عباس محمود العقاد - مع أبي العلاء في سجنه

قال صديقنا الدكتور طه حسين في تبيين مقصده من كتابه هذا: وستقول فانك إن مضيت على هذا النحو لم تقدم إلينا كتاباً في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي؛ وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق؛ فأني لا أقدم إليك كتاباُ في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدمت إليك من ذلك ما فيه مقنع؛ وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجى نفعه ولا يتقى شره؛ ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب ومن الطمع والإشفاق، أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي والتي تكتب ابتغاء لرضى الأصدقاء واتقاء لسخطهم. .؟)

وقد أحسن الدكتور القصد، وأحسن التعريف. فكتابه حديث المرء عمن يحب لمن يحب. واراه مذكري أحاديث الآباء عن أبنائهم الأعزاء: كيف يضحكون وكيف يبكون، وكيف يخطون وكيف يتعثرون؛ والسامع يرتاح إلى الإصغاء إن كان ممن يعنيهم أمر أولئك الأبناء، فأما إن لم يكن منهم فإلى غيره يساق الحديث، وليس من حقه أن يلوم المتحدث كما ليس من حق القارئ الذي يطلب الهندسة أن يلوم المؤلفين الذين لا يكتبون كتابة المهندسين

وأنا ممن يحبون أبا العلاء وممن أطالوا قرأته في أول عهد الشباب، وما أحسب أحداَ من الشبان المشغولين بالأدب لم تمض به فترة معرية في باكورة كفاحه حين تصطدم أحلام الصبا بمتاعب الدنيا وتجارب الأيام، فهناك يروقنا التشاؤم ويعجبنا من يعيبون لنا الحياة. ثم نخرج من هذه الربقة فنعاودها معاودة الحنين إلى تلك الباكورة المشتهاة، ونقرنها بذكرى الشباب وذكرى الأحلام، ونعطف عليها كما يعطف الرجل الجلد على بكاء طفولته وهي لا تستوجب بعض ذلك البكاء. فما زلت أعتقد وأزداد مع الأيام اعتقاداً أن بغض الحياة اسهل من حب الحياة، وأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة اعم وأشيع وأقرب غوراً من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى. فالفرح أعمق من الحزن في رأيي ولا مراء! وليس الحزن قدرة بل هو انهزام أمام قدرة. . . أما الفرح فهو القدرة والانتصار. والدكتور طه لفرط حبه أبا العلاء يتهم نفسه بمحاباته فيقول: (قل إ أوثر أبا العلاء وأحابيه وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره فقد لا تخطى ولا تبعد، وأظنني نبهتك إلى ذلك في أول الحديث، وقلت غير مرة إني لا أملي كتاباً في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عشرة أبي العلاء في سجنه وقتاً ما)

فمن المصادفات العجيبة أنني حابيت أبا العلاء على نحو قريب من هذا النحو، ولكني لم أسمها محاباة بل قلت إنها هي الإنصاف المعقول في قياس الأقوال بالقائلين، وعبت من نصحونا بأن ننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، فكتبت قبل ثلاثين سنة في مذكراتي التي جمعتها باسم (خلاصة اليومية) أنها قاعدة لا يصح إطلاقها على كل حال. فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري:

تعب كلها الحياة فما أعج ... ب إلا من راغب في ازدياد

يؤخذ منها مالا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامه الناس من التذمر من الحياة وتمنى الخلاص منها، لأننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة ودرس الشؤون التي تكون منها عذبة أو مرة، نكداً أو رغداً؛ ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفى للحكم على ماهية الحياة

فكلانا إذن يسمع القول من شيخ المعرة فيعجبه، ويسمع القول نفسه من غير الشيخ فلا يحظى عنده بذلك الإعجاب لكن صديقنا الدكتور يسميها محاباة ومجاملة لصديق، وأنا أجرى فيها على سنتي الغالبة في كل شيء من التوفيق بين الحجة والعاطفة فلا أبرح بالعاطفة حتى أقنع بها عقلي وأثبت له أنها جديرة بإقراره وترخيصه، فيعيش العقل والعاطفة معا في وئام، وأخلص بهذا مما يقع بينهما من ملام وصدام

وشيء آخر أخالف به الدكتور أو تخالف فيه طريقتي طريقته في صداقة أبي العلاء

فأنا لا أذكر أنني كرهت أحداً أحبه أبو العلاء، أو أحببت أحداً كان هو من كارهيه

أما الدكتور فيعلم ما كان في نفس صاحبه من الحب والإكبار لأبي الطيب ثم يقول: (أنا أقدر فن المتنبي وأعجب ببعض آثاره إعجاباً لا حد له، واعجب ببعضها الآخر إعجاباً متواضعاً أن صح أن يتواضع الإعجاب، وأمقت سائرها مقتاً شديداً، ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقاً عليه ولا رثاء له، وإنما هو مغامر طلب ما لم يخلق له، وتعرض لما كان يحسن أن يعرض عنه فانتهى إلى ما ينتهي إليه أمثاله المغامرون)

ترى ماذا كان المعري قائلاً للدكتور لو سمع منه هذا المقال؟ أخشى أن تكون وقيعة بين الصاحبين وأن كنت لا أخشى أن يعود الشيخ إلى استحسان قصيدة أبي الحسين التي مطلعها:

لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهن منك أواهل

لأن الشيخ يعلم أن الدكتور لا يكره أبا الحسين كراهة الناقص للكامل ويستشفع له بشفيع من طيب النية وصدق الولاء والحق أنني أعجب لهذا النفور بين الدكتور وشاعرنا العربي الكبير، وما أنا ممن يستحسنون كل شعره ولا كل عمله ولكني أزن ما زاده في ثروة الآداب العربية وما زاده في شرور الحياة بسوء عمله وسوء خلفه فأعلم أن الحياة لم تفسد بفساد المتنبي وأن الأدب قد صل بصلاح شعره، وان لأصغر الهلافيت من خلق الله لسيئات أكبر من سيئات المتنبي بكثير واحتملتهم الدنيا مع ذاك. . . أفتحتمل الدنيا هذا من أصغر الهلافيت ولا تحتمله من الرجل الذي لو قبلنا حسناته بألف ضعف من سيئاته لكنا نحن الرابحين؟

هنا أيضاً أعود العاطفة والحجة واحسبني أقرب من الدكتور إلى وفاق الصداقة ببني وبين شيخ المعرة، واقرب إلى الإنصاف

أهذا كل ما أخالف به الدكتور من رأى أو هوى في حديثه عن صديقنا العظيم؟

كلا! بل هناك خلاف وخلاف، وأكثر من خلاف وخلاف هناك قول الدكتور تعقيباً على كلام الأديب الفرنسي بول فاليرى في المصور ديجاس (العجيب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيراً من صفات هذا لمصور الفرنسي الذي كنت أسمع اسمه وأجهل من أمره كل شي تشبه ما ألفت وأحببت من صفات أبي العلاء. فشدة الرجل على نفسه إلى أقصي غايات الشدة، وشك الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور النفس، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، في الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة - كل هذه الخصال التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس قد حدثتنا بها القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلا أن الأول كان مصوراً رساماً والآخر كان شاعراً حكيماً. . .)

أفصحيح أن المعري وديجاس شبيهان في خليقة واحدة لأنهما على نفسيها صارمان؟

هنا قسوة، وهناك قسوة، وهنا تعذيب وهناك تعذيب، ولكن أين قلق الفنان في سبيل الخلق من قلق الناسك في سبيل الإحجام؟ أين تعذيب الجواد بالسوط لينبعث ويسبق من تعذيب الجواد باللجام ليسكن ويكف عن الوثوب؟ أين اللزوميات وهي قيود، من (الأمبرشنالزم) وهي انطلاق من القيود؟ أين رياضة الفقير الهندي المتقشف من رياضة الحسناء بالتقتير على جسدها في الشراب والطعام لتزداد جمالاً على جمال ونشاطاً على نشاط؟ أين الزهد في المال انصرافاً إلى الغني من الزهد في المال انصرافاً عن الدنيا؟ إن الفرق بين تعذيب وتعذيب ليبلغ أحياناً من السعة أبعد مما بين النعيم والعذاب، هكذا كان الفرق بين صرامة المعري وصرامة ديجاس

وثمة خلاف غير هذا الخلاف بيني وبين الدكتور في حديثه عن صديقنا القديم

فالدكتور ينقل شذرة من فصول المعري وغاياته يقول فيها: (يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، يسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النيروسنير حتى يريا كفرسي رهان)

ثم يعقب الدكتور على هذه الشذرة فيقول: (أما أنا فما أشك في أن أبا العلاء قد قصد بهذا الفصل خاصة إلى رأى من أشد الآراء الفلسفية الأبيقورية خطراً وهو إنكار العلة الغائبة وإثبات أن العالم كما هو لم يخلق لغاية من هذه الغايات التي نعرفها نحن ونزعم أن الأشياء قد خلقت لتحقيقها)

وعندنا نحن أن سماع الإنسان بيده أو شمه الروائح بمنكبه لا ينفي العلة الغائبة، لأن الوسيلة والغاية هنا موجودتان، ولم تختلف إلا الوسيلة التي تتحقق بها الغاية

وأصوب من هذا أن يقال إن رأى المعري شبيه برأي المعاصرين الذين يقولون: (إن الوظيفة تسبق العضو، وإن القوة تسبق الظاهرة)

فإذا وجدت الرغبة في الحركة أو في هضم الطعام وجدت الأعضاء التي تتكفل بأداء هذه الوظيفة على اختلاف الأشكال والأوضاع في أجناس الحيوان

وللشاعر الإنكليزي (كولردج) على ما أذكر كلمة في مصور عظيم يقول فيها: (إنه لمصور ولو خلق بغير ذراعين) مريداً بذلك أن التصوير وظيفة قبل أن يكون عضواً من الأعضاء، فلو خلق المصورون بغير أذرع لخلقت لهم وسائل أخرى لإبداع مالا بد أن يبدعوه

وقال الدكتور يخاطب أبا العلاء:

(. . . أنت لا نعرف ما باريس وما أظنها قادرة على أن تصرفك عن حزنك وتشاؤمك، بل أنا واثق بأنك لو عرفتها لأمعنت في حزنك وتشاؤمك كشأنك حين عرفت بغداد. أما أنا فإن باريس تصرفني عن الحزن والتشاؤم وتثير في نفسي لذات عقلية ليست أقل من هذه اللذات التي أجدها في الحديث إليك والحديث عنك، وهي على كل حال تزعجني عن سجنك الذي كنت أود لو أطيل المقام فيه. ومن يدري لعلي أسأم لذات باريس فأفزع منها إليك من حين إلى حين. فليكن وداعي لك الآن موقوتاً ولأقل لك في لهجة المحب المشفق الوامق: إلى اللقاء)

فالدكتور واثق بان أبا العلاء لن يكون في باريس إلا كما كان في بغداد

فما باله أراد مني أن أجعل أبا العلاء يرى في باريس ما يراه السائحون، ويقول فيها ما يقوله أولئك السائحون؟

في هذه أنا أيضاً أقرب إلى وفاق الصداقة من الدكتور

أنا ذهبت إلى باريس بالخيال فأخذت إليها صاحبي بالخيال، والدكتور طه ذهب إلى باريس حسا وخيالاَ فأبى على صاحبه المزاملة وهتف به:. . . إلى اللقاء؟

وما أردت علم الله أن أوغر صدر الشيخ على صديقنا الدكتور أو أن أظفر بنصيب من الحظوة عنده فوق نصيبه، ولكنني أحببت الحديث عن الشيخ ولم أحبب أن يكون تكريراً وإعادة تبطل بها متعة الحديث. فليكن خلاف وكان خلاف!! وإنما هو اتفاق في حب التحدث عن صاحبنا المحبوب

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 335
بتاريخ: 04 - 12 - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى