نصرالدين السويلمي - التهمة... عامل يومي !!!

الألم يسابق الحيرة

إلى مدينة عائمة فوق برك من الفقر نزحت عائلة الطيّب لتشكل لبنة لأحزمة مهترئة متداعية على مدينة آيلة للسقوط تستمد مدنيتها من كتل الإسمنت والتراب المتزاحم على شوارعها البائسة. تركت العائلة القرية بعد أن استعجلت بناء ما يشبه الغرفتين ولم تترقب الماء ولا الكهرباء ولا هي اقتنت نوافذ للفتحات التي سدّتها الأم ببقايا أغطية رثة لا تقيهم البرد و الحرّ مهمتها الوحيدة سترهم من أعين المارة. كان الاستعجال نتيجة خوف الوالد على زوجته وأبنائه الستة الذين لم يتمّ كبيرهم سن الثانية عشرة فقد بلغ المرض برب الأسرة مبلغاً خطيراً أحسّ معه بالموت يطلبه حثيثاً. لم يمرّ الشهر الأول على إقامتهم الجديدة حتى توفي الطيّب مخلفا وراءه خمس بنات وولد وأم أنهكها المرض وانقضى شبابها بين مناشر الحلفاء والحصيدة واستسلم ظهرها للإعياء، أضنتها قِرَب الماء وأتعبتها آباره البعيدة ..اختفت أنوثتها خلف تلال من الشقاء وأما نعومة النساء فلم تفقدها هذا لأنها لم تكتسبها أصلاً، كانت قد اندثرت منذ صباها بين شظف العيش وجدب الأرض والاحتطاب من الجبل ، تعيش على جرعة هائلة من الصبر وبريق حلم تستمده من صبايا وولد. في خضم الرضاء المرّ فقدت العائلة معيلها وأمعنت حياتها في الإرتباك ، ممّا أجبر الأم على أن تنهض من بين مخالب المرض تهشه عنها تصرخ فيه إليك عني إن لم أكنها فمن لهذه الأفواه يلقمها وهذه الأبدان يكسوها...حاولت أن تضرب في الأرض تطرق أبواب الرزق لكن السقم أقعدها لقد عشش في مجمل بدنها الهزيل الذي أثخنته السنون..استسلمت أخيراً ..أخذ ابنها عثمان المشعل وانطلق ،يحاول ...سعى جاهداً للتوفيق بين دراسته وبيع الماء في الأسواق.. لم يكن هذا مجدياً ،حاول بعدها جلب التين الشوكي "الهندي" من القرى وبيعه في المدينة ثم أصبح أجيراً يملأ الجرّارات بالرمال ...رغم صغر سنه عدد محاولاته ،ثم انتهى أخيراً إلى أن الدراهم المعدودات لا تسدّ رمق خمس بنات وأمهنّ... انطوى وحيداً تحت جدار المسجد أفرغ ما أمكنه من دموع حارّة تكاد تخرق ثيابه البالية إذ انحدرت عليها، اتكأ على آخر كلمات سمعها من أبيه وهو على فراش الموت " كُونْ راجلْ ولْدي ورُدّْ بَالكْ على أخواتك وأمك". نهض يدبّ نحو مدرسته، و..هناك ألقى الخبر الصاعق على معلمه ومدير المدرسة فقد كان عثمان من الأوائل وفي سنته السادسة ابتدائي على بعد أشهر من الثانوية.

همة عالية

انطوت صفحة الدراسة وتصدى عثمان إلى مهام الأسرة في سنّ الثالثة عشرة ومضى يطلب سوق الرزق بهمة..طرق كل أبواب العمل الشريف..التجارة ..الميكانيك ...حفر الآبار ...خمّاس...حتى انتهى به المطاف إلى بنّاء . عاشت البنات الخمس في حضن الأخ الأب لم يتخلف عنهن بشيء لبى كل طلباتهنّ ولو بالاقتراض ، وفي مرحلة دراستهن الثانوية والجامعية اضطر إلى العمل حارسا ليليا إلى جانب عمله اليومي ليوفرطلبات العائلة المتكاثرة. مع الأيام تتابعت الأفراح على هذا البيت المكافح بعد أفراح النجاحات حلتّ أفرح الزفاف .الأخت الكبرى إثر تخرجها من الجامعة زفت إلى زميلها، هي أستاذة للغة الفرنسية وهو أستاذ للانجليزية، والأخ راض يسعى جاهدا إلى إسعاد كبرى" بناته"، تتابعت الزيجات وانسحب الزمن في غفلة العمل المضني والأمل المرجو...كبرت كبرى البنات وزفت وكبرت الوسطيات وتزوجن ، وجاء دور الصغرى وهاهي تزف ...تصرّ الصغيرة على أخذ صورة مع أخيها ..يغلبه الحياء .. لقد أخذه العمل وانغمس فيه حتى أنه صرفه عن لذة الحرام...هو أيضا لم يجد للذة الحلال الوقت والباءة ...تردده جعل أخته تجذبه إليها برفق .. لما استقام محاذياً لها لاحت صورته في المرآة المقابلة، بدت صغيرته رائعة في فستان عرسها عائمة في هذا البياض الزاهي ..انتبه فجأة إلى بياض في ناظريه..أيكون أصابه فستان العروس بشيء من لونه.؟..حاول إزاحته بيده ...حاول مرة أخرى... اقترب أكثر..فستان أخته بريء ..فأي نذير هذا !!! إنه بياض الشيب لاح اليوم بعد أن أمهله حتى رحل آخر العنقود وبعد أن نَمَّى ارث أبيه وأهَّله إلى حياة كريمة وأخلى مسؤوليته من أمانة ثقيلة قبل رحيلها إلى بيت الزوجية أسرّت الصغرى إلى أمها أن أخيها يرغب في الزواج من جارتهم و حدثتها عن حبيبة وكيف تعلقت بعثمان عندما كان يقوم ببعض التحديثات في بيتهم ويبني غرفة صغيرة"بيت الصابون" فوق سطح منزلهم . نزلت الأم بكل ثقلها لتضغط على ابنها حتى تكتمل فرحتها ويأخذ نفساً بعد هذا الجهد المار اطوني...طلب عثمان مهلة ثلاثة أشهر قبلتها الأم على مضض فهي تسعون يوماً وتسعون ليلة مائة وثمانون حاجزا أمام اليوم الموعود، انغمس عثمان في العمل أكثر فأكثر حتى يتمكن من سداد بقية ديون زواج أخته ومن ثمّ توفير ما أمكن ليومه السعيد .أما الأم فقد كثفت الزيارات إلى بيت الجيران وتكونت بين البيتين جسور من صحون الأطعمة المثقلة باللحم ومثلها من الغلال وأشياء أخرى رمزها يسبق قيمتها .

خيبة أمل

تيقنت أم حبيبة من الأمر تلميحاً غير أنها أصرت أن تنتزعه من ابنتها تصريحا ...هاجت الأم وماجت بعد أن اطلعت على التفاصيل..."عثمان البَنَايْ!!! آه شُومِي ...وَاشْ تقول علينا الناس نَاسْبًُوا واحد دَبْشُو معَبِي بالخَلْطَة ورَاسه معشش فيه السيمان رأس مَالُو بُرويْطَة وبَالة..حتى السيزيام ما عندوش!!!!وإنت كيفاش قبلتي هَالبَكْمَة راسو ما يهزوش من القُرطْ...ابن خالتك في ايطاليا قافز وشاريك أكمل فيلته الفاخرة في حي البساتين وكل صيف يأتي بسيارة جديدة". أسابيع من الهرج والتوتر بين الأم وابنتها وحبيبة صابرة لم تستعصي ولم تستسلم. بعد مدة زمنية استسلمت الأم استسلام الثعالب فقد اشترطت مهراً تعجيزياً وكمية خيالية من الذهب. استقبل عثمان ردود الفعل هذه بمرارة وبدأ يميل إلى الاستسلام لكن أمه قبلت التحدي وانطلقت في البحث عن المبلغ المطلوب وقالت لعثمان "هذا موعد أخواتك سيقفن معك اليوم مثلما وقفت معهنّ عمرك بأكمله ،كل المبلغ خمسة عشر ألف د ينار سأحضره خلال أيام" وذهبت تطوف على بناتها، ثلاث منتشرات في مدن البلاد واثنتان في الخليج، بين وعود بنتي الخليج وبقية البنات لم يتجاوز المحصول الافتراضي الألف دينارا. كبر طموح بناتها وأصبحن يتطلعن إلى المشاريع الثقيلة كما أصبح المليم بحسابه ، الكبرى التي جاب بها مستشفيات الجمهورية وباع من أجلها دراجته النارية عندما كانت تعاني أزمة في جهازها التنفسي لازمتها طويلا اليوم تقول لأمها "سِيدِي عُثمان بَاهِي يسْتَاهِل كل خِير لكن الفلوس اللي عندنا أنا وراجلي حطيناهم الكل في المدرسة الحرّة إللي فتحناها جديدة"،أما الصغيرة التي كانت تنام في حضنه في أيام الشتاء الباردة يشدّها إليه ويغمرها ببرنسه ردت على أمها "أنت تعرفي الدنيا ولت غالية تكوي هاهوم 200 دينار وكان ما قدرش يردهم السماح". عادت الأم منكسرة غائرة العينين كأنها تنذر بالمغيب، أشفق عثمان عليها عندما أطلت واجمة... فهم الأمر الذي كان يفهمه أصلاً فهنّ تخرجن من بين يديه ، سارع إلى بعض المزح ثم قال لها "احضري لنا كأس شاي سأذهب لشراء دجاجة نطبخ بها كسكسى آكله من يديك الملاح".

المنعرج

قضى ليلته يجبر كسر أمه ويثبت قرار كان لابد منه منذ أمد طويل..نعم لقد قرر أن يركب البحر ويمتطي قوارب الموت لعله يأخذ من الساحل الآخر فقد عاش حياته على هذا الساحل يعطي فحسب ، هو يرغب أن يجرب الأخذ لقد هدّه العطاء ولم يأخذ حتى ممن رَبَى لحمهنّ من عرقه. أرسل إلى حبيبة يخبرها بقراره وطلب منها أن تنتظره وأن تخلفه في أمه خيراً، هذه الأم التي فشل في إقناعها وفشلت في إثنائه... لقد حاولت كثيراً مع أم حبيبة وترجتها أن توافق فهذا ابنها الوحيد وعينها التي تطلّ بها على الدنيا لكنها صدتها باستهزاء وقالت "يا أُخْتِي وهو الواحد مَاوْ يهِزّ لقمة على قدر فمُو علاش لِعْنَادْ". تجهم البيت في الأسبوع الذي سبق الرحيل وسكنه الصمت الموحش رغم محاولات عثمان لإنعاشه إلا أن بقايا أمه غوّر الخبر أفراحها واحتوى اليأس روحها فسدّ منافذ الأمل. أحضر عثمان حقيبته وجهز نفسه للرحيل لكنه يدور في البيت يتظاهر بالبحث عن شيء..ولا شيء!!! غير أنه يستجدي لسانه ليجود عليه بكلمات الوداع يلقيها في وجه أمه ويفر يبحث عن قوة خارقة تسحب إحدى قدميه خارج عتبة البيت...وقف أمام "المنسج"وألقى حقيبته لترتطم بالأرض حتى يثير انتباه أمه ...آه يا عثمان هل يغيب انتباه الأم عن أبنائها حتى تنتبه!! فما بالك بالذي هو بكرها!!! توقفت الأم عن دسّ غزلها بين الخيوط والتجأت إلى الخلالة تقرع بها المنسج قرعاّ هي الآن لا تسدّ خلل غزلها ،هي الآن تدفع لحظة الفراق عن عرينها ...برهة سكتت فيها الأم والابن والأشياء... أدخلت الوسطى والسبابة في منسجها وفرقت بين الخيوط المتقاربة لتحدث فجوة رمقت من خلالها ابنها وقالت له: "هذا آخر كلامك" ،قال الابن "يمه بجاه ربي سهليها خليني نتوكل". أثرت فيها الكلمة وقفت مسرعة،خانتها السنون تعثرت ،فارتطم وجهها "بالسداية" دست ألمها تحت ركبتها ونهضت هذا ليس وقت أوجاع البدن هذا يوم لأوجاع القلوب،ارتمت عليه تعصر وتقبل وتشمّ ،من يلوم ؟إنها أمّ تودع بكرها ورفيق دربها...أبعدته عنها برفق ثم دفعت به خارج البيت..أشارت بأصبعها إلى منسجها وقالت له " ما تحبسش ياسر القشابية تستنى فيك تو أنحيها ونخمل هالك حت ترجع"...وما لبث أن ذهب... ...

رحلة إلى المجهول

في ليلة العبور تجمعت المجموعة في بيت مهجور قرب الشاطئ الصخري بعد أن اخبرهم صاحب القارب أن العبور سيتم من هذا المكان ،لكن عند الساعة الثانية صباحا أخذهم إلى مكان آخر حيث وجدوا قارباً لا يوحي شكله بقوته على تحمل مثل هذه المهام إلا أن صاحبه أدرى به .أخذوا أماكنهم متزاحمين، الأعصاب مشدودة والكل مرتاب من الكل ومن المكان والزمان والريبة الأكبر من المركب وصاحبه ، مع التوغل في عرض البحربدأت المجموعة تألف بعضها وشريحة المهاجرين آخذة في الانكشاف . ثلاثة مغاربة من أصحاب الشهادات المعطلين خريجوا جامعة ابن طفيل بالقنيطرة دفعة سبع سنوات مضت عجاف كسنين العزيز يرقبون أمل لا يربو إنما آخذ في الأفول ، في المركب أيضا جزائري كانت قد رحلته السلطات الفرنسية بعد شجار مع زوجته ويبدو أنه أراد أن يتمرد على سلطتها دون أن يتم "سنوات العبودية الثلاث" ويمارس عليها شيئا من الشرف وصاعا من النخوة يحفظ به العرض، هو أيضا خانته الذاكرة فنسي أنها ابنة فرنسا وأنه ابن مستعمراتها حتى إشعار آخر. في مقدمة المركب انتصب شاب مفتول العضلات في وجهه آثار جروح يبدو أنه صاحب سوابق وفي زنده الأيمن وشمّ يتمثل في سهم يخترق قلبا متبوع بقطرات من الدم رسم مشوش وخطوط مضطربة يبدو أن الرسام نفسه حين رسمه كان في حالة سكر واضح في آخر قطرات الدم كتب حرف سـين باللاتينية الله ثم هو اعلم بمغزاه ، على يمين صاحب المركب يجلس رجل في الأربعينيات تبدو عليه علامات الترف أبيض مشرب بحمرة سأله البحار "هل معك دواء للدوران يا دكتور" انتفض صاحب السوابق "دكتور معنا في الفلوكة ؟؟؟خلينا ليكم البرّ لحقتونا في البحر آخي ما تشبعوش ما يعبي كروشكم كان التراب" اقترب منه رجل شاحب الوجه له شارب على هيئة هتلر ملامحه تقطر انتهازية وهمس إليه "أعطيه صب هالو ...يا بلقاسم .." جذبه من قفاه وقال له" تِسْتَنَى كان في خلاَهَا إبْعد خِير ما نصُبْ هَالِكْ أنت .." تكلم الطبيب فقال :" نحن هنا كلنا أخوة عائلة واحدة وهذا المركب بيتنا ربي يوصلكم بالسلامة وترجعوا إلى أهلكم غانمين سالمين ..صفوا قلوبكم الله يبارك فيكم ثم قال :"قال اركبوا فيها بسم الله مجراها و مرساها إن ربي لغفورٌ رحيم"..التفت بلقاسم إلى صديق له وقال "كلامو يذكرني بالعياشي جارنا كان يقري في أولاد الحومة بلاش ..ملي هزوه ما ظهر عليه حتى خبر تو عندو عام ...الحومة الكل قالوا راه من الجماعة ليقعدوا ياسر في الجوامع"..ثم التفت إلى الطبيب وقال: " بربي أنت تصلي "، قال الطبيب "اللهم تقبل" رد بالقاسم "آها تو عرفت وأنا نقول دكتور في فلوكة ، الله يهلك الظلام وأولاد الحرام..." تكلم صاحب شوارب هتلر مخاطباً البحار"تعرف إللي هذا مشكوك فيه وممنوع تهزو معاك" ،رد صاحب القارب"مالا أنت في السليم تو عندك فيزا وطبعولك في البسبور وقصيت تذكرتك"، قال الانتهازي "راك تلعب بالنار إنت عارف هذا شكون جماعتو راهم مجرمين .."، حينها انتفض بلقاسم صاحب السوابق وقال "جماعتو نعرفهم كانوا معايا في السِيلُونْ نعرفهم ونعرف شهامتهم كيما نعرف خوك في الملاسين شنو يعمل ونعرفك أنت شنو تخدم في هاك الزنقة لتتفرع من نهج زرقون ...تسكت وإلا نزيد؟؟؟"

حتى البحر يرفض المساعدة!!!

بعد عدة ساعات من المسير ،الأمواج تحولت من ملامسة المركب إلى المداعبة الخشنة والرياح لا يبدو هبوبها لذاتها إنما لغيرها هي نذير عواصف . دون مقدمات وفي وقت قصير وجدت الجموع نفسها تصارع الأمواج والقارب قشة هائمة في عالم الماء والموت يطفو برأسه من كل صوب والمشهد بعد أن كان مرحاً مفعما بالكوميديا انقلب إلى درامية مؤلمة، اثنان من المغاربة كانا اقترضا من أجل العبور يوصي كلاهما الآخر"من كتب الله له النجاة يتكفل بسداد دين صاحبه" ، وهذا رجل في الخمسين من عمره فقد وظيفته بعد عشرين سنة شغل بحكم التفويت في المؤسسة للقطاع الخاص ركب البحر ليسترزق من غير بلاده أوصى إذا مات أن يتبرع له ببعض المصاحف توضع باسمه في إحدى المساجد ، في الجانب الأيمن للقارب الطبيب متدل فاقد السيطرة على أطرافه يمسكه صاحب السوابق... لقد شكلت ذراع بلقاسم الضخمة جسرا يربط بينه وبين الحياة والموج يواظب على لطم زند بلقاسم يحاول إحداث شروخ في القلب الموشوم ويتطلع إلى طمس حرف السين والوشم ثابت معاند يأبى التخلي عن بلقاسم في محنته ...هذا بلقاسم ونظرائه غطى الظلم والقهر والفقر محاسنهم فبدوا غلاظا... يحتاجون إلى شيء من العدل ومجتمع يربي لا يعاقب...الدكتور يكرر: { اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت ربّ المستضعفين وأنت ربي اللهم إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ،أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحلّ عليّ غضبك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك } ...صمت الدكتور برهة ثم همس بكلمات "انت الخليفة في الاهل والولد...أنت الخليفة في الاهل والولد... وبلقاسم يقول له، "هاك عندي ما تخافش نموتو الزوز وإلا نحيو الزوز إن شاء الله..." بعد برهة التيّار يسحب الجسم الضعيف فينسحب خلفه الجسم الخشن يعاند المحيط من أجل لحظة وفاء...غريب أمر صاحب السوابق!!! استسلم جسمه الثقيل إلى الموت ولم تستسلم يده إلى الفراق... لوحة عظيمة ترسم وحدة عجيبة بين" منحرف " ومثقف جلادهم واحد... النخبة تتحالف مع "المنحرفين" ضدّ الظلم وضدّ القهر وضدّ الموت... وقدرة الله فوق الجميع. عثمان مستمسك بالزاوية يصارع الخوف أكثر مما يصارع البحر... عثمان يريد أن يعيش.. عثمان يريد أن يعود إلى بلده محملا بالهدايا وبمهر حبيبة...عثمان يريد أن يستمع إلى زغاريد أمه لا يريدها زغرودة خافتة هزيلة يريدها زغرودة قوية تزلزل أركان المدينة الحزينة يريد من أمه أن تنفث من خلال هذه الزغرودة أساها وفقرها وألمها وغربتها وترملها وحزنها يريد أن تلفظ أمه ما في عمقها من علقم...عثمان يريد أن يتزوج.. عثمان يريد أن يمسّ أنثاه في الحلال يأكل من يديها ويسكن إليها بقية أيام عمره... عثمان يريد أن يرى وليده ويقص سرّته ولقد أقسم أن لن يحمل غطاءه ويذهب إلى الغرفة الأخرى عندما يصرخ الصبي بل سيساعد حبيبة ويسهر معها وسيدلك بطنه لعلها غازات وتذهب سريعا ..عثمان يحب أن يختن ابنه ويلبسه جبة ويركبه على فرس ويأتي له بالطبّال... عثمان لا يريد أموالا... عثمان لم يعد يريد الغرب .. عثمان يريد أن يهدأ البحر كي يعود .. عثمان يريد أن يكمل عمله كبنّاء في بلده.. عثمان يريد أن يرى أمه ويرى حبيبة ويدها مخضّبة بالحناء...عثمان لم يعد يطلب شيئاً من الدنيا غير الستر... عثمان يريد أن يعيش مع حبيبة ولو في كوخ مهجور...عثمان تخور قواه ويسقط في الماء فيتلقفه الموت.... يخترق الطبقات ... يهوي عثمان بسرعة قياسية إلى القاع.. عثمان لم يرتح في بلده فطلب الراحة في غيره فلم يدركها ،والآن هو يسرع إلى العمق ليرتاح هناك. جسد أثقلته المتاعب لكنه عما قليل سيتخفف منها لأنها ستتحلل في الماء ويحرقها ملح البحر.

مشاهد يتيمة

جريدة وطنية تكرمت بنشر الخبر في ركن المتفرقات "العثور على جثث في سواحل صقلية يبدو أنها لمهاجرين غير شرعيين قتلوا نتيجة تجاربهم المتهورة"..فوق هذا الخبر خبر آخر ملاكم مشهور يبيع قفازه بمبلغ قدره مائة ألف دولار أما تحته فخبر يقول الممثلة الصاعدة شاهيناز تشعر بالسعادة إثر القيام بعملية التجميل الثالثة على أنفها. بعد رحيل عثمان لم تلبث الأم طويلا حتى لبت نداء ربها أما حبيبة فمجمل وقتها تقضيه أمام النافذة تترقب..لا أحد يعرف ماذا تترقب ولا هي أصلاً تعرف...لكنها تعودت أن تقفل النافذة وتنسحب من أمامها عندما يأتي المطر رغم أنها كانت تحبه وتتعرض إلى رذاذه بلهفة كبيرة إلا أنها أصبحت منذ عام تتجنبه... عندما تكون أمام شباك بيتهم وتهطل الأمطار تستدير بوجهها وتعطي ظهرها إلى النافذة ...حبيبة في خصام مع الماء!!!


نصرالدين السويلمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى