّ على بقاءه في عتمته و ظلمته و كأنّه يريد الظّلم كقدرية أبديّة، أو ذلك الجاهل الذي يعطيه الجلاّد أحيانا فرصة للهرب حينما يذهب يحدّ سيفه ، لكنه ما يزال مُسمّرا في مكانه متّكلاً على الباري منتظراً حزّ رقبته، فهذا نوع من أنواع الجهل و من الضّروري فضحه أو توجيهه على المسلك الصّحيح كما كان يفعلها جميل صدقي الزهاوي أو علي الوردي ، اللذان ذاقا الكثير من جرّاء العمل في هذا الدّرب العسير .

رواية (عنبر سعيد ) رواية قصيرة لا تتجاوز عدد صفحاتها الإثنين و السبعين صفحة تحكي قصّة رجل صاحب عربة يجرّها حمار( عربجي) ،اسمه (عنبر سعيد) هذا الذي تشهد عينه الكثير من الأحداث، ثم شيخ المدينة الدجّال الديني و زير النساء (الشيخ مقطوف)، ثم الفتاة الغضة الطرية التي يغرّر بها الشيخ (مقطوف) فيطئها مرارا و تكرارا بعد تنويمها دينيا و جنسياً تحت شهوات إكليله القائم على الدوام . عنبر سعيد يفرّ من المدينة التي وُلد بها نتيجة الخيانة و الغدر ظُلما و بُهتاناً، يُتّهمُ بعلاقة مع فتاة أرادها أن تكون زوجته، ينصبُ لهما الفخاخ من رجال الدين الذين اجتمعوا وتعاضدوا على رجمهما. عنبر سعيد يستطيع الهروب لكن الفتاة تُرجمُ حتّى الموت، فتظلّ ذكرى أليمة لا تفارقه حتى موته. يهربُ عنبر من المدينة صوب مدينة أخرى حيث لا يعرفه أحد ممّن نصب له هذا الفخاخ الذي هو على غرار فخاخ الفلم الإيراني البديع (رجم ُثريا….The Stoning of Soraya إنتاج عام 2008)،حيث تُرجم (ثريا) الجميلة ، الفتاة الطاهرة البريئة بالحجارة حتى الموت بعد أن يشي بها طليقها لكي يتخلّص من دفع نفقات الزواج في اتّفاقه مع شيخ المدينة الدّجال هو الآخر ، تُرجمُ الفتاة العفيفة بلا رحمة ، حتى ابنها الطفل الصغير غرّزوا به نار الحقد على أمّه فقام بضربها بالحجارة إسوة بالآخرين ، فأيّ عالمٍ إسلاميٍ هذا وأيّ دين؟
(عنبر سعيد) ، عنبر تعني الرائحة الزكية ثم سعيد من السعادة، بينما شخصية عنبر أمام الناس كما رواها لنا الروائي عبد الكريم، سكّير مُعربد، نتن الرائحة، وسخ على الدّوام نظرا لعدم توفّر وسائل الرّاحة و النظافة لشدّة فقره وحاله المُعدم ، كما و أنّه ينام في زريبة حماره الذي يُحبّه كثيراً فيطلق عليه (أخوه) . و لذلك اسمُ (عنبر سعيد) و طبقا لهذه المواصفات يفترض أن يكون ( نتانة حزين بدلاً من عنبر سعيد)، لكنّ الروائي أراد أن ينقل لنا طبيعة البشر السّائدة و السّاديّة بذات الوقت، طبيعة البشر التي تنظرُ إلى مظهر الإنسان لا جوهره، تنظر إلى شكليّات المرء لا أخلاقه الحميدة و لا إلى تلك المآل التي جعلت منه فقيرا مُعدما وسخا و سكّيرا . و لذلك الروائي عبد الكريم أطلق هذه التّسمية على بطل روايته كرسالة يريد إيصالها لنا ، من أنّ أخلاق عنبر سعيد تنطبقُ كلياًّ على مسمّاه إذا ما قورن بالشيخ ( مقطوف) الفاسق و الكذّاب الذي يحمل كل معاني الوساخة و القذارة الحقيقيّة ، لأن ّ وساخة العقل هي أكثر خطرا على الشعوب من وساخة البدن، أو ربّما بطل الرواية ( عنبر سعيد) هو اسمه الحقيقي ، فهذه تُضيف للرّواية بُعدا خلاّبا آخراً وحقيقة لا يُمكن تصديقها إلاّ من شفاه الروائي عبد الكريم العامري نفسه باعتباره الشّاهد و المُتعايش ربّما مع أحداث بطل الرواية .
عنبر سعيد يتعرّف في فندقٍ بسيط على شخص فيكون صديقه الأحبّ إلى قلبه، لكنهما متناقضان تماما، عنبر خمّار مُعربد ، و صديقه زاهدٌ دينيّ ، لنرَ ما تقوله الرّواية بصدد ذلك :
( تحدّثا معاً عن شؤونٍ كثيرةٍ ولم يسمع أبداً منه كلمةً في السياسةِ، كما أنّه لم يتذمّر من الشراب الذي يأتي بهِ عنبر إلى الغرفةِ، قال مرةً إلى عنبر:
–أنت َتشربُ كثيراً .
ردّ عليه عنبر ضاحكاً :
–وأنت َتصلّي كثيراً !)
في إحدى جولات رجالات الأمن السرّي يُلقى القبض على صديق عنبر و يُعدم هناك في تلك الأقبية المظلمة وهو لا يعرف الشيوعية من الشيعية، فيحزن عنبر عليه حزنا شديدا ، فيا لغرابة الموقف عن الصداقة العراقية سابقا ، حيث لا فرق بين سكّيرٍ ودينيٍّ إلاّ بالأخلاق ، بينما اليوم حدّث و لا حرج في ظلّ الحكومة الدينية المتدنيّة، إذ يقولون بإمكانك اليوم أن تحمل رمانة يدوية وأنت ماراً على الكثير من سيطرات الجيش العديدة ، وإيّاك إيّاك أن تحمل علبة بيرة .
عنبر سعيد يبدأ بالتّفكير بالموت بعد فراق صديقه وهو الذي كان بعيدا عن هذا المآل العدميّ كما نقرأ في الرواية :
(إنّنا مخلوقون كي نموت ! لم تكن تشغله تفاصيل الموت، فالموت و إن تعدّدت أسبابه هو واحد. مفردة واحدة : الموت، وهي تعني الخلاص و اللاعودة . في هذه المرة تغيّرت تركيبة عنبر سعيد، فموت صديقه فتح أمامه الطريق لتساؤلات عديدة . هكذا وجد نفسه محشوراً بتفاصيل الموت؛ كيف مات. متى . أين … ؟) ثمّ الحديث عن المقابر :
(أليست المقابر مُدُناً مثل تلك التي تجمعنا؟ و كما في المدنِ تستطيع أن تحدّد غنيّها من فقيرها من المنزل الذي يسكن فيه فهنا أيضاً تستطيع أن تُحدّد : هذا قبر لغنيّ و ذاك لفقير ! حتّى في المقابر ثمّة فاصلة بين الاثنين)
الموت ذلك المارد الذي لو دنى من الشّخص في لحظته المحتومة يجعل منه مراجعاً لكلّ حساباته الخاطئة التي فعلها دون ضمير ، دون حبّه للناس و إخلاصه ، بل حبّه للمال واللّذة على غرار شيخنا ( مقطوف) . هناك الكثير من الشّواهد على الموت حين اقترب من العظماء فتغيرت وجهات نظرهم في لحظة خاطفة ، وكأنّ شريط الزّمان العمري للشخص يُختزل في ثواني معدودة بينما هو قضى من العمر عتيّا على سبيل المثال ، أو عمراً وسطيّا أو قليلا ، كلّها تختزل في لحظات الأسف والنّدم على عُمرٍ ولّى دون مراجعة الأخلاق والضمير ، تختزل في لحظات يرجو فيها المرء المحتضر من الموت أن يُغيّر قراره وما من مُجيب. و حينما يأتي الموت يأتي وكأنه فعل لا إراديّ و لا يمكن إيقافه، كما حركة أعضائنا اللاّإرادية التي لا يمكنها التوقف سوى بجفاف أوصالنا و عروقنا، و لذلك نرى في النّزع الأخير للكثير من الشخصيات التي ألهمت التأريخ ، أو الشخصيات التي انهمكت في عملٍ ما لإرضاء نفسها وغرورها فقط دون الحساب للبشر الآخر و ما يضرّه من جراء عمله هذا ، نراهم سطّروا تراجيديا لا يمكن أن نصدقّها لهول أخطائهم التي ارتكبوها ، على سبيل المثال لا الحصر كما نقرأ أدناه:
(ستيف جوبز) أيقونة الكمبيوترات و الذي قضى جل عمره بالركض وراء المال حتى تحقّق له ذلك الثراء العالمي ، أصيب بمرض سرطان البنكرياس و قبيل الرمق الأخير قال:
(إن سرير المرض هو السرير الأغلى في عالمنا، لن تجد أبدا من يرضى أن تُعطيه مرضا و ينام بدلا عنك مهما أكرمته و كافأته ماليا، ربما تجد من يقود لك سيارتك أو يُعينك على كسب المال أو يوفّر طعامك لكنك محال أن تلقى من يمرض عوضا عنك. كثيرا ما تستطيع أن تعثر على أشياء فقدتها في غفلة ما لكن شيئا واحدا لا تستطيع استرجاعه أبدا و هي الحياة و البقاء حتى في أحلك الظروف. حتى المؤمنون بالنعيم و الجنان يطمحون إلى الخلود في الدار الأخرى ….نقلا عن الشاعر والكاتب الجميل جواد غلوم).
عنبر سعيد يسكر في حانة سلمان، تلك الحانة التي غالبا ما يحصل فيها العراك و تُؤدّي بالنتيجة إلى تهشيم كل الزجاجيات و ما فيها من آثاث بسيطة فيضطرّ سلمان إلى ترميمها من جديد،هذا هو حال شعوبنا المريضة، ففي كل شعوب العالم المتحضرة ، أجمل مكان يرتاده المرء ، رجال أو نساء هو البار أو المرقص حيث تتوفر أشهى أنواع المشروبات الكحولية ، لكي يقضي المرء بعضا من وقته سعيدا بفعل نشوة الخمر ، رجال و نساء يرقصون ،يُغنّون ، يقبّلون بعضهم بعضا ، يمارسون الجنس في أماكن البار المعزولة ، يتعانقون ، يهتفون بأغاني الوطن أو الحب ، هذا هو بار العالم المتحضر ، وهذا هو فعل الخمر الجميل إذا ما دبّ دبيبه ، في المرقص أو البار ، هذا هو البار الحقيقي لا حانة سلمان التي يرتادها عنبر سعيد ، حيث نرى بعد الكأسين أو الثلاثة تتحوّل الحانة لساحة حلبة للقتال والضرب وتهشيم الزجاجيات و الموبيليا. ثقافة دخول البار هي ثقافة خالصة يتوجّب على المرء تعلّمها منذ الشباب الأول ، ثقافة البار لا يمكن أن تكتمل إلاّ بدخول الرجل والمرأة سوية إلى حيث الرقص و المتعة بالانتشاء ، المرأة هي التي تجلب السعادة للرجل ، هي التي تهذب المكان ، فكنا حين نجلس في نادي الجامعة مثلا أيام كنا طلابا ومعنا عدد من الطالبات لا أحد يستطيع أن يتطاول ويسيء إلى الجلسة لأنّ الجميع يرجو أن يكون ذا سمة جيدة في نظر إحداهنّ . ولذلك في الغرب تجد المرأة في البار على الدوام بينما في شعوبنا ، المرأة لو رأت سكرانا في الشارع تبتعد عنه أمتارا وأمتار لضنها السلبي والكامن في العقل الباطن اتّجاه السكير و شارب الخمر . ثقافة الخمر تتطلّب المعرفة الكاملة في حبّ الآخرين واحترام المكان ، و لذلك في يومٍ و أنا في بارٍ دنماركي دخل عربي في غاية البذاءة و الجهل إلى بارٍ جميل في موسيقاه ونساءه بسيقانهنّ و وجوهنَ الصادحة بأضواء الليل المشعشع ، هذا العربي بعد لحظات كسّر زجاجة البيرة ، وشهرها على الآخرين ، مما أدى إلى هروب جميع الحسناوات و الرجال بعد ثواني . الدنمركيون تصوّروا أنّ وحشا قد دخل ، أنّ مجرما حلّ عن طريق الخطأ هنا ، هم حينما يأتون إلى البار يتحدثون بلغة الحمام ، بينما هذا العربي الأرعن جاء ليتكلم بلغة الأسود، فجاءت الشرطة و كبّلته، و من وقتها حُرم هذا الجاهل الغبي من دخول جميع البارات لمدة ثلاث سنوات.
عنبر سعيد بطل روايتنا ، لم يمتلك نقودا ليدفع ما يعبهُ من عرقٍ ،وغالبا ما يحذّره سلمان صاحب الحانة من ذلك ، لكنه في أغلب الأحيان ينام في البار بعد شجارٍ مع أحدهم كما حصل مع (حمزة سكراب) ، وبالرغم من ذلك صاحب الحانة سلمان يُبدي حُبّاً مميزا لعنبر سعيد لشيء لم يعرفه ، غير أنّه اعتبره طيّب القلب و هناك خفايا خلف شخصيته ، و أمّا هذه المشاكل التي تحصل له تأتي رغما عنه و من دون رغبته .
عنبر سعيد ينام في الخرِبة التي يربط بها حماره الذي يُحبّه و يُفضّله على البشر الآخرين و يعتبره أخوه كما ذكرنا أعلاه وهذه تنقلني إلى ( دينو) النادل في بار أبي مازن في السّماوة أيام زمان ، فكان دينو له صديق مقرب يحبه كثيرا يدعى (جميل حولي) الكليم العين ، وهذا المسكين كان سكيراَ من الطراز الأول ، فكان دينو يقول ( ثلاثة في السّماوة أغبياء ..أنا وجميل والحمار) . يموت حمار عنبر ، و تنبعث رائحة من مكان الخربة ، فيظن الناس أنّ عنبر قد مات وهذه هي رائحته النتنة التي لم يرأف لها قلب إنسان كي يكرمه بالدفن تبعا للمقولة السائدة (إكرام الميت هو دفنه) وهنا أراد الروائي عبد الكريم الإشارة إلى طبع البشر السيّئ في بعض الأحيان لعدم اكتراثه بموت رجل سكّير ، في حين في بلدان الغرب يقيمون مهرجانا خاصا للاحتفال بالمدمنين على الكحول والمخدرات ، حيث يجتمعون في ساحة كبيرة ويتم تقديم كافة الدعم لهم من أدوية وطعام و فرق موسيقية تعزف لهم أجمل الأغاني ، وما يتطلبه هذا الأمر من أشياءٍ أخرى .

هـاتف بشبـــوش/عراق/دنمارك


عن موقع الناقد العراقي


.
هاتف بشبوش




رواية عنبر سعيد.jpg

تعليقات

عبد الكريم العامري وعنبر سعيد

(2)

بموت الحمار، ينتقل عنبر إلى فندقٍ عتيق . جميع الناس تقول لقد مات عنبر سوى سلمان صاحب الحانة كان يقول إنّ عنبر ما زال حيا وغالبا ما يحتفظ بزجاجة خمر له ، باعتباره حيّ يُرزق لا كما يدّعي الآخرون الذين وضعوا تعويذات على أبوابهم لطرد الأرواح الشريرة . سوى الشيخ الدجال(مقطوف) كان يقول إنّ روح عنبر ستظل تلاحق كل من تسبّب في عذابه و موته، ومن هذه الكلمات نفهم أنّ هناك لغزا محيّرا لدى عنبر سعيد .
الشيخ مقطوف يعمل تعويذة من أبخرة الشبّ و السبعة عيون التي تتشكّل له على هيئة كائن صغير، فيعلّقها على بابه لطرد الشياطين كما نقرأ أدناه :
( فلا عنبر سعيد و لا حماره سيقتربان من بيته. كان فعلا لشيخ مقطوف هذا تبرره حادثةٌ لم تغادر ذاكرته أبداً، ففي يومٍ ممطرٍ امتنع عنبر سعيد عن حمل حاجيات الشيخ من السوق إلى داره مما جعل الشيخ أن يصفهُ بالفاسق و يمطره بوابل من المواعظ و الأحاديث التي لم يفهم منها عنبر سعيد كلمةً)
هذا الشيخ الفاسق الذي يُوجّه الموعظة إلى عنبر سعيد أمام الناس ، هناك أمثاله الكثيرون ، الذين لا بُدّ لهم و أن يُفضحوا في يوم ما عاجلا أو آجلا ، كما حصلت للكثير من الكهنة أيام حكم الكنيسة والذين كانوا يعظون النّاس ضد الجنس وممارسته خارج نطاق المؤسسة الزوجيّة ، حتى قُبض على أحد الكهنة و هو يُمارس الجنس مع فتاة متوفاة توّا وقد أُعدّت للدّفن من قبله . ولذلك مثل هذه المواعظ المزيّفة التي يطلقها رجال الدّين لم تفت أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال (برز الثعلبُ يوماً بثياب الواعظين....يمشي في الأرض يهدي و يسبّ الماكرين...إنّهم قالوا و خيرُ القولِ قولُ العارفون...مخطئُّ من ظنّ يوما أنّ للثعلبِ دين ).
و لذلك حينما أطلق الشيخ الكذاب ( مقطوف) موعظته أمام الناس ، لم يسكت عنه (عنبر سعيد) لأنه العارف بأموره و أخلاقة المستورة وخفاياه فأراد أن يفضحه أمام الملأ فقال عنبر سعيد ببرود :

( لستُ فاسقاً ولم أرتدِ قناعاً، أعرفكَ مثلما أعرفُ نفسي جيّداً و يعرفني الجميع).....
(ولولا وصول سلمان في اللحظةِ الحرجة لكان عنبر قد أطلق قنبلته التي لن يعرف مدى تأثيرها. قال سلمان للشيخ مقطوف : امسحها بي يا شيخ . أنا سأحمل حملك.
صاحت المرأة التي توقّف لسانها عن الاستغفار و هي تُدافع عن الشيخ و همّت بحمل حاجياته و قالت:
أنا أحملها له على رأسي، وأحمل الشيخ أيضاً !
نبَّ عنبر سعيد مبعداً المرأة عن حاجيات الشيخ و قد تحوّلت عباءتها إلى قطعة ماء قائلاً:
لستُ عاقاً للمدينة التي آوتني و لا لأهلها .. سأوصّلهُ أنا.
سبّب قرار عنبر سعيد المفاجئ هذا ارتياحاً للجميع و إحراجاً للشيخ مقطوف، أكمل عنبر كلامه مشيراً إلى المرأة – وأنتِ معنا !)
تبيّن فيما بعد أن هذه المرأة يطؤها الشيخ كلّ يوم خميس، و عنبر سعيد يعرف هذه العلاقة الفاسقة بين الاثنين، فحملهما سوية إلى دارهما. و حينما وصل زقاق منزلها توقّف فجأة و أشار لها بالنزول فذهلت و ساءلت نفسها ، كيف له أن يعرف مكانها،و لربّما يعرف ما هي العلاقة بينها و بين الشيخ و لربّما كان يسمع تنهيداتها و هي أسفل الشيخ الفاسق . تنزل المرأة في الأرض الزّلقة من المطر، فيساعدها عنبر سعيد و يمسك بها كي لا تنزلق في الوحل، فتتحسّس أصابعه في إبطها و عضلاته المفتولة بالرغم من وساخته، لكنّها استطابت و أحسّت بسريان الخدر يسري في عروقها من هذا السكير النتن الملقب ( عنبر سعيد) . تنزل وتدعو له بالرحمة ولسان حالها يقول :
(.عنبر هذا صندوقٌ غريب، يعرف المدينة كلّها، يعرفُ ما يدورُ في النهارِ و في جنح الظلام أيضاً، و قد يعرف أسرار البيوت، ما كانَ عليّ أن أتدخّلَ في أمرٍ لا يعنيني، و لا يخصّني، و قد يفضح أمري !) .
هذه المرأة كانت تتردّد على الشيخ ( مقطوف) الذي يحبّ الحلوى ( المؤمنين حلويون) ، فكانت تأتيه بالحلوى كنذور ، وفي أوّل زيارة لها كانت تشكو آلام الظهر و بعض الكوابيس ، مدّدها على ظهرها وبدأ بإطلاق تعاويذ رجال الدين وحيلهم ، ثم قام بتمسيد جسدها لاعبا لاهيا بكلّ تفاصيلها ولحمها الطري ابتداء من النهدين والبطن والفخذين حتى شعرت بدبوسه بين أفخاذها وهي ترتخي له مستطابة بهذه الفعلة الجنسية التي تمارسها لأوّل مرة ، حتى انتهى الشيخ بعد أن أفرغ فيها كل شوقه الذئبي المفترس، قام وأطفأ وعاء البخور وقال لها ، علينا أن نلتقي كل خميس كي نطرد الأرواح الشريرة من جسدك ، وهكذا استمر الحال معها بقوته الجنسية الفريدة التي طالت أكثر نساء المدينة اللواتي يرتدن الحمامات حيث هناك أحاديثهن حول الشيخ و فسقه وفجوره معهنّ و ذئبيته التي لا تشبع .
الفتاة هذه تبدأ تتعرّف على شيطانيّات الشيخ و أكاذيبه لكنّها تستمر معه لأنها قد ذاقت معنى الجنس واللذة والرغبة وتحقيق الذات الجنسية العطشى التي أدمنت على فعل الخطيئة، لكنها تبدأ بمعترك مع نفسها وضميرها ، حتى يأتي أحد أيام الخميس فتقرّر عدم الذهاب إليه لخوفها من فعلها الشائن اتّجاه الرب ، لكن هناك امرأة أخرى في داخلها تحثّها أحيانا للمضيّ قدما مع الشيخ كي تبقى تحت خرطومه تتأوه من نار الرغبة.
قرّرت عدم الذهاب وبقيت في بيتها ، لم يتحمّل الشيخ ، إذ أنه كان مُستعراً وجاهزاً كي يُفرغ ما في خصيتيه المليئة بالدنس والإثم ، فذهب إلى بيتها وهناك يمارس معها الجنس في غرفة بسيطة و بموافقة أبوها الرجل الطيب الورع المسكين الذي يُصدّق بهذا الدجال الشيخ من أنه سوف يُشفي ابنته ، فأيّ شيخٍ هذا؟ وأيّ أبٍ جاهلٍ؟ و أيّ دين؟ فيقول لها أبوها مادحاً الشيخ ( مقطوف) كما نقرأ من لسان حال المرأة:
(في أنّ الجلوس مع الشيخ يقرّبنا إلى الله، فكيف بي وكلّ جسدي الآن ملتصقاً بجسده، أشعر أنّ الشياطين تُبارك وحدتنا و تدفعنا إلى المزيد، شياطين مختلفة، أصابع وعيون وتنهدات و حركات صاعدة و نازلة ودبوس يصهل بين فخذيّ الملتصقتين النديتين وكأنني أقبض على جمرةٍ صلدةٍ . انتظرتُ أن ينتهي سريعاً قبل انطفاء أبخرة الحرمل، وقبل أن يطرق علينا أبي الباب . لكنه استمر، و استمر حتى بعد انكماش الدبوس) .
الفتاة تبدأ بكره الشيخ و قرّرت التخلص منه بشتى الوسائل لإرضاء نفسها أمام الربّ ، التخلّص من هذا الشيخ الزاني الذي ارتكب أفضع الفواحش مع أكثر نساء المدينة و لم يشبع ، بل يريد المزيد و المزيد .
تبدأ تفكّر بالعلاقة التي تربط عنبر سعيد مع الشيخ مقطوف، فأرادت أن تعرف ذلك وإذا ما عرفت تستطيع التخلّص من الشيخ على يد عنبر سعيد. ففي يوم تذهب إلى عنبر في خربته و تغويه، حاول عنبر أن يمنعها لكنّها أصرت على ذلك. هنا هي الشخصية الحقيقية لعنبر و أخلاقه التي تربّى عليها ،لا يريد أن يفعل السّوء بهذه المرأة عكس الشيخ الجليل الورع المؤمن الذي استغلّها أيّما استغلال بحيله وأساليبه الملتوية و ادّعاءه بالتقرب إلى الله .
أصرّت أن يفعلها معها ، هو خائف من الخطيئة كما وأنه لا يريد أن يُسيء إلى امرأة حتى لو كانت هذه المرأة عاهر ، هذه أخلاق السكيرين ، يخافون الجريمة ، يخافون الاعتداء على الآخرين من دون ذنب ، عكس ( مقطوف) الشيخ المرائي .
المرأة تصرّ على عنبر ، وهو لا يزال خائفاً يتذكر أن لا تتكرّر فعلة الماضي الحزين والأليم وما ألمّ بتلك المرأة التي عشقها وأرادها زوجته و رجموها حتى الموت ، ومن رجَمها ودبر لها هذه الميتة الفضيعة هو الشيخ مقطوف ذاته بلحمه ودمه ، الشيخ المجرم الذي لا يكلّ عن مضاجعة النساء ، و لذلك هو لا يريد أن يفعل الجنس مع هذه المرأة خوفا أن يكرّرها الشيخ مقطوف مرّة أخرى و يأمر برجمهما ، وإذا فلت منه في تلك المرة السابقة فربّما هذه المرّة لن يفلت . تُصرّ المرأة على غواية عنبر السكير لكنه الثابت الراسخ ليس كما الشيخ وأفعاله القذرة. تصرّ عليه و تصرّ فيكون الذي يكون ، حتى انتهيا من السعادة الجنسية التي طارت بهما للحظات إلى عالم الرغبة الجميل . تبدأ المرأة بإخباره عن علاقتها بالشيخ و كيف لعب بعوطفها و أغواها وأغوى الكثير من نساء المدينة بنفس الطريقة ، إذ أنّه بات حديث النساء في حمّامات النّسوة و حديثهن عن قوّته الجنسية وفجوره وفسقه باسم الله و الدّين .
يخرج عنبر سعيد من الحانة ليلا ، فتأخذه قدماه إلى حيث منزل الشيخ مقطوف، راقب المكان ، نسوة يدخلن إليه فرادى وكلّ واحدة تقضي نصف ساعة معه أو يزيد ، يتفاجأ عنبر من عدد النسوة اللاتي يدخلن إليه ، كلما تخرج واحدة تدخل أخرى ، فيردّد مع نفسه ، متى يشبع هذا الزّنديق ، كم من الأجساد نامت تحت خرطومه ليوهمهنّ ببركات الله . يقفز عنبر إلى السطح فيرى الشيخ عاريا ، الشيخ يصرخ مذعورا ( عنبر) ، فيدرك أنّ منيته اقتربت على يد عنبر، بسبب قتله لزوجته أيّام زمان رجماً بالحجارة حتى الموت وهو الذي ألّب المدينة عليهما ، والسبب لعدم رضوخ تلك الزوجة لشهوات الشيخ وهذا السبب لم يذكره الروائي بشكل مباشر ولكننا من سياق السرد نفهم ذلك . يتوسّل الشيخ بعنبر ويقول له إنّنا كنّا صديقين ، يتوسّل في لحظات الضعف لكنه الذئب المفترس عند إطلاق قيده ، يتوسّل ويتوسّل ويندم على فعلته التي ولّت ساعة النّدم . يتوسل إليه أن يتركه حيّا مقابل المال الكثير الذي بحوزته ، لكنّ عنبر المحب والسكير والعاشق لزوجته و حبّه الأوحد لن تغريه أموال الدنيا كلها ، هذه هي الأخلاق الحميدة لدى السكارى ، لدى عديمي الإيمان بالخرافات وخزعبلات رجال الدين . يقوم عنبر بتقييد الشيخ ويرش المكان بالنفط ليطبق عدالة السماء و الأرض بحقّ هذا الرجل الشيخ المجرم، يشعل عود الثقاب و يحرق القمامة ، فيخلّص الناس والنساء من شرور هذا الشيطان المنافق .
في هذا الوصف المثير لموت الشيخ المجرم ( مقطوف) وهذه الطريقة التي رسمها لنا الروائي عبد الكريم تجبرني أن أضيف لما شرحناه أعلاه عن الموت حينما يحلّ بالبشر فلا رجاء منه يُنتظر في أن يعدّل قراره ، ‘نه قرار بلا تمييز أو استئناف مهما توسلنا إليه . ولذلك نرى الشيخ (مقطوف) حينما دخل عليه (عنبر سعيد) في بيته ، رأى فيه وجه الموت المُحقّق بلا مواربة ، يعني من أنّ الموت جاء على شكل (عنبر سعيد) أو العكس بالعكس ، فراح الشيخ مقطوف يتوسل بعنبر سعيد أي يتوسل بالموت في أن يعدّل عن قتله ، لكي يعطيه فرصة لتغيير ما ارتكبه من أخطاء بحقّ الآخرين لكن دون جدوى ، إنه الموت ..الموت ..ثم الموت.
يغيب عنبر عن المدينة بلا رجعة بعد حرقه الشيخ ، وتلك المرأة تحصل لها هزّة عنيفة فهي الوحيدة التي تعرف أنّ موت الشيخ كان على يد عنبر ، و تظلّ تبحث عنه دون جدوى ، إذ أنّ في وُجوده ستكتمل سعادتها التي ظلّت ناقصة ، ولذلك هذه المرأة بغياب الشيخ ترجع لها تلك المرأة التي بداخلها ، المرأة الشهوانية التي ياما ترنّحت وتخدرت تحت جسد الشيخ و سيقانه ، فتتعوّد على فعل الجنس وكأنها أصيبت بمرضٍ لا يمكنها الشفاء منه ، و ها هي اليوم تريد المزيد والمزيد ، فتقوم هي بتنصيب نفسها كشيخ بديل للمدينة ، وتفعل ما فعله الشيخ الفاطس بأكاذيبه و تعويذاته ، فيكون لها ما يكون ، و بالاتّكال على جهلِ الناس ، وتفعل فعلتها مع العديد من الرجال وخراطيمهم ،الطويلة ، القصيرة ، المعقوفة ، ومع النساء بإغوائهن إلى هذه الحبائل . تذوق كلّ الرجال والنساء لكنها لم تستطع العثور على عنبر ولم تستطع تذوقّه مرّة أخرى.
الروائي عبد الكريم هنا أراد أن يعطينا رسالة من أنّ عنبر هو الرّجل الصالح ، هو الرّجل الذي لا يرتكب الأفعال المشينة ، هو المُحبّ، عنبر الذي تفوح منه رائحة المسك، هو السعادة المنثورة بين الناس ، ولذلك كان عصيّ المنال على هذه المرأة التي أصبحت فاجرة في نهاية المطاف لما تعلّمته من الشيخ الذي زرع فيها بذور الدنس والخطيئة ،بينما يبقى عنبر السكير الطيب القلب شعلة وضّاءة في عالم الشّرف، عالم الحبّ و التضحية و العيش على الذاكرة، ذكرى زوجته التي قًتلتْ ظلما و بُهتانا. هنا إشارة من قبل الروائي عبد الكريم في غاية الأهمية في أنّ البديل عن الشيخ الفاسق امرأة فاسقة ، يعني أنّ كان الفساد يعمّ النساء فقط من جراء أفعال الشيخ مقطوف فاليوم الفساد يعمّ الرجال والنساء من فساد المرأة البديلة عن الشيخ ، يعني أنّنا من سيّء إلى أسوا ، من شعوذة رجال إلى شعوذة نساء . بينما لو حكمت المرأة في البلدان المتحضرة ترى المجتمع أكثر رفاهية وسلام لما تحمله المرأة من رقّّةٍ وحبّ في التعامل في أكثر الأحيان ، ها هي الدنمارك نرى فيها المرأة في أغلب مفاصل الدولة ، بحيث أصبحت الدنمارك هي الدولة الأسعد في العالم حسب الإحصائيات العالمية الأخيرة عن الشعوب و سعادتها .
كلمة في نهاية القراءة لابد منها :
أستطيع القول من أنّ الروائي عبد الكريم أراد أن يقلْ لنا أّنّ هؤلاء الشيوخ في إصدارهم أوامر الرّجم وكأنهم رُسل الموت، لا يعرفون غير لغة الموت دون إعطاء من يقتلونه أمنية واحدة قبل موته، بل يرقبونه بكل فرح حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، عندها يغادرون هانئين لموت هذا الشخص الذي لم يتسنّى له أن يطلب مطلبا صغيرا قبل رحيله الأبدي . في فيلم القمة الباردة ( Cold Montain) ،من تمثيل الحسناء الأسترالية نيكول كيدمان، يموت الجندي ( كولي) وأثناء احتضاره يطلب سماع معزوفة ( جدول بيشوب) ...أنا عطشان والماء بارد جدا .. يموت والعازف يعزف تلك المعزوفة حتى يرقد الميت بسلام، أين هؤلاء من أولئك الشيوخ الذين يصدرون أوامر الرجم و القتل بلا رحمة تذكر؟
ثم يتناول الروائي عبد الكريم شخصية الشيخ المؤمن (مقطوف) من أنّهُ كان يداري على الدوام كثرة ماله الحرام من النذور و الحلوى، يخطّط على الدوام إلى أسوأ النوايا و الغايات المبيتة للآخرين، يستحضر الشيطان إذا ما أراد الانقضاض على الآخرين، بينما لو نقرأ لفرجينيا وولف غير المؤمنة و هي في قمة حزنها تقول: ( أرقبُ على الدوام عصراً ماديا، أرقبُ الجشع،أرقبُ قنوطي الخاص،أصرّ على أن أقضي هذا الوقت في عمل أفضل الغايات).
في مجالٍ آخر يتناول الروائي عبد الكريم العامري شخصية عنبر سعيد ضمن إطار صنع المصير، فأراد أن يوضح لنا من أنّ ( عنبر سعيد ) هو الذي صنع مصيره انطلاقا من تلك المقولة (لم يولد المرء شجاع أو جبان ..المرء يمكنه تغيير مصيره ... الفارس اليوناني أكيليس أخيل) . ولذلك في لحظة ما غيّرت مجرى حياة عنبر سعيد فنقلتهُ من الصمت إلى الصراخ بوجه الظلم، من القلق و الحيرة إلى الراحة و الاطمئنان ،من الشعور بالحيف إلى التباهي، من الشعور بالخيبة أمام الطاغي المتمثل بمقطوف إلى الشعور بالأمل، من عدم الرضا عن النفس إلى حبها و تقديرها، من السكوت عن مقتل الحبيب سواء إن كان وطنا أم إمرأة إلى المطالبة بأخذ الحق و نيل العدالة، باعتبار أنّ المنازعات الكبرى هي المرأة والوطن . ولذلك عنبر سعيد لم يقرّ له قرار حتى غيّر من نفسه إلى عنبر الشجاع و نال من قاتلي حبّه ثم صرخ قبل أن يذهب بلا رجعة مثل صرخة ( فرانكو نيرو ) في الفيلم الشهير ( كيوما) بعد أن يقضي على المجرمين في صرخة بكلمة ( حرييييييية) التي تظهر بصداها الرهيب في الشاشة الفضية، و مثلها فعلها عنبر سعيد حين يرحل و إلى الأبد، تاركاً المدينة و المرأة التي اشتهته لنفسها مع الكثير من التأويلات حول مصيره و غيابه .
أضف إلى ذلك أنّ الروائي عبد الكريم في سرده البديع استطاع أن يُذكّرنا برواية أحدب نوتردام للشهير الفرنسي فيكتور هيجو، هنا في رواية عبد الكريم نرى ( عنبر سعيد) مُحبّ وعاشق حدّ التضحية والفداء ، و في رواية فيكتور هيجو نرى ( أحدب نوتردام) محبّ وعاشق حدّ التضحية و الفداء أيضا ، عنبر سعيد أحرقَ المجرم الشيخ ( مقطوف) لأنه تسبب في أذية محبوبته ، وأحدب نوتردام يلقي بالكاهن من أعلى الكاتدرائية ويُرديه قتيلاً لكي يخلّص محبوبته من شرّه وشروره و شعوذته. فهنا عبد الكريم العامري كان في غاية الإبداع والفطنة الروائية التي جعلته يجسّد تلك المقولة الشهيرة التي نالت صداها من ذلك الوقت حتى اليوم وكيف كان الصراع بين التحضر والكنيسة (لن تكتمل الحضارة حتى يسقط آخر حجر في آخر كنيسة على رأس آخر قسيس ...إميل زولا)، و لذلك الروائي عبد الكريم أراد أن يُوصّل رسالة في غاية الأهمية ، من أنّ تقاليدنا للأسف لم تتغير سوى أنّ هناك من يضع الخمرة المعتقة في قناني جديدة، التقليد باق يسوي تغيير في بعض التفاصيل التاريخية الصغيرة. وعليه لا بدّ وأن نسعى للخلاص من الخزعبلات و الشعوذة التي يأتي بها رجال الدين والتي لا تنفع في بناء مجتمع متحضر بل تضره في كل الأحوال ، كما حصل في أغلب بلدان التحضر حينما رفس العلم و إلى الأبد كل التعاليم الدينية المشعوذة ، حيث أنّ الثورة العلمية حوّلت البشر من المركزية الدينية إلى المركزية الإنسانية ولذلك استطاعت هذه الشعوب أن تبني حاضرها ومستقبلها اعتمادا على عدم الرجوع لتعاليم الكنيسة و شعوذتها إلى الأبد .

هــاتف بشبـــوش/عراق/دنمارك



عبدالكريم العامري
 
أعلى