عبد الرزّاق بوتمزّار - الشّاعر وإكليل الموت

الخامسة. وقف يتفقّد أحوالَه أمام الزّجاجة المربّعة الصقيلة. تناول المشط وحاول التقليلَ من فوضى شَعره الأشعث المسترسل. عندما همّ بالمغادرة، لمح طيفَ شعرةٍ بيضاءَ تبرُز بشكل واضح بين باقي الشّعرات. أحسّ برعب حقيقيّ. قطراتٌ من عرقِ بارد غطّتْ جبينَه. مرّت أمه إلى جانبه وعلّقتْ: تظل مُتسمِّراً أمام هذه الزجاجة كأنك... عروس تتهيّأ لليلة زفافها!
هضم تعليقَها بعسر. وتعود الشّعرة البيضاءُ للظهور أمامه بتحدّ مستفزّ في المرآة. بحركة لاشعورية، اقْتلعَها ولبث ينظر إليها طويلاً، قبل أن يرميّ بها في الحوض أمامه ويفتح الصنبور بقوة كافية لجرف كومة شعر ويُغادر المنزل. كان قد تَأخّرَ عن موعده. لا بأس، قال في نفسه، إنْ لم أقابلْها اليوم فغداً أراها، حتماً، في الجامعة.
عاد يتخبّط في بحر تفكيره الأسود. لم يكن يريد أن يدركه المشيب قبل أن يفعل شيئاً في حياته.. شيئاً مهمّاً!
سار إلى جانبها شاردا، بعد أن اعتذر عن تأخّره بكلمات وإشارات مقتضبة. كان غارقاً في دوامة أفكاره وخيالاته البعيدة، وصوتُها يصل إلى مسامعه، بين الحين والآخر، دون أن يفهم كلمة واحدة مما تقول. لقد حدث اليومَ ما جعله يشعر بأنّ كل أحلامه تبخّرتْ دفعة واحدة. وهو الذي كان يحلم بأنْ يصبح شاعراً كبيراً تعبُر دواوينُه الحدودَ وتشُقّ كلماته، الرنّانةُ، طريقَها إلى الآذان في كل مكان و... تبدّتْ له الشّعرةُ البيضاءُ الملعونة لتُذكّرَه بأنّه شخص واهمٌ يطارد أملاً من دخان.
تلك الشعرة البيضاءَ اللعينة تعني أنني قد عبرْتُ الجسرَ الفاصل بين مرحلة العطاء والتحدّي والصّمود إلى مرحلة الضّعف والاستسلام والهزيمة! هكذا، إذن، أخطو، اليومَ، أُولى خطواتي نحو بداية النهاية لكل الأحلام الورديّة. لن أكون شاعراً معروفاً ولن يُردّدَ الناس قصائدي، الرائعة ولن...
هكذا ظل يخاطب نفسه طيلةَ الوقت، وهي تسير إلى جانبه منشغلةَ الذهن بما تراه عليه من حزن ووجوم. سألتْه، بعد أن عاد، أخيراً، من أغوار الخيال:
-هل انتهيتَ من قصيدتك الجديدة لعنةُ السَّحَرة؟
-بل انتهيتُ من لعنة الشّعْرة!
أغرقها جوابُه في بحر الحيرة والتوجّس.
تتالت الأيام، بعد ذلك، طويلةً وقاسيةً، والشّعْرة البيضاءُ تـُطلّ عليه بين الفينة والأخرى. كان ينتزعها كلما تراءتْ له بين شعرات رأسه، إلى أن اكتشف، ذات يوم، أنّ الشّعرة البيضاء قد تناسلتْ شعراتٍ كثيرةً تحتلّ مفرق الشعْر من رأسه.. في ذلك اليوم تحوّلَ إلى شخص محموم. ألغى جميعَ ارتباطاته والتزاماته. بدا له كل ذلك غيرَ ذي جدوى في ظل هذا التهديد السافر لهدفه الأسمى، الذي كرّس له حياتَه وضحّى في سبيل تحقيقه بسعادته وهنائه. شعُر بكُره داخليّ ما فتئ يتقوّى؛ كرْهٍ لكل شيء: للكتب، للمبادئ، للجمعيات، لرفاق الدرب، للشعر، للنظام، للعالم وللذات. أمضى يومه ذاك كئيباً، حزيناً تعتصرُه الهواجسُ والأفكار السوداء. وعندما زحف الليلُ بجيوشه يطرد آخرَ جنود النهار ويسدُل على الكون ملاءته السوداءَ المعتمة كان التعب والإجهاد قد استنزفا قواه. لكنّ النوم أبى أن يقترب من العينيْن المكدودتَيْن. لبث يتقلّب فوق سريره ساعاتٍ طويلةً إلى أن حمله الكرى، أخيرا، إلى مملكته العجائبية، البعيدة.
وحلم بالشعْرةِ البيضاء.. رآها تتجسّد في شخص عجوز شمطاءَ تقف، بعزمٍ وإرادة سحريّيْن، أمام حشد هائل من الفتيات الصغيرات (لا بد أنّهُنّ شعرات رأسه السوداء) تحُثهنّ على الثورة والانتقام من "هذا الشخص المجنون، الذي يظل مفكِّراً، مُحلـّقاً بخياله في سماوات بعيدة، مُنهِكاً إيانا، بحكّنا وشدّنا كلما استعصتْ عليه فكرةٌ أو نأتْ عنه خاطرة! فلـْنبْيَضَّ، إذن، جميعاً حتى نجعل الناس يَسْخرون منه ويبتعدون عن أشعاره وجنونه!"..
حاول أن يفتح فمه ليرُدّ على تلك العجوز المقرفة ويُقنع الفتيات الصغيرات بألا يحْذين حذوها، لأنّ الشمطاء لا تريد إلا الإيقاعَ بهنّ في الهوة السّحيقة التي وقعتْ هي فيها.. لكنّ لسانه أُلجِم، وكأنه دُقَّ بمساميرَ تمنعه من الكلام. وتراءتْ له الشّعرات السوداءُ، العزيزةُ، تتحوّل بيضاءَ، واحدة تلو الأخرى، إلى أن أصبحت مثلَ إكليلٍ أبيضَ من حدائق الموت يُجلّل رأسَه الصّغير.
طال به الحلم وامتدّ، عبر دروب اللاوعي، المتشعّبة، إلى أن رأى شعراتِ رأسه البيضاءَ تتحول إلى كفَن شديدِ البياض، ما لبثتْ أمانيهِ الجميلةُ أن اندفنتْ داخله دفعة واحدة. وفي الأخير، انغلق الكفَنُ وضمّ داخله جسدَه النّحيف. ارتفع الكفنُ، بفعل قوة سحرية غيرِ مرئية، ليُوضَع داخل تابوتٍ أسودَ قاتمٍ، حُمل فوق بعض الأكتاف، في موكب جنائزيٍّ بئيس، إلى أن رمتْ به في قاع حفرة بلا قرار...
عند هذا، استيقظ، مفزوعاً والعرق يغسل جسده، الواهنَ المرتعد. كانت حرارتُه مرتفعة وأطرافه متخشِّبةً، وكأنما قد جمدتْ داخل عروقها الدّماء. قاوم كلّ ذلك وقام يسعى، حثيثاً، ليغسل وجهه. ورفع عينيْه نحو المرآة.. تراجع، مذعوراً، إلى الوراء. كانت كل شعراتُ رأسه بيضاءَ.. تأكّدَ من أن ما يراه هو الحقيقة وليس امتداداً لحلمه المخيف، قبل أن يبتعد عن المرآة، وقد استبدّ الضعف والوهَن واليأس من جسده. وإنْ هي إلا خطوات قليلة حتى تهاوى إلى الأرض فاقداً الوعي.
هرعتْ إليه أمه. ساعدته على النهوض وأوصلته إلى فراشه. شعر ببعض الرّاحة، بعد أن استقرّ تحت بطانية "المازافيل" المهترئة. رفع نظرةَ امتنانٍ لهذا المخلوق الرّائع. طلب إليها أن تُحْضر له المرآة. لم تَعجبْ لطلبه. فقد ظلت تراقبه في صمت، منذ أيام، وهو يدأب على ملاحقة الشّعرات البيضاء في رأسه. كانت تعلم أنه سينتهي، يوماً، إلى ما هو عليه الآن. تناول منها المرآة ووضعها جانباً. لم يُردْ أن تعرف لأيِّ غرض يطلبها. وهي التي تعرف كل شيء، ابتعدتْ بخفة، وفي عينيها دمعتان تُغالبانها.
أخذ الزجاجة المربّعة فرمى عينيْه المكدودتَيْن مباشرة على رأسه، الأشيب، المبْيَضّ.. أطلق تنهيدة عميقة. تضبّب سطحُ المرآة من جراء زفرته الحارة. بدا له وجهُه مطموسَ المعالم، لكنّ البياضَ في رأسه ظل واضحاً! ألقى المرآة جانبا وعاد إلى حزنه وصمته. أحضرتْ له وجبة الفطور. لم يقرُب الطعام. امتنع عن الأكل والشّرب. قرر أن يهجر كل شيء. صار للحياة طعمُ العلقم في حلقه، هو الذي رأى صلابةَ طموحاته تتكسّر شظايا صغيرةً على صخرة الحياة العتيدة.
لكن هاتفاً داخليا ما فتئ، طيلة أيام ثلاثة، يصرخ في أعماقه ويدعوه إلى ألا يستسلم، بهذه الكيفية، للهزيمة، بعد كل سنوات التحدّي والصّمود والمعاناة. وما لبث هذا الهاتف يُلحّ عليه، إلى أن أصبح لا يستطيع لندائه دفعاً، في نهاية اليوم الثالث. كان الليلُ قد انتصف ودسّ الناس أجسادَهم تحت الأغطية الثقيلة يرُومون مزيداً من دفءٍ وقليلاً من رؤى الأحلام تُنسيهِم قليلا من مرارة اليقظة! قام من فراشه، مدفوعاً بقوة غريبة ملكتْ عليه قدرتَه وإرادتَه. أخرج أوراقَه وجلس إلى المنضدة الصغيرة التي اعتاد أن يتّخذها مكتباً. أطفأ نور المصباح وأشعل شمعة، كطقس ليليّ ترسَّخ لديه منذ سنوات كلما أوحيّ إليه بملاحقة قصيدة جديدة عبْر أبجديات اللغة وتركيباتها وإيقاعاتها وتفاصيلها الشّيقة.
كانت لحظاتٍ عصيبةً وطويلة. ظل يكتب ويكتب، وكأنّ شيطاناً لامرئياً يُملي عليه! وفجأة، يتوقفُ كلّ شيء. لا كلمة واحدة تحضره، وكأنه قد نسيَّ حروفَ الهجاء! ينضح جسده عرَقاً. يحُكّ رأسه ويشُدّ شَعره، دون أن يشعر بشيء من كل ذلك. ثمّ.. كما غابت الكلماتُ دفعةً واحدة، تـُشعّ في ذهنه من جديد، ساحرةً، مُحمَّلة بجميل المعاني والصور. فيعود إلى الكتابة، وقد فقدَ كلَّ شعورٍ له بالمكان والزّمان وأضحى كالقطعة، لا تتجزّأ، ممّا يكتب.
كانت أولى تباشيرِ الصّباح تلوحُ في الأفق عندما فرغ، أخيراً، من قصيدته. رغم ذلك، لم يكن يشعر بتعب أو بأدنى رغبة في النّوم. رتّبَ الأوراقَ التي ضمّت أجزاء القصيدة. تمدّد فوق السرير يُعيد قراءة ما كتب. كانت كلُّ جملة، كلُّ كلمة كأنها نابعة من أغوار نفسه، عميقةً وحزينة. وكانت القصيدة سمفونيةً عذبة من الأوجاع والآلام تروي، في تركيب وأسلوبٍ بديعَيْن، مُعاناتَه في صراعه المحمُوم مع الشّعرة البيضاء، بدايةً، ثمّ مع رُقعة البياض في شَعره، والتي ما فتئتْ، يوماً بعد يوم، تتسعُ وتكبُر. تحدّث، أيضا، عن الكابوس الرّهيب الذي طوّقه في ليلته تلك! لبث يُعيد قراءة قصيدته مرّة تلو الأخرى. وفي كلّ قراءة يكتشف أنها أروعُ ممّا كانت عليه في القراءة السّابقة.
استيقظ من إغفاءة قصيرة إثر حركة في الغرفة، ليطالعه وجهُ أمّه الصّبوح. اقتربت منه تسأله عن أحواله فطمْأنَها بكلمات كلها رقة وامتنان. ثمّ التفت إلى أوراقه المتناثرة، فيما تركت أمّه الغرفة لتُعدّ له وجبة الإفطار. قرأ القصيدة وأحسّ كأنه يولَد من جديد. أجهز على الطعام وأتى عليه في لحظات، وأمه ترنو إليه بفرح ممزوج بدهشة وحيرة. تناول أوراق القصيدة. طبع قبلة على جبينها، وهي تُمطره بسيل من الأدعية، لا ينضب. وفي وقفته الصباحية المعتادة أمام المرآة، صفّف شعرات رأسه البيضاءَ بعناية، وهو يخنق تنهيدة حارة. وقبل أن يستدير ليغادر البيت، لمح طيف شعرةٍ سوداءَ تتربّع، بزَهوٍ، فوق باقي الشعرات البيضاء.. ترك المنزل في خطوات مُسرعة واثقة! لم يكن متأكّدا من عودة السّواد (لون الحياة) إلى شَعره، لكنه اعتبر ذلك بارقةَ أملٍ جديدةً تلوح في الأفق.
لم ينتبه من شروده إلا على صوت توقّف السيارة. أخرج الدراهم الثلاثة ودفعها للسائق. اجتاز المسافة القليلة التي تفصله عن البناية العتيقة وهو يسبح في عوالمَ بعيدة. صعد الدّرجات في همّة وحماس. دلف إلى مكتب الجريدة وقد أحسّ قلبه يقفز بين ضلوعه، وكأنه ينفُض عنه غبارَ الانتكاس والهزيمة، ليخفُق خفقةَ الانعتاق والعطاء، خفقةَ الحياة والأمل...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى