الفرحان بو عزة - راقصة رقصت للسراب..!

... وتغيرت الأحوال بسرعة ، فتراقصت الأيام في وجهها . هزها تيار الماضي العنيف ، فبقيت حائرة كنملة تاهت عن خليتها ..! تبكي .. وماذا غير أن تبكي .. عاشت في متاهة فرح زائف ، وستموت في متاهة بؤس وشقاء ..
عادت مفتاحة إلى مدينتها والضحى يحضن أسوارها . تمضغ لعابها ، تسلي نفسها بصراخ صامت ، تطلب الدفء بعدما أكل الدهر منها ما شاء ..
شبت مفتاحة غصناً طرياً ، وردة فواحة تنشر عطر المحبة بين أفراد الأسرة . حيوية تتجدد مع الأيام .. لجسمها نكهة خاصة ، لحديثها نغمة متميزة . مات الذي كان يرعاها ، وتزوجتْ التي كانت تعصر لها لبنها بسخاء ..
مر الزمان يقص جناح الأيام ، وانكسر غصن الوردة الناعمة .. تقلصت سعة العروق ، وانسحب الدم عن الوجه المليح . امتدت خيوط التجاعيد في معظم الجسم، فرأت وجهاً جديداً بدلته قسوة تقاس بأعوام خلت .. تجمع خلاصة تجارب الزمن الفـاني .. رجعت حقيرة الهيئة ، مبتورة الأصل ، فاقدة النسب...
جمالها هو مصيبتها..! لا تعرف لماذا رفضت الزواج من أقرب الناس إليها ؟
تبكي.. وماذا غير البكاء ؟ من يرجعها إلى الوراء ؟ من يرجع لجسمها ثوب الطراوة المسلوب منها ؟ من يبعد عنها الماضي الرهيب ؟ من يعطي لحمامة الأمس جناحاً جديداً ؟ من يعيد لها أغانيها الهاربة منها ؟
رعد آت على حين غرة ، يلفها بصوته المزعج ، يزمجر في تجاويف الذاكرة دون انقطاع . يهجم على النفس بعنف ، يقرأها من الداخل ، فتنتفض كعصفور بلله القطر الأول . كبر الجوع معها ، يتحسس أمعاءها الفارغة ، يدفعها إلى مراسلة السماء بيديها .. انتحرت اللغة الجميلة على شفتيها ، فهي تحتاج لمن يعلمها الكلمات ، ما عاد في القلب أغـنية ، ما عاد في الجسم مذاق ، سوى دم يتباطأ في تدفقه ومع ذلك يحافظ على الحياة ..
الدنيا صعبة المنال .. تسخر من الإنسان .. تتحامق معه .. تضحكه .. تبكيه .. تفرحه .. والأحمق من يجاريـها بلا عقـل ومنطق . تمتمت دون زفـير، وقالت : بالأمس ، احتقرت بنات جلدتي ، كرهت الجلوس معهن ، يلكن مع الأيام دورة خناقات لا حد لها . مشاكلهن ترتطم بالجدران ، لم يجاهرن بها فـتبقى حبيسة بين البيوت .. كلما عجزن عن مجابهة الحياة بكبرياء ، لجأن إلى العيش تحت رحمة جيوب أزواجهن ، يقعـدن في البيوت ، يرمقن من بعيد ما تحمله أيديهم عند عتبة الباب .
اقتربت من سرير معطوب .. تجلس .. تقف .. تذرع البيت .. تتأمل .. تطل من النافذة ، تمسح بعينيها فراغ الشارع الموحش ، والسيجارة اللعينة تأكل من أصابعها ، لقطات الحياة تمر تباعاً ، بدون ألوان .. بدون نكهة دموع دافئة تنسكب على خديها ، تتعثر في مسيرتها ، وتعرقلها خطوط عميقة من التجاعيد الناتئة ..
فيما مضى، صوتها الرخيم يلعلع في الفضاء ، يرتفع ، ينخفض ، يتـلوى بين جدران القاعة ، يرتطم بأذن البشر كموج هادر يكسر الحجر . كمنجة حمراء تعزف نشيد الحياة ، تمزق ثوب الليالي الخالية... مفتاحة ترقص وتراقص .. وتقول ما رقصت .. جماهير تهــتز من مقاعدها تـلوح بمناديل زرقاء، والأزرق هو سيد الألوان..! عـيطة زعرية تنبعث من خشبة مثخنة بالأنوار.. تموجات الأجساد الفاتنة تدغدغ الأنفاس الهشة وتوقظ لذة اشتهاء لا حد له .. من فوق الخشبة ، ينشد الثغـــر أعذب الأغاني ، أضواء حمراء تغمرها ، ملابس فاخرة تتماوج على جسدها ، خصلات من شعر فاحم تنساب على كـتفيها ...
فجأة أيقظها جواد الزمن بعنف ، شد على جرحها ، وضع عليه باقة من الأحزان . سافرت دموع ساخنة إلى ما لا نهاية .. تسأل نفسها :
ــــ من أنا ؟ من أكون ؟ تجيب على تساؤلها ..
ــــ ما أنا إلا خفاش تائه في وضح النهار .. !ينتظر أن يصطدم صوته بحاجز ليعرف وجهته . أتذوق حياض الموت ، أتـلهى بأحزاني ، أراسل السماء بكل جوارحي بلا أمل ..
مفتاحة دحرجتها الأيام كما تشاء ، تلهث وراء سراب رقراق ، تبحث عن نبع رخيص وهي لا تعي .. تبحث عن ذاتها بين ملفات الحياة .. تفرح ، تحزن ، تتعب ، تشقى ، تمرض ، تشفى .. تحـبو نحو الشهرة فوق واقع تنخره حياة هشة ...
الناس يتقولون : راقصة فارغة ، بدون قلب ، فاشلة ، بدون كرامة .. سخرت من الزمن فسخر منها . باعت صوتها بين الجدران . قتلت جسدها في الرقصات المبتذلة . قايضت بأغانيها ، اقتاتت من لحمها .. على الدوام تشارك الناس أفراحهم ، وهي لم تفرح بولد أتي من صلب رجل يشهد عليه عدول الحي ..
زمن السعادة قصير.. زمن الشقاء طويل ومديد .. توقف شريط الذكريات بغتة . بجانبها مذياع يصدح بأغاني زمان ، يتــــلو كلامه دون انقطاع ، يربط الاتصال بالقلوب ، من جوفه انبعث صوت يلوك الكلام ..
ـــ ساداتي .. سيداتي .. مطربة شعبية أصابها النسـيان .. الفن القديم يقف إجلالا لها .. الفن الجديد ينحني لها .. اليوم نغسل عنها التهميش الذي لحق بها ؛ وننفض عنها غبار الزمن . الحياة سفينة عائمة في الماء لا ترسو على حال .. في كل ثانية ، في كل دقيقة ينسج الزمن أفراحاً وأحزاناً . مطربة عانقت العيطة المرساوية في أوج أيامها ، ترى من تكون ؟ يصمت المذيع ثم ينفجر : مفتاحه الحسناوية ..
صاحت .. لعلعت بأعلى صوتها .. ضباب دم يجري في جسمها بارداً ، سكاكين طويلة تمزق أنفاسها .. رصاص صدئ يثقب صدرها .. هرعت إلى صندوق أغْـــبر ، بداخله صور باهتة ، قلبتها بين يديها ، حدقت فيها ، ذرفت دمعة تـلو أخرى .. إن أول فرحة ما كان يوم الولادة ، وآخر دمعة ما كان يوم الممات ،وأحلى أغـنية ما كان يوم الزفاف ..
بصوت ميت تحدث نفسها : تذكروني بعدما اقتربت من الحفرة المظلمة. الزمن يغير النفوس ، ما عاد نغم يطربني ، ما عاد يشد سمعي ، ضجيج في ضجيج . مغنيات رخيصات ملأن الساحة قبل الأوان ، دخلـن في المزاد العلني دون حياء ، أنا أغني في المذياع ..! لمن أغني ؟ توجوا خربوشة بخربشات أقلامهم ، قاموا وقعدوا لحادة أعكي ، رفعوا رأس الحاجة الحمداوية ، ناحت الأقلام على بنت الحسين .. من أكون أنا ؟
انتفضت كمن مسها قراص المزابل ، فلم تقو على حمل جسمها .. ارتطمت بالجدار ، وبدت عروقها تشد أعلى جسمها بأسفله . استجمعت قوتها وهــوت بعنف على المذياع ، فأخرسته إلى الأبد ..
جلست على حافة السرير، تدلى عنقها بين ركبتيها كما يتدلى عنقود الدوالي ميتاً.. تمنت أن ترقص الأشجار مجاناً للرياح، فتنشر من جديد صوتها عبر الجسور ،عبر الوهاد .. لكن..!
اشتدت ظلمة الليل واكتسحت أركان البيت . أشعة باهتة تتسلل دون حسيس من تحت غمام شفاف ، كلما خرج القمر مودعاً له يتباطأ في سيره ..
تأملت الجهاز فوجدته مهشماً عن آخره .. دقات الساعة تلتهم عمرها ثانية ثانية وهي تنتظر محمود العجوز..! تمتمت وقالت : لا أدري كيف قبلت الزواج مني ؟ رغم أنك تقضي معظم أوقاتك أمام مقود شاحنتك البيضاء ، تطوف مدن البلاد كلها...
تمددت فوق فراش كأنه من شوك صبار يابس . طبول مقعرة تطن في رأسها .. تعانقت عقارب الساعة معلنة نصف الليل ، وتخيلت أن شفاه العالم تتعانق .. تتبادل القـبل .. تتذوق طعم الحياة .. وهي تغرق في نهر بدون ضفاف كحمقاء تخاف أن يعود لها عقلها ، فيفضح أسرارها المختبئة تحت الأصباغ الباهتة...!
نظرت من كوة نافذة صغيرة تتـلصص على أسرار الشارع ، فتمنت أن تدركها الشهقة الأخيرة في الحين . خفق قلبها مع خـفوق الستائر ، لا شيء .. لا أحد .. ؟ سوى كلاب تغرس أنوفها في القمامات ، تبحث عن ما هو فائض عن الشبع ..! بأعين تعْــبى حاولت أن تنظف رأسها من بقايا الذكريات ، من غبار الحاضر العفن ، لكن بدون جدوى.. !
ها أنا .. ولست أنا ..! منحتك دفء جسمي ولم أمنحك قلبي .. تزوجتني وأنت لا تعرف عني شيئاً ..؟ لماذا لم تستقر على زواج ..؟ ماذا تخفي عني يا عمي محمود ..؟
جمعت أغراضها في الحين ، أغلقت باب المنزل بالمفتاح ، تأكدت من إغلاقه .. خرجت ودموعها تنبجس من عينيها في صمت .. عانقت الشارع الطويل لتشتبك مع الأيام من جديد ..
* خربوشة ، حادة أعكي ، الحاجة الحمداوية ، بنت الحسين .. مغنيات مغربيات مشهورات في الغناء الشعبي ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى