شيخة محمد الأمين - الأسلوبية (علم الأسلوب) بين النظرية والتطبيق .

تقديـم:
يعدُّ الأسلوب من الدعائم الأساسية في ظل البحث البلاغي القديم رغم سيطرة هذا البحث مدة من الزمن على الفكر النقدي الأدبي، وكان لظهور علم اللغة أو اللسانيات الحديثة الفضل في رعاية، وعناية هذا الأسلوب، فأمدّه بأسباب الحيوية والانبعاث، مما أدى إلى أفول نجم هذه البلاغة، وتقليص حجمها، وبذلك فتح المجال إلى علم جديد بنافس البلاغة القديمة، إلا وهو الأسلوبية أو علم الأسلوب ليساير المرحلة الحالية، ولقد شهد علم الأسلوب كمختلف التيارات النقدية الحديثة تحولات عديدة منذ بدايات ظهوره الأولى، مما أدى الى احتكاكه ببعض المفاهيم النقدية واحتوائه فيها أحيانا، ويمكننا أن نمثل لمسيرة هذا العلم في صورة الشمس التي تتعاقب وتتوالى عليها الغيوم في السماء فتضيء أحيانا وتحجب أحيانا أخرى.
وما أنفك هذا العلم وفي مسيرته أن تتخلله قوالب ،أو مدارس عديدة حاولت هي بدورها احتواء هذا العلم ، أو احتضانه ضمن أطرها الضيقة، لكن رغم هذه الجهود بقي البحث الأسلوبي قصرا على الإلمام بشتات الأسلوبية أو علم الأسلوب، وانحصر في بعض المناهج التي سادت واكتسحت الساحة النقدية فاستطاعت بعضها أن تتمظهر في شكل مدارس تنسب إلى نفسها شرعية وأحقية هذا العلم.
أ- الأسلوبية والتصور النقدي الغربي:
أهتم النقاد الغربيون بموضوع الأسلوبية اهتماما كبيرا، واتجهت جل جهودهم إلى محاولة وضع أطر ،ومعالم لهذا العلم الحديث رغم اختلاف تصوراتهم ومشاربهم وتنوع دراساتهم، التي كان لها الفضل الكبير في إثراء الدراسات الحديثة بهذا النوع من البحث الموضوعي، وهو ما انعكس إيجابا على الفكر النقدي الأوربي والغربي على الخصوص، وما أدل على ذلك هو الاهتمام الذي لاقته الأسلوبية لدى النقاد العرب، ومحاولتهم رصد هذا العلم ضمن الأعمال الأدبي العربية، وسنحاول في هذا الصدد رصد أهم الآراء والتصورات النظرية التي برزت على الساحة النقدية الغربية من لدن بعض رواد هذا الفكر الجديد ومن ثمة سنخرج إلى بعض التصورات والأفكار في ظل البحث النقدي العربي وما يميزه من خصوصية، وذلك قبل الانتقال إلى الهياكل والاتجاهات الكبرى التي مارست هذا الفكر النقدي في ظل مدارس نقدية بارزة.
ومن أهم الرواد الأوائل الذين ساهموا في بناء هذا البحث النقدي الأسلوبي في أوربا طائفة من النقاد الدارسين والمنظرين ومنهم:
شارل بالي (Chares Bally) 1865م – 1947م:
يعتبر هذا اللساني السويسري من المؤسسين الأوائل لعلم الأسلوب سنة 1909م تاريخ صدور كتابه الأول( في الأسلوبية الفرنسية)، إذ يرى في الأسلوبية ذلك البحث الذي يعني بدراسة قضايا التعبير عن قضايا الإحساس والكلام، وهي بذلك تدرس وقائع التعبير اللغوي من جهة مضامينها الوجدانية أي (تدرس تعبير الوقائع للحساسية المعبر عنها لغويا، كما تدرس فعل الوقائع اللغوية على الحساسية)(1)، ثم جاء من بعده أتباعه وتلاميذه الذين ساروا في اتجاه الأسلوبية التعبيري، وانصبت جهودهم في تحقيق دور الأسلوبية في الكشف عن خصائص التعبير رغم الاختلافات البسيطة بين آرائهم(2)، وتركيزهم على العناية بخصائص التعبير الجمالية في النصوص الإبداعية المقصودة، ومن هؤلاء (مارسيل كرسيو) و(جول ماروز)، وهما من رواد هذا الاتجاه ومن المناصرين الأوائل لفكرة التخلي عن لغة النصوص المحكية أو اللغة الفطرية.
ليوسبتزر(Léospitzer) 1887-1960م:
أضاف هذا اللساني على فكر (شارل بالي) البحث في الوقائع الأسلوبية من جانب الإحساس وجانب الفكر، وحدد الأسلوب بإنزياحه أو عدوله عن المعيار السائد في الفترة الزمنية المحددة، وحاول التركيز من خلال الأسلوبية على صاحب الأسلوب في انطباعه الشخصي وكذا النفسي(3)، وإذا أغرقت تحاليله الأسلوبية في الجوانب النفسية المتصلة بالكاتب ذاته، وهو ما أدى فيما بعد إلى ظهور منهج خاص في الأسلوبية.
ميشال ربفاتير (M. Reffatere):
اهتم هذا اللساني من جامعة كولومبيا بأمريكا ومنذ العقد الخامس من القرن الماضي بالدراسات اللسانية والأسلوبية، وأبرز دور الأسلوبية كبحث جدي وموضوعي في إبراز شعرية النصوص ،رغم ولوعه بالمنهج البنائي الذي أفاد التحليل الأسلوبي، وقد ركز هذا الأخير على دور القارئ المتميز في فهم الطاقات الأسلوبية المودعة في الخطاب الأدبي، ويرى الأسلوبية دلك العلم الذي يهدف إلى الكشف عن العناصر المتميزة التي يستطيع بها الكاتب ((... مراقبة حرية الإدراك لدى القارئ المتقبل، والتي بها يستطيع أيضا أن يفرض على المتقبل وجهة نظره في الفهم والإدراك فتنتهي إلى اعتبار الأسلوبية (لسانيات) تعنى بظاهرة حمل الذهن على فهم معين وإدراك مخصص))(4).
وقد اعتمد في تجسيد هذه السمات الأسلوبية التي تنتقل إلى القارئ العمدة عبر التطبيقات البنائية الموضوعية التي حاولت أن تتخذ من خلاله منهجا، أو مدرسة أسلوبية كان لها صدى كبير في إجراءاتها وتحاليلها البنيوية.
رولاند بارت (Roland Barthes) 1915-.:
لساني فرنسي عمل على إرساء قواعد نقد حديث ،وحاول في كتابه (الدرجة الصفر في الكتابة) سنة 1953م وضع فاصل بين اللغة والأسلوب، ويرى أن الأسلوب بمثابة الشعاع ولا يستطيع القبض عليه، ومنه نستعين بهذا التفرد في الأسلوب بدراسة الأسلوبية القائمة على الإحصاء لإبراز ما فوق الصفر، أو ما يسمى بـ (التجاوز)(5).
تازفيان تودوروف (Tzvetan Todorov) 1939- :
لساني بلغاري الأصل فرنسي الجنسية، وباحث في الأسلوبيات ،ومن المهتمين بالخواص الجمالية ضمن الخطابات الأدبية، ولقد تركزت بحوثه في ميدان الشعرية (Poétique) وحاول بيان تطبيقاتها ،وتحديد معالمها رغم هذا الترابط الشديد بينها وبين الأسلوبية، إذا يرى في الأسلوبية منهجا خاصا، ولخصها في اتجــــاهين
أو منهجين هما أسلوبية (شارل بالي) وأسلوبية (ليوسبتزر)(6).
رومان جاكسون (Roman Jakobson ) 1896-1981م:
لساني روسي ومن المؤسسين الأوائل لمدرسة الشكلانيين الروس، أسهم في بلورة الفكر الأسلوبي، ولم يغفل دور الأسلوب في الخطاب الأدبي بوصفه مقوما أساسا في الوظيفة الشعرية، ونادى بمد جسر بين الدراسات اللغوية، والنقد الأدبي بالدراسة الأسلوبية ، كما أنه أهتم بنظرية النظم عند العلامة(عبد القاهر الجرجاني) وأعاد صياغة التصورات البلاغية القديمة، ووصفها وصاغها على ضوء علم اللغة الحديث ونظريات السيميولوجيا(7). وهو بذلك يضع مفهوما للأسلوبية فيصفها بالبحث الموضوعي عما يتميز به الكلام الفني عن بقية الخطابات والمستويات أولا ثم عن سائر أصناف وأشكال الفنون الإنسانية ثانيا(8). ولم يستبعد بذلك كون الوظيفة الشعرية التي دعا إليها هي في حقيقة أمرها وظيفة أسلوبية بحتة تسعى إلى تحقيق أدبية النص ،ومنه تكون الأسلوبية بحثا خاص يهدف إلى إبراز خصوصية النصوص من خلال إبراز الوظيفة الشعرية فيها.
بيار جيرو (P.Guireau):
قسم الأسلوبية المعاصرة إلى اتجاهين متخالفين، وهما الأسلوبية النقدية ويقودها (شارل بالي)، والأسلوبية الجديدة أو الحديثة والتي تتصل بالبنيوية عن طريق (جاكبسون)، وكلاهما يريان في الأسلوب الشكل المتميز للنص المدروس، ويختلفان في أن الأول يقيدها بالرمز، أو الشفرة والثاني يقيدها بالبنى الداخلية (الرسالة)(9).
لقد نالت الأسلوبية الحظوة والمكانة بفضل هؤلاء رغم تعدد، وتشتت الآراء في تحديدها، رغم أنها لم تكن مصدر انشغال كبير عند البعض، إلا أنها استأثرت بمصنفات خاصة وبحوث مركزة لا تعد ،ولا تحصى ،وظلت عند المتأخرين منهم كبحث متجدد قابل للنقاش والإثراء وسنكتفي هنا بذكر بعض الأسماء الغربية التي ساهمت في دفع مسيرة هذا العلم ومنهم (غراهام هوف، جورج مونان، ستيفان أولمان...) وغيرهم كثير(10).
الأسلوبية والتصور النقدي العربي:
بحكم احتكاك الثقافات العربية بالغربية، وسيطرة الفكر العقلي الموضوعي على البحث الإنساني في العصر الحديث تطلع النقاد والباحثون العرب إلى مستقبل الأسلوبية، ودورها في النقد العربي، كما لم يهمل هؤلاء الاهتمام بظاهرة الأسلوب منذ العصور الأولى وخاصة على مستوى الشعر، وأهم ما وصلنا منها آراء الجاحظ في كتبه النقدية وخاصة كتاب (الحيوان) و(البيان والتبيين)، وقد رأى الدكتور (عبد الله العشي) في الكتاب الأول ما يقارب المائتين مصطلحا، أو مفهوما نقديا، ظف إلى ذلك قضية العلاقة بين اللفظ والمعنى في مقولته المشهورة، وقد فسر بعض الباحثين بـ (... بما أن المعاني كلها مطروقة مطروحة، فإن الأمر يعود – إذن-إلى الطبيعة الأسلوبية المميزة، التي تعطي الجوانب الذاتية للتعبير (المعنى) وتخرجه من حيزه العام إلى الحيز الخاص ذاته)(11). وهذا يفهم على أساس أن العرب الأوائل تقطنوا إلى الخصائص الشكلية في الخطاب الأدبي، وأولوها أهمية كبيرة وعقدت بذلك موازنات نقدية أسلوبية مشهورة كموازنة الآمدي (ت 370 هـ)... بين شعر أبي تمام والبحتري، وما أفرزته نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني من آثار لدى علماء الغرب الذين تفطنوا من خلال جهود النقاد العرب الأوائل إلى أهمية الجانب الشكلي في الخطاب الأدبي وآلية بروز السمة الأدبية الشكلية وفق محوري الاختيار والتراكيب، وهو ما حدا بهم إلى دراسة هذه العملية واختصارها في مصطلحات دقيقة، أعاد العرب فيما بعد نقلها بعد ترجمتها لتكتسح الساحة النقدية، وازداد هذا الإعجاب بأن شعروا بأهمية الأسلوب والبحث الأسلوبي، وكانت البواكير الحقيقية للممارسة النقدية الأسلوبية بمفهومها الحديث في نهاية السبعينات. من القرن الماضي(12). وقد مرت هذه الممارسة بمرحلتين وهما(13).
أولا: المرحلة التعريفية أو التأسيسية في نهاية السبعينات ،وأوائل الثمانينات من القرن الماضي عندما خاضت البحوث الأسلوبية العربية في تعريف الأسلوبية ومعطياتها وحقولها النسقية ومساراتها عند العرب وميزها اتجاهان وهما:
1. مسار تعريفي حديث ورواده الدكاترة: عبد السلام المسدي، شكري عياد، صلاح فضل.
2. مسار توفيقي: رسم حدود التواصل بين البلاغة العربية القديمة ومسارات المنهج الأسلوبي الحديث ومن رواده الدكاترة: محمد عبد المطلب، محمد الهادي الطرابلسي وغيرهم.
ثانيا:المرحلة الإجرائية، صنفت فيها الكشوف التطبيقية وروادها من المنظرين الأوائل لعلم الأسلوب وأبرزهم د. عبد السلام المسدي في كتبه التطبيقية ود. صلاح فضل ود. كمال أبو ديب في كتابه (الشعرية).
ويبدو أن تيار الأسلوبية بدأ في المغرب والجزائر وتونس وفي وسورية (كمال أبو ديب)، ثم أنتقل إلى المشرق العربي، وقد مثل كل دولة مجموعة من الباحثين العرب، ففي السعودية الدكتور (عبد الله الغدامي) الذي تتلمذ على يد الدكتور (سعد مصلوح)، وفي تونس د.(عبد السلام المسدي) وفي مصر طائفة من الباحثين (صلاح فضل، محمد عبد المطلب، شكري عياد، عبد المحسن طه بدر، أحمد درويش، محمد السعران) وفي الأردن ( خليل أبوعمايرة) وفي المغرب (محمد الهادي الطرابلسي)(14). أما في الجزائر الدكاترة (عبد الملك مرتاض، نور الدين السد،...).
ولقد تنوعت بحوث هؤلاء النقاد والباحثين العرب بين النظرية الصرفة التي ترصد وتفحص تصورات هذا العلم على الساحة النقدية وأخرى تطبيقية لإبراز إمكانيات التحليل الأسلوبي في العملية النقدية وثالثة حاولت التوفيق والجمع بين الجانبين، ضف إلى ذلك بعض الآراء الاجتهادية والتطبيقات الفردية وأهمها:
د.عبد السلام المسدي:
اتسمت بحوثه الأسلوبية ومصنفاته بالبحث عن نقاط التكامل، والتواشج بين المنحى الجمالي والمنحى الموضوعي العلمي إلا أن تحاليله نزعت إلى روح التجريدية العلمية أكثر من الرصد والكشف الجمالي، ويعتبر المسدي من الباحثين الأوائل الذين روجوا لمصطلح (الأسلوبية) كمالم يغفل اعتماد مصطلح (علم الأسلوب)(15). كما أنه لم يمل إلى منهج معين لذاته في تحليليه الأسلوبي بل مزج بين المقولات الأسلوبية ومعطيات علم النفس. ودعا إلى ضرورة اغناء العمل الأسلوبي بالفحص النقدي النظري، والمراجعة التطبيقية للوصول إلى تخليص المعارف، وتمحيص المفاهيم، كما ألح على ضرورة الحذر والحيطة المسبقين في اختيار الخطوة الأولى للولوج إلى العمل النقدي ذي الطابع الأسلوبي(16).
د.صلاح فضل:
رائد من رواد البحث الأسلوبي في المشرق العربي، عكست إنتاجا ته اهتمامه الخاص بالبحث في مجال هذا العلم وسعيه الدؤوب لوضع أسس علمية وجمالية لأسلوبية عربية قادرة على إثبات وجودها أمام المد المتصاعد للتيارات النقدية الوافدة من الغرب، والتي لا تتلائم بعضها مع طبيعة النص الأدبي، ومن أهم آرائه في هذا المجال تفضيله لاستخدام مصطلح (علم الأسلوب) بدل الأسلوبية لأن علم الأسلوب هو جزء لا يتجزأ من علم اللغة العام(17). كما أطلق كذلك على اجتماع الأسلوب والشعرية معا مصطلح (علم الأسلوب الشعري) في بحث واحد وهو لا يغفل المواشجة بين المراحل النصية والسياقية. كذا الظواهر الجمالية أثناء التحاليل الأسلوبية للنصوص الشعرية وأساليبها بشرط احترام خصوصيات النص الأدبي العربي(18).

د. سعد مصلوح:
اعتمد هذا الأخير مصطلح (الأسلوبيات) الموافقة لما جاء على لسان السلف على وزن (الطبقات، الرياضيات)، كما يرى هذا المصطلح يتفق حديثا مع مصطلح (اللسانيات) إذا يعتد بهذا العلم (علم الأسلوب) ولا يعده منهجا لأنه يظم عدة مناهج بداخله(19).
د. شكري محمد عياد:
اجتهد في تقسيم وتفريع الأسلوبية إلى وجهين رئيسين(20).
- علم الأسلوب العام: وهو علم يهتم بالخصائص الأسلوبية التعبيرية في اللغات عموما كالمجاز وغيرها.
- علم الأسلوب الخاص: يعني بميزات أسلوبية تعبيرية خاصة بلغة ما معينة، وهو في موقف أخر يدعو إلى الاعتداد بالبلاغة العربية وما قدمته للبحث الأسلوبي الحديث في دراسة القيم التعبيرية والاستفادة من الدراسات اللغوية الحديثة في إرساء علم الأسلوب العربي.
د. نور الدين السد:
أبدى اهتماما كبيرا للأسلوبية ومنهج تحليل الخطاب من خلال كتابه (الأسلوبية وتحليل الخطاب) سنة 1997م، والذي كان بمثابة دراسة بيليوغرافية لمختلف الدراسات السابقة وخاصة العربية منها إلى جانب بعض الاختلافات الجوهرية لها، وحاول عرض هذه التجارب عرضا ملخصا أورد فيه أهم إيحاءات هذه التحليل وما أضافته للبحث الأسلوبي مع الفروقات الجوهرية بينها، ومن آرائه في هذا المجال وصفه للأسلوب بأنه مرتبط بعلم اللغة عن طريق المادة اللغوية التي يصدر عنها(21).
ومن خلال ذلك كله نقف على شهادة الدكتور (طه وادي) في كتابه (الأسلوبية) إذ يصرح ((اليوم... لم يعد ثمة ريب بين الدارسين العرب للنص الأدبي... أن منهج الأسلوبي قد أصبح أكثر المناهج المعاصرة قدرة على تحليل الخطاب الأدبي بطريقة علمية موضوعية تعيد مجال الدراسة-دراسة النص- إلى مكانها الصحيح، وهو دراسة الأدب من جانب اللغة))(22).
الأسلوبية والهياكل النقدية الفاعلة:
يرى الدكتور صلاح فضل أن مولد الأسلوب هو العالم الفرنسي (جوستاف كويرنتج) عام 1886م(23).
رغم أن الدكتور نور الدين السد قد أوضح في بعض مراجعه أن أول من أطلق مصطلح (الأسلوبية) على دراسة الأسلوب العالم (فون درجيلنتس)سنة 1875م(24). إلا أن هذه الروايات لا تختلف في كون العالم والأديب(بيفون Buffon) 1707-1788م هو أول من أهتم بظاهرة الأسلوب عند الكاتب في مقولته المشهورة (الأسلوب هو الرجل نفسه) وقرنها بشخصيته وكان له بذلك مؤلفه المشهور (مقالات في الأسلوب) سنة 1753م(25). وكانت هذه المعالم بمثابة الانطلاقة الأولى والخطوة الأولية في مسيرة الأسلوبية التي تأرجحت بين الآراء والنظريات والتصورات لتصل في آخر المطاف إلى مرحلة التجسيد والتطبيق في شكل هياكل ومدارس نقدية فاعلة على مستوى البحث النقدي الحديث تهدف في مجملها إلى تحقيق نظرية أسلوبية عامة تساهم بدورها في اغناء نظرية الأدب بمقولات نقدية موضوعية وغير متحولة ومن أهم هذه المدارس.

المدرسة الأسلوبية التعبيرية:
قطب هذه المدرسة بلا منازع هو العالم اللغوي (شارل بالي) وهو مؤسس علم الأسلوب الحديث انطلق مفهومه للأسلوبية من مفهوم أستاذه (دوسويسر 1857-1913) للغة باعتبارها حدث من نتاج جماعي قديم في نظامها وقواعدها وبلاغتها، كما أهتم شارل بالي بالقيم العاطفية والتغيرات اللغوية الحادثة على مستوى اللغة المنطوقة التي تكشف عن قيم أسلوبية، وعاد في أواخر أيامه ليبرز أهمية اللغة المكتوبة (المقصودة) في احتوائها كذلك على قيم عاطفية تبرز قيم أسلوبية
وهو ما أشاد به تلاميذه (جول ماروزو، ومارسيل كريسو)، وأهم النقاط البارزة في الممارسة النقدية لهذه المدرسة ما يلي:
- الأسلوبية عندهم سمات وخصائص داخل لغة تعبر عن جوانب عاطفية وانفعالية.
- تتم عملية رصد هذه السمات وفق مستويات لغوية منتظمة (صوت، معجم، دلالة) بالإضافة إلى ظواهر الصورة والمجاز(26).
- تقصي الكثافة الشعورية العاطفية التي يشحن بها الكاتب نصه في استعمالاته النوعية.
- عملية الكشف والتوصيف لكل خصوصية لغوية لتحقيق جانب المتعة الجمالية والدقة الموضوعية.
المدرسة الأسلوبية النفسية (الفردية):
قطب هذه المدرسة العالم النمساوي (اليوسبتزر) وتلميذه العالم اللغوي الألماني (كارل فوسلير) وقد أسهمت كتبه وأهمها (دراسات في الأسلوب) عام 1928م، والأسلوبية والنقد الأدبي(27). في بلورة الاتجاه النفساني في البحث الأدبي وأهم ما يميز بحوث هذه المدرسة ما يلي:
- تنطلق هذه الأسلوبية من نتاج وإبداع الفرد وليس من الجماعة ومن اللغة الفردية الأدبية وليس من اللغة الجماعية(28).
- تتجاوز البحث في أوجه التراكيب اللغوي ووظائفه في النسيج اللغوي إلى العلل والأسباب الفردية.
- المنهج النفساني ينبع من الإنتاج وليس من مبادئ مسبقة يسقطها الناقد على النص.
- الإنتاج الأدبي عمل متكامل، والبحث ينصب في الالتحام الداخلي في نفس وروح الكاتب.
- تحكيم الحدس في البحث عن محور العمل الأدبي، وهذا الحدس يستند إلى الموهبة والتجربة(29).
- الإيمان بالتحول اللفظي اليومي المستمر، والمعبر عن مقاصد المتكلم.
- رصد مواقع ووقائع الكلام واكتشاف الانحراف الفردي والأسلوب الخاص.
- الإنزياح أو العدول ظاهرة انتقالية بين النصوص.
ومن أهم رواد هذا الاتجاه النفساني:: (داماسو ألونسو، وازهاتزفيلد).
المدرسة الأسلوبية البنائية (الهيكلية):
تؤمن البنائية بأن لا وجود للموضوع في الأدب إلا من خلال البنى التي تظهر في ثوب أشكال لغوية وصورية وعلاميه، عكس الأسلوبية التي تؤمن بوجود الموضوع في النص الأدبي، لكنها تسلم بمشروعيته من خلال نسيجه اللغوي(30). ولقد استمدت الأسلوبية من هذا المنهج البنيوي انطلاقا من اهتمام البنويين بمصطلح البنية والتعبير معا ومن هؤلاء (رومان جاكيسون) وغيرهم من الشكلانيين الروس، وبذلك ساعدوا على تأسيس الأسلوبية البنائية التي تهتم بدراسة الأسلوب الفعلي في ذاته لا بدراسة الأسلوب كطاقة كامنة في اللغة بالقوة يقوم الكاتب بتوجيهها إلى غرض معين.
ومن أعلام هذه المدرسة العالم الفرنسي (ميشال ريفاتير) الذي وجه أبحاثه الأسلوبية نحو المتلقي وركز على أهمية القراءة في كتابه (محاولات في الأسلوبية البنيوية) سنة 1971م(31). إلى جانب وصفه للأسلوب كبنية شكلية ترسم بها أفعال الكاتب وتستدعي المقاربات اللسانية ومن أبرز النقاط التي ترتكز عليها هذه المدرسة ما يلي(32):
- تنطلق من مبدأ أن الأسلوبية تتطلب القارئ النموذجي والسياق الذي يفاجئه.
- الإنزياح قائم على أساس السياق، وليس على أساس المعيار اللساني.
- لا يمكن إنكار أي قيمة أسلوبية لبنية من النص مهما كانت بسيطة.
- الإحصاء يعطل دور المحلل الأسلوبي، ولا يعد التواتر في الكلمات مقياسا أو سمة أسلوبية.
- القيام بعملية الانتخاب أو الاختيار في أثناء التحليل الأسلوبي لجمع العناصر ذوات السمات الأسلوبية(33).
- لخص ميشال ريفاتير الإجراءات البنيوية في التحليل الأسلوبي ضمن خطة في مرحلتين وهما: مرحلة الوصف، ثم محلة التأويل والتفسير.
ونشير هنا أن أبرز التحاليل الأسلوبية البنائية ما قدمه (جاكبسون- وكلود ليفي شتروس) في قصيدة (القطط) لبودلير عندما بحثا عن أسس البناء الصرفي وتراكيب الجمل والدلالة والوزن.
مدارس أخرى:
بالإضافة إلى الهياكل والمدارس الأسلوبية الفاعلة والعامة ظهرت بعض الأسلوبيات أو التطبيقات الأسلوبية التي حاولت فرض مناهجها على الساحة النقدية لكنها ظلت حبيسة مناهج أتخذها أصحابها ومن أهمها:
المدارس الإحصائية:
تعتمد على منهج الإحصاء الرياضي وبها يتم قياس الانحراف أو الإنزياح أو السمات الأسلوبية المنتظمة وغير المنتظمة داخل الخطاب الأدبي، وقد مثل هذا الاتجاه في فرنسا (بيارجيرو) و(مولر) ومن أهم نقاطها البارزة:
- لا يصلح هذا المنهج إلا لبعض النصوص التي تتوافر فيها سمات أسلوبية بارزة وظاهرة لا تخفى على قارئ عادي.
- رصد دواعي وأسباب توارد وتكرار هذه السمات.
- رصد مناطق توارد وتكثيف هذه السمات في النصوص على شكل جداول .
ومن أهم النقاد العرب المولعين بهذا المنهج الدكتور (سعد مصلوح) والدكتور(محمد الهادي الطرابلسي)، ومن أبرز رواد هذا المنهج في أوروبا الباحث والناقد (زامب Zemab) صاحب مصطلح القياس الأسلوبي (stylOmètre ) والعالم (فول فوكس Facks).
المدارس الوظيفية(34):
تهتم بالتجديدات الأسلوبية التي تتجاوز حدود التعبير عن الخصائص الفنية إلى التعبير بشكل أوسع عن الشعور، أو رد الفعل وتهدف إلى بناء هيكل واسع وتنظيم محكم يظم مجموعات لغوية ثابتة، وأخرى غير لغوية في نص معين، وهو عمل بعيد المنال وشاق يتجاوز قدرات الأسلوب المعنوية والمادية في أغلب الأحيان.
المدارس التوليدية(35):
تعتمد عل قواعد العالم واللساني (نعوم تشومسيكي) التوليدية التحويلية، فتتخذ بذلك الجمل الجديدة بمثابة اختيارات جديدة وطاقات تعبيرية كامنة في اللغة وبها يتم تحديد الاختيارات الجديدة وفق قواعد التحويل ثم الاختيار الذي يمثل صورة منتقاة من بين الصور الواردة وهي أسلوبية صعبة التحقيق لصعوبة تعيين النواة أو الجملة المحورية الأصلية ومن أهم نقاطها:
- تقوم هذه الأسلوبية على الطرف الأول وهو الكاتب(المرسل)
- اعتبار الجمل الأولى هي محور ونواة الفعل الأسلوبي تتولد منها بيانات و جمل أخرى.
ومن أهم روادها ( ستيقان اولمان – 1914 - ) و ( ثورن).
المدارس الأدبية (36):
و هي مدرسة ترى في الأسلوبية نقداً أدبيا بل قد تكون الأسلوبية خادمة للنقد الأدبي مادامت تتناول موضوعاً واحداً معه ويمثل هذا الاتجاه في أوروبا الشاعر الإنجليزي ( رونالد ديفي) الذي يرى أنه لا بد من الفهم الأدبي، والفعالية الأدبية للدراسة الأسلوبية أمام مقولات علم اللغة التجريدية و قد أوحى هذا الأخير إلى الكلام عن ما يسمى بعلم الأسلوب الأدبي الذي هو الوريث الشرعي لعلم البلاغة القديم(37).
الخلاصة:
من الصعب علينا، وفي هذا الموقف أن نحكم، أو نصدر أحكاما نهائية بخصوص هذه الأسلوبيات، وتكمن الصعوبات في أمرين وهما:
- إسهام الأسلوبيات في أغناء البحث الأسلوبي بشتى مدارسها
- تنوع هذه الدراسات الأسلوبية وتفرعها من بعضها البعض فأصبح من المتعذر ضبط دراسة واحدة تجمع بين عدة اتجاهات.
ويكفي هنا أن نرصد إحصاء الذي أجراه العالم اللغوي (هاتزرفيلد Hatzfeld) عن مؤلفات التي كتبت في علم الأسلوب خلال النصف الأول من القرن الماضي (1902-1952) إذ تصل إلى حوالي ألفي (2000) مؤلفا(38). ويرى الدكتور صلاح فضل أن جملة ما كتب من بحوث نظرية وتطبيقية في اللغات الأوروبية يربو الآن عن أربعة آلاف (4000) بحث وكتاب مما يجعل الإلمام والإحاطة بها مستحيلا على أي طالب أو باحث في علم الأسلوب(39). أما الدراسة الأسلوبية العربية فتتجه الآراء إلى عدم تمكننا من إيجاد منهج عربي أسلوبي يستمد خصائصه، ومقوماته من واقعنا الشعري والسردي معا(40). رغم حضور أهم الجوانب الضرورية في الممارسة الأسلوبية العربية الحديثة.


الدكتور شيخة محمد الأمين


* منقول عن مجموعة نقد القصة القصيرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى