فتيحة الشرع - غربة امرأة

لم تكن تدري وهي تُودع والديها عند مدخل الخطوط الجوية الخارجية، أن العالم الذي سوف تنتقل إليه بعد ساعات من التحليق فوق القارات وبتأشيرة اشترتها بما ادخرته لسنوات وجواز سفر زورت إحدى شهاداته مدعية أنها عزباء ليس في عنقها رجل، أنه مجرد عالم من كريستال.
بحقيبة واحدة لكنها ليست مثل حقيبة الكرتون الشهيرة التي صورتها السينما وكانت عنوانا لرحلة امرأة خرجت وقررت معانقة الرياح والسحاب ولم تعد.
حين تنكر لها القدر أو بالأحرى حين تنكرت هي لإرادة القدر، ضاقت الدنيا بها لتصبح دائرة السماء بحجم ثقب إبرة...لا عمل يليق بسنوات الشباب المهدورة تحت أكوام الكتب والكراريس ولا حياة اجتماعية تسمح لها أن تعبر عن أحلامها وخيالاتها التي مازالت ترسمها في ذهنها بألوان قصص الطفولة الأولى...
ولا حتى حياة مادية تصون كرامتها، فما يبقيها بهذه الديار وأرض الله واسعة لا حدود لها سوى في قلب الجبان وعقل الساذج.
وطئت قدمها أرض الميعاد، تراءت لها الأشياء بأبعاد مختلفة، الهواء، الأمكنة، المساحات الخضراء، والوجوه والألوان وحتى الخطوات والضحكات بدت لها أكثر جاذبية وإغراء.
كانت صديقتها تنتظرها في المطار، هي من خمّرت الفكرة في رأسها الكبير، حتى فاضت وفاضت معها الإرادة، تعانقتا طويلا كبجعتين في مواسم الحب...
كانت تتلفت في كل اتجاه، مندهشة لحد العياء والتنهد.
في أيام قليلة سعت لأن توجِد لنفسها عنوانا وصفة تحقق لها معادلة الانتماء، قنعت بأبسط المساكن بين ناطحات السحاب ذات الواجهات الزجاجية والشوارع الفسيحة الملتوية كأوشام على زند عريض، ومارست أشد الأعمال إرهاقا ورضيت بأزهد الأجور، كانت تواسي نفسها، هكذا هي البدايات عادة، فالحظ لا يبتسم إلا للمغامرين.
استمر بها الحال على شاكلته لسنوات، تعيش يومياتها تحت سقف المجهول، تلتقي أجناسا غريبة الشكل والأمشاج، ليست منهم وليسوا منها، ولا يتقاطعون في شيء.
أكل سريع، مشروبات غازية تزول نكهتها بزوال انسيابها، كل شي ء سريع، حتى نظرات الإعجاب اختصرت في نظرة واحدة، موعد فمتعة عابرة.
حياة مليئة بالمغريات التي تتبخر كلما آوى الآدميون إلى الفراش في رحلة غير مضمونة العودة.
غادرت محطتها الأولى، حاضنتها الأولى ذات فجرٍ ماطر يجثم عليه الضباب الكثيف وقد لفت جسدها بمعطف من الفرو المرقط، تصدقت به إحدى الثريات اللائي كن يرتدن من وقت لآخر المطعم الذي خدمت فيه فترة.
كانت عيناها تغرقان في بحر من النعاس تحاول التحرر من مده بإطلاق بعض التثاؤب واحتساء بعض القهوة المعطرة التي ابتاعتها من محطة الإقلاع وجلبتها معها إلى داخل هذا القطار السريع الذي تهرب من نوافذه كل المناظر في بلد مترامي الأطراف أين تحس أن غربتها تكبر مع الأيام، غربة الذات، غربة القيم، فالمجتمعات المتقدمة تضبط معاييرها على دقات الوقت ومؤشر الربح وهو عملة الأغلبية، وحتى لو أثمر رخاء ورفاهية بالمقابل يسود الخواء الروحي.
غربة اشتقت وحشتها من غربة الدنيا التي لا يلتقي الكمال فيها في مكان واحد.
غيرت المدن بحثا عن الجنة المفقودة فكانت ريحها بعيدة، بعيدة بُعد السماء عن الأرض.
جاهدت نفسها على التأقلم، لم يكن لديها فراغ، عمل بالنهار ودروس بالليل، اختارت الأدب الإنكليزي شكسبير وكيبلنغ، مسارح ومطارح ترسمها الأقدار ويفلسفها الإنسان لتصير حكايات سجينة صفحات الكتب.
كانت كلما قبضت مبلغا من المال، أرسلت ثلثيه إلى أهلها، فالعملة الصعبة للأيام الصعبة.
غربة اشتقت قانونها من ساعة الأيام الرملية، تنفرط حباتها من عقد العمر، فيمتلئ النصف السفلي على حساب العلوي لتسقط آخر حبة تاركة فراغا أبديا.
قايضت شبابها مقابل العملة الصعبة، ولم تنتبه إلى أولى شيبات الرأس التي تناثرت كندف الثلج، ولم تنتبه إلى تغلغل التجاعيد كسواقي جفت منها مياهها، بدا وجهها الجميل الهادئ كأرض طينية تشققت تحت سطوة الجفاف.
نسيت نفسها في زحمة الزمان والمكان، حتى لحظات التفكير في آتيها سرقتها المدن وأضواؤها.
تفتح أجندتها لترتب تواريخ تسليم طلبات الزبائن أو تشطب أسماء وتضيف أسماء، وفي آخر صفحة تبعثرت أرقام وعمليات جمع وطرح، اختزلت ما صرفته وما إذخرته.
كلما تقدم بها العمر، كلما تغيرت عاداتها، فلم تعد تطارد أماكن السهر والمطاعم الرومانسية واكتفت بساعات النهار للنشاط والحركة خصوصا بعد أن تحصلت على شهادة ماجستير أدب إنجليزي، علقتها للتباهي في مكتبها الصغير.
مكتب اكتظت جدرانه بصور أفراد عائلتها حسب الأقدمية في الحياة، زيادة على لعب صغيرة تجدها من حين لآخر داخل علب الحلوى والشوكولاته معلقة بشكل عشوائي لكنه جميل لعفويته، حتى الفوضى لها إمضاؤها.
في نهاية الأسبوع، تلتقي عددا من الأصدقاء من جنسيات شتى، يلتفون حول مائدة غذاء ُتنصب في الهواء الطلق، يتبادلون الأخبار والأحوال ويعقدون صفقات، قد لا تخلو من عروض زواج.
دُق جرس الباب، في مثل هذا الوقت المتأخر من المساء قلّما يُسمع رنينه الذي يشبه زقزقة مسترسلة، كانت تتهيأ للاستلقاء قبّال شاشة بلورية عملاقة مسطحة تشعِرها أنها ليست لوحدها داخل هذه الغرفة الفخمة العازلة للأصوات من الموكيت السميك، أزاحت الستار عن نافذة تطل على المدخل لكنها لم تتبين جيدا ملامح الطارق كان ظهره يقابلها، أسدلت رداء فوق كتفيها ليستر بعضا من جسدها ونزلت السلالم حافية القدمين،
فتحت الباب دون تردد، فهي تسكن منذ سنوات في هذا الحي الآمن ولم يسبق وأن حدث ما يقلق ساكنيه...
صُعقت من الدهشة، أيعقل أن يكون هو؟...
إنها المرة الأولى منذ أن وصلت إلى هذه القارة يزورها رب العمل، لم يفعلها أصحاب المطاعم البسيطة، فكيف بمدير أكبر مصنع للألبسة الرياضية، ضاع لسانها بين فكيها، أسرعت يديها للتعبير عن أهلا ومرحبا، ابتسم المدير في هدوء، دخل وهو يحافظ على يد داخل الجيب وأخرى طليقة، طلبت منه التفضل بالجلوس وسألته إن كان يرغب في تناول مشروب ما.
نظر إليها برهة وحتى لا يكسر تقاسيم الإلحاح في وجهها قال نعم.
فتحت الثلاجة وأخرجت كل ما فيها، إنه السخاء العربي،
عادت وهي تجر طاولة بعجلات وقد أثقلتها بالمشروبات، ضحك وقال" أين أفرغ كل هذا؟"
قالت" أنت تستحق أكثر من هذا، وإن شئت حضَّرت لك عشاء"
قال" كثيرة هي المناسبات التي تؤكد لي أن من أنبل شمائل العرب السخاء، ليس فقط في بلدانهم بل حتى وهم في الغربة وخاصة....!"
اهتزت فرحا" لم أسمع منذ مدة إطراء عن العرب، هذا لطف منك"
" تعرفين أن المباشرة والاختصار من ضمانات النجاح في الحياة وأنا رجل أحرص على..."
قاطعته" لي شرف العمل عندك"
واصل كلامه" أنت امرأة عظيمة ومتفانية في العطاء، ولكن المصنع في الأشهر الأخيرة يمر بمرحلة حرجة، تدفعني لتقليص عدد العمال و..."
ضاع تركيزها بعد أن نزلت هذه الكلمات كسهام مسمومة على قلبها ولم تدرك بقية كلامه، كأن فوهة بركان فُتِحت أمامها لترى بين عينيها ألسنا نارية ستحرقها، جحظت عيناها ولم تنتبه إلا وهو يمسك يدها ويضع داخلها ظرفا مملوء،
أضاف:" هذا مبلغ جيد، يكفي لممارسة نشاط تجاري متوسط، لديك الخبرة وشبكة اتصالات واسعة وأنا سأظل إلى جنبك، معك كل أرقام هواتفي... أُوكي...لم أفعل هذا إلا مع من يستحق، أنا مضطر للذهاب فعندي مشاغل تربطني لا أبالغ إن قلت كأخطبوط جمع أطرافه على فريسته... سأتصل بك مرة أخرى لنتناول العشاء في مكان هادئ....".
بقيت جالسة تصارع اللاوعي بينما اتجه هو إلى الباب
فتحه بلباقة وخرج...
هكذا هم، كل شيء يسير في شكل منحنى دالة حسابية قد يقابل الصفر في أية نقطة انعطاف، ولكن ما يميزهم عنا هو محاولة الصعود بعد الصفر...إنها العزيمة المتجددة.
لم تنم ليلتها، صار بيتها أكثر غربة وغربتها أكثر وحشة، تذكرت مقولتها الأولى" ما الذي يبقيني في هذه الديار " لكن هذه المرة تقصد حتما ديار الغربة...
بمبلغ كهذا يمكنني أن أبدأ نشاطا تجاريا كبيرا في بلدي سأشرع في ترتيب العودة، قريبا...
جرت الأمور على وجه من السرعة لتحوّل كل شيء يقع بين يديها إلى قيمة نقدية، إعلانات بيع في كل الجرائد، عبر الهاتف ورسائل الكترونية إلى كل الأصدقاء، كل شيء للبيع...
في المطار، وهذه المرة في رحلة العودة، لم يكن هناك أحد يودعها الكل مشغول، إنهم يكتفون بالبريد الإلكتروني ورسائل أَسَمَسْ تقول" رافقتك السلامة وتصحبك العناية الإلهية، نبقى على اتصال عبر الانترنت يا عزيزتي"
عادت إلى من حيث انطلقت، وجدت عالما آخر غير الذي تركته منذ سنوات، كل شيء يتغير بوتيرة متسارعة حتى في العالم الثالث، عادت إلى بيت الأهل ولكن هذه المرة لتجد شركاء جدد يقاسمونها كل شيء، لقد كبرت العائلة وصارت قاعدة السدس والثمن والأقساط التنازلية هي السائدة... وبعد أن كان البيت رحبا أصبح ضيقا ومكتظا, حتى طلاء البيت قد تغُيّر.
وفجأة سمعت صوتا يناديها: "خالتي... خالتي..." أدركت حينها أن الزمن قد فعل فعلته بها خلسة.
وقفت مشدوهة لا تدري ما....



فتيحة الشرع


* عن مركز النور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى