خليل شيبوب - الإغماء.. أقصوصة

(مهداة إلى الأستاذ محمود بك تيمور)



كنت صديقاً حميماً للأستاذ عزيز سامر وزوجته سلمى. أما عزيز فترجع علاقتي به إلى عهد الحداثة الأولى. وأما سلمى فإن والدتها كانت وثيقة الصلة بوالدتي وكانت تصطحبها قي زيارتها إلى منزلنا حيث كنت أراها يافعة تبرق عيناها ذكاء وأستلذ محادثتها في فترات قصيرة بين والدتها ووالدتي.

ولعلي كنت السبب في زواجهما لأن عزيزاً قابلها في منزلنا غير ما مرة، ولم يصادف صعوبة حين عقد النية على الزواج منها لا من أهله ولا من أهل الفتاة. وعاشا عيشة رضية بضع سنوات ماتت في خلالها والدة سلمى ووالدتي. وكم مرة كنا نتحدث عنهما وتثير أليمة الذكريات. ولم يرزق عزيز ولداً فما اهتم للأمر كما أن سلمى أيضاً لم تهتم له ولم ينشب بينهما ذلك الخلاف العهيد الذي يبعث به عقم الرجل أو المرأة.

أجل، كنت صديقاً حميماً للأستاذ عزيز سامر وزوجته سلمى حتى أني كنت أتناول طعام الغذاء أو العشاء مرات كل شهر في منزلهما الذي اشتراه عزيز على ضفة المحمودية في عزلة عن الأوساط الصاخبة وفرشه بأفخر أنواع الرياش، ووسع حوله حديقة مغروسة بمختلف الأزهار والرياحين. ولا أزال أذكر مجالسنا فيها للأنس والسمر في أيام الربيع المزهرة، وليالي الصيف المقمرة، كما لا أزال أذكر مجالسنا بعد العشاء في قاعة التدخين على مقاعد الجلد العريضة في ليالي الشتاء الباردة، وأستار الحرير القاتم مدلاة على النوافذ، والطنافس المفروشة تحت أقدامنا تبعث في جو القاعة حرارة طيبة، بينما يتساقط المطر خارجاً بين هزيم الرعود، وولولة الرياح.

والأستاذ عزيز سامر محام معروف كثير الأعمال وافر الربح يعيش في يسر ودعة. وسلمى فتاة طيبة القلب، جميلة الوجه، أنيقة الملبس. تدير منزلها في كثير من النظافة والمرح، وتستلذ الخروج مع زوجها إلى مشارب الجعة ومساهر السينما ودور التمثيل. وكم صحبتهما إليها وكم احتدم الجدل بيني وبين سلمى على الملابس النسائية وائتلاف ألوانها، واختلاف أشكالها وطولها وقصرها، ومناسبتها وغير مناسبتها. وكانت سلمى تحب مداعبتي وإحراج زوجها وتهمته بفقدان الذوق في هذه الأمور الهامة.

ولا أعدو الحقيقة إذ قررت أن سلمى على جانب من الثقافة يجعلها تتذوق القراءة الأنيقة، وبخاصة هذه الأقاصيص التي اكتظت بها الكتب الحديثة. ولكنها كانت تعجب كل الإعجاب بالكاتب القصصي جي دي موباسان، لأن أقصوصته نيرة مشرقة مترعة بالحياة يتدفق الذوق الفني في سطورها البارزة حتى كأنها رسم بارع الألوان تامُّ التخطيطات تكاد الصورة تنطق بين ثناياه.

وإني لأشعر بكثير من الغبطة كلما ذكرت تلك الساعات الأدبية التي مرت بنا وبخاصة كيف كنت أضحك من الأحكام الجائرة التي كان يحمل بها عزيز سامر على الأدب والأدباء فيقول لزوجته:

- دعي عنك هذه السفاسف!. . إن أدباءك أناس أخفقوا في عواطفهم فقذفوا بها في وجه الناس وهم يظنون أنهم يأتون بالمعجزات.

فتقول له سلمى في كثير من التهكم:

- أنت يا عزيز لا تفهم إلا (حيث إنّ). . . تريد بذلك (حيثيات) الأحكام. . . وتضيف إلى قولها: أن الأدب مرآة الحياة كما يقولون ولكن (حيث إنّ) هذه لا حياة فيها.

فيجيبها عزيز بأن الأدب مرآة مشوِّهة للحياة لا تعكس إلا ما يظهر منها بينما ما خفي أكثر وأدق، وقد يكون أجل وأعظم. . .

فأتدخل بينهما وأقول:

- قد يكون ذلك كذلك وكلاكما على حق. والأدب دنيا والمحاماة دنيا، قد تلتقيان وقد تفترقان. . .

وكنا نفترق عادة ولم يقنع أحد فينا رفيقه.

ولكن هذه العيشة الراضية لم تدم طويلاً، لأن سلمى كانت تمر بها السنون مقفرة الأيام إلا من زوج تعودته وخدم ألفتهم وقليل من الأصدقاء ملّت صحبتهم. وصرت أشعر في أحاديثها بكثير من الضجر والسأم فأختصر الزيارة أو أعكس وجهة الحديث أو أنقطع عنهما أسابيع.

ولا أنس يوماً وأنا مكب في مكتبي على عمل هام إذ اندفع إليه عزيز سامر فجأة كأنه قذيفة طائشة فنهضت منذعراً أرحب به، وهو يقول:

- اسمع يا فريد! إن هذه الحياة لن تطول بي وإني لأختنق. لقد بلغت مناقشاتي مع سلمى درجة من الحدَّة حملتها على التفكير في الطلاق.

فسكنت روعه ولطفت من هياجه، وبين فنجان من القهوة ولفافة من التبغ فهمت أن سلمى اندفعت من طريق المطالعة إلى حد خرجت به عن التسلية إلى الجد، وأنها صارت تطبق على زوجها كل الآراء والأفكار التي تقرأها. وأنها تلح عليه في الجدل والمساجلة حتى يتبرم بها ويكاد يجنُّ من الأسئلة والأجوبة، وهو رجل لا يفكر إلا في قضاياه وملفاته، وقد أضحكني عزيز كل الضحك حينما سألته أن يضرب لي مثلاً لذلك فقال:

- تصور يا فريد أنها قرأت قصة من قصص موباسان حدثتني أن صاحبتها كانت إذا أرادت رجلاً لنفسها ورأت فيه شيئاً من الاستحياء والخجل تصنَّعت الإغماء بين يديه حتى يضمها إلى صدره ويغتنم فرصة إغمائها.

فتهالكت من الضحك وقلت لعزيز: إن هذا ايوجد إلا في القصص. فتغاضب عزيز وقال: لا تضحك بل اسمع ماذا سألتني سلمى.

قلت: ماذا؟

قال: سألتني بعد أن أعربت عن إعجابها بهذه الناشرة المريضة: ماذا أفعل لو أن سيدة أغمي عليها وألقت بنفسها بين يدي. . . فأجبتها بأني أستدعي لها الإسعاف. . . فقالت لي: أنت رجل مغفَّل! ومن هنا نشأ بيننا جدل عنيف لم ينته إلى الصباح، وقضينا ليلة ساهرة في المصايحة والمهاترة.

وزاد عزيز على قوله:

- لذلك أرجو منك يا صديقي أن تحاول ردَّ سلمى إلى صوابها، وتحملها على الإقلاع عن هذا الهذيان الذي يقودنا حتماً إلى المحكمة الشرعية.

ووعدت عزيزاً بالتدخل، وفعلاً خاطبت سلمى في الأمر وأخذت أخضد من رغبتها في قراءة الكتب الجامحة دون أن تسترشد بدليل يميز لها الغث من السمين، والنافع من الضار. ورضيت بي سلمى مرشداً أدلها على الكتب الطيبة والأقاصيص الطريفة الأدبية التي تمتزج بالحياة من جهاتها القويمة. وصرت أشتري لها بعض الكتب التي كنت أعرف في مؤلفيها ميلاً إلى إصلاح المجتمع والمحافظة على الأخلاق.

ومضت فترة من الزمن تبينت فيها أن سلمى لم تعد تلك الزوجة المفهومة التي ترتسم على وجهها كل معاني نفسها بل أصبحت كثيرة التأنق في ملبوسها وزينتها واختيار عطورها بل صرت أراها تتعمد إثارة الفتنة بملامحها وجلستها ومشيتها، وكأنما زاد بريق عينيها السوداوين الواسعتين بما كانت توسع من أشفارهما بالكحل، وتبالغ في توضيح أنوثتها بارتجاج جسمها في نقل خطواتها. وصارت تزيد أثوابها قصراً وتغالي في تعرية زنديها وصدرها، وصار زوجها يشكو من هذا كله فأقول له:

- دع سلمى، إنها فتاة طيبة، وإن الزينة حياة المرأة، ولا ضير عليك ولا عليها من الأناقة ومسايرة أزياء العصر.

وفي الواقع كان تطور سلمى بطيئاً وما كانت لتلفت نظري ونظر زوجها لولا بعض أثواب قديمة لها كانت ترتديها في بعض الأحايين فترينا الفرق بين ما كانت عليه وما صارت إليه، ولكنني وزوجها ما برحنا نعتقد أن شغفها بالزينة نتيجة التقليد فقط، وأن المرأة أكثر ما تتزين لتباهي بزينتها غيرها من النساء، وأن هذا كله بريء كل البراءة، لا يفضي ولن يفضي إلى ما لا يصح السكوت عنه.

ولقد صادفت سلمى مرات في الشارع منفردةً تدور على المخازن كما تقول ذلك كل النساء، وأظن أني لمحت مرة شاباً يترسم خطاها وهي تشجعه بابتسامتها له، ولكن ظهوري أمامها صرفه عنها وصرفها إليّ. وأذكر أني فسرت ذلك بأنه حادث عادي، ولم أشأ أن أفسر ابتسامة سلمى له سوى أنها محض توهم مني.

وسئمت سلمى من المطالعة ورغبت إليّ ألاّ أتعب نفسي في اقتناء الكتب لها، وكنت سئمت التفكير فيما أقدمه إليها، وهي مهمة محرجة، فحمدت لها رغبتها تلك وفي صدري منها مرارة مبهمة. وصرت ألاحظ أن سلمى إذا جلست إلى جانبي ألقت بنفسها متهالكة على المقعد في حركة غريبة، وكانت من قبل تقعد قعود الصراحة، وصرت ألاحظ أنها ترنو إلي خلسة بعض الرنو بألح اظ فاترة مستطيلة، وأني إذا حملت إليها على عادتي القديمة بعض الهدايا أخذتها بلا شكر كأنها فرض أؤديه ولكنها كانت تتحين فرصة يكون فيها زوجها بعيداً عنا فتخاطبني عن هديتي في لطف وهدوء لم أعهدهما فيها كأنما تجعل نفسها مقصودة بها باعثة عليها، لا المنزل ولا الصداقة القديمة.

وإننا معشر الرجال ليطيب لنا مثل هذا الجو الفاتر الذي تثيره المرأة حولنا ونشعر فيه بلذة غامضة، إلا أن هذه اللذة كانت مشوبة عندي بكثير من تأنيب النفس وكنت أشعر بأنني لست راضياً عن سلمى الجديدة لأنني كنت أكثر ميلاً إلى سلمى القديمة المرحة التي عايشتها مع زوجها عيشة الألفة البريئة الصريحة. ومما زاد في عدم رضائي عنها أنها صارت تكثر من مخاطبتي بالتلفون وتطيل صوتها في شيء من الدلال وتسألني دائماً عن صحتي وعن ليلتي وعن إصباحي وعن إمسائي كأنني مريض تريد أن تطمئن على سير مرضه.

ومرت الأيام وهذا الجو يزداد حرارة حتى إني صرت أحس بأن عينيَّ تثبتان على سلمى ثبوت تفحص لجسمها البض، ووجهها الغض، وقوامها المجدول وابتسامتها الساحرة وجبينها المشرق، وبخاصة بريق عينيها السوداوين الواسعتين.

(البقية في العدد القادم)

خليل شيبوب


مجلة الرسالة - العدد 337
بتاريخ: 18 - 12 - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى