إدريس الهراس - إلى روح ذات الوشم..

المستقبل و الماضي متماثلان ، كما لعبة الشطرنج التي قيل عنها إنها تشبه الحياة ! ثم قيل عنها إنها الحياة بعينها !! السفر في ردهات الزمن مشاكسة ، و الحلم به عناد ، و المشاكسة و العناد أول خطوة في الوجود !! القمر و أفنان النعنع و زهر الرمان رفاق السفر في الذاكرة .. بين الحب و الكراهية خطوة واحدة ، لماذا يحب الإنسان ؟! و أية لعنة تحل به ليسمح لقلبه بعناق نظرات ، يعرف أنها سترحل وتتوارى إلى غير رجعة ؟! و يحترق الدم في العروق احتراق الحامض تحت شحنات الكهرباء ، الألم رائحة الاحتراق و الوشل رماده . لماذا إذن يتهم بالجبن من يمتنع عن ركوب شراعه ؟!
الآن فقط استساغ سر نحيب جدته يرحمها الله ، و عمره لم يتجاوز وقتها ربيعه الخامس ، وحتى بعد ذلك بسنوات ، كانت المسكينة تشغل قيلولتها سفرا عبر خيوط المنوال ، تستحضر زمنا بوجوهه و نعيمه ، ،ما خطر ببال قط أنه سيؤول إلى أطلال تطمر قلوبا رحلت ، و أخرى في الطريق ، أو على الأصح حاضرة غائبة ... مات جده منذ أكثر من أربعة عقود و لم تنسه ، بل و غير مستعدة لأن تنساه ، بالرغم من أنها كان بوسعها الزواج من خيرة رجال البلدة ، شأن غيرها ، فلم يكن يعوزها الجمال و لا المال ، ذلك أنه رحل عنها و هي في منتصف عقدها الثالث . أي حب هذا ؟ و أي قلب كبير تحمل بين جوانبها النحيلة ؟!
في سكون القيظ كثيرا ما كان يصل إلى مسمعه في الساحة أمام الدار ، تحت أشجار التوت و التين و الجوز المحفوفة بالورد البلدي ، أشباه مواويل شجية متقطعة ، غبر مفهومة الكلمات ، لكنها تقشعر لها نفسه ، و لطالما كانت تنتهي بإجهاش يقطع دواخله ! أحيانا يختفي وراء الباب الخشبية الكبيرة ، و يبكي لبكائها دون أن يعرف السبب ، و لا يملك الجرأة على استفسارها عن الأمر . و أحيانا أخرى يتوجه إليها مهزوم الفؤاد ، و العبرات الساخنة تبلل وجنتيه الصغيرتين ، و غصة حزن دفين يجهل حقيقته تخنق أنفاسه ، يعانقها و تضمه إلى صدرها النحيل بقوة و حنان ، و هي تخفي دموعها متظاهرة بأنها لا تبكي !.. حتى أواخر عمرها الذي شارف على المائة ظلت تحكي له عن شجاعة جده ، و عفته و وفائه ، و رحيله المفاجئ ، و والده في سن الحبو .. تحافظ على كل ما خلفه ، من أدوات الحراثة إلى جرار الزيت .. في العديد من المرات تخرج من صندوق خشبي عمامة حريرية صفراء ، و جبة ناصعة البياض ، و خنجرا و كأسين من البلار ، و تمرر يديها المزينتين بالوشم عليها في حنو و لوعة . و يحدث أن تكلمها مثلما لو كانت حية ! ثم تلفها و تعيدها في رفق إلى مخبئها . و يحدث أيضا أن يدخل على حين غرة و هي تكلم أحدا و تضحك ، و لا أحد سواها في المكان !! لقد عاشت و إياه عشر سنوات ، و ظلت بعد رحيله وفية لحبه ما يربو على السبعين عاما !!
... المستقبل و الماضي مد و جزر على ساحل الحياة ، يلتقيان ليبتعدا ، و يبتعدان ليلتقيا ، ينتهيان كزهرة شلها الذيول و لم يعد سقيها مجديا ، فتعبث بأوراقها رياح الزمن . و يبقى الحب وحده أنشودة الرذاذ في حمرة الشفق ، شفق الذاكرة .. فبين الحب و الكراهية خطوة واحدة لا أكثر!
رعد في الأعالي يقصف ****** و جوانح بجذوته تكتوي


إدريس الهراس / الفقيه بن صالح .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى