نبيل قديش - عودة فريديرك نيتشة

همست الشّابة في أذن صديقتها، التي أسندت جذعها إلي جذع شجرة السّرو العظيمة. حملقت الأخرى في الكهل الجالس على المقعد الإسمنتيّ تحت ظلّ الشجرة الوارف. ردّت بنفس نبرة الصّوت:
- مجنون؟ أتعتقدين ذلك فعلا؟ أنظري كيف يجول بعينيه في المكان. إنه ثاقب النظر، وواثق من نفسه تماما.
- والشّارب؟ تأمّليه جيّدا. إنّه أكبر شارب رأيته في حياتي!
- معك حق، إنه يشبه مكنسة عظيمة!
- لا يربّي مثل هذا الشارب سوى المجاذيب...
- لا أظنه مجنونا، راقبي كيف أشعل سيجارة في هدوء ورويّة..
- أمره غريب حقّا!
- ما رأيك أن نذهب ونجالسه على المقعد، إنّه يتسع لثلاثتنا.
- هل جننت؟ ماذا لو كان بالفعل مجنونا وسحب مدية من طيّات ثيابه؟
- لكنّه وسيم وهذا الشّارب يزيده جاذبيّة وألقا...
رمقتها بنظرة تفيض شبقا. قالت أنها ستقترب منه، ولن تعبأ بما سيندّ عنه، غير أنّ صديقتها جذبتها من ياقة قميصها، ووشوشت تقول:
- انتظري قليلا أيتها الحمقاء، ستفسدين كل شيء...
اختبأتا وراء جذع الشجرة، لأنّ الجالس الوحيد، تململ فوق المقعد. انتبه إلى هسيس الأعشاب اليابسة وهي تسحق تحت أقدامهما. مسح ببصره المكان بحركة دائرية مقتضبة، ثم عاد إلى سباته بعد أن تبددّ شكّه في وجود غرباء يتلصّصون عليه وعلى شاربه. كتمت الفتاتان أنفاسهما، سحبت إحداهما هاتفها الجوّال وشغّلت الكاميرا ومدّت يدها من خلال الأغصان في زاوية ضيّقة وبدأت تصوّر فيديو. قالت وهي تعلّق عليه ساخرة:
- الرابع عشر من يناير سنة ألفين وخمسين، نيتشه يهبط في حديقة البلفدير في العاصمة !
ندّت عن الأخرى ضحكة مباغتة، حاولت كبتها، لكنها انفلتت بالرّغم عنها في شكل غمغمة. انتبه غريب الأطوار مرّة أخرى. وثق من وجود رفقة هذه المرّة. بقي أن يتعرّف على هويتّها. أمل أن يكون جنسا لطيفا وإلاّ ما جدوى كل هذا الجلوس والانتظار الطويل. فزع من فكرة أن يكونوا صبيانا رعناء فلسوف ينكّلون به كالعادة. انتصب واقفا بقامته الفارعة. أشرأب نحو مصدر الحشرجة. أهالت صاحبة الجوّال اليد الحرّة على فمها كاتمة شهقة، وكذلك فعلت الأخرى. راقبتا كيف استوي الشارب مع استواء قامة صاحبه. اتضح طوله الآن بعد أن تخلّص من تموّجات وانحناءات وضعيّة الجلوس. كان شاربا عظيما بالفعل، شاربا فذّا... توارتا تماما، بقيت اليد وحيدة تطلّ بكاميرا الهاتف الجوال وتصوّر الرّجل الشارب. راقبتاه في شاشة الجوّال. كان هو يدير رأسه كروبوت، يطيل النظر بين الأغصان وفي الفجوات في دغل الأشجار الكثيف. توقّف رأسه عن الدوران فجأة وحدّق ناحيتهما. رأتاه يبتسم لهما في الشّاشة. زادتا التصاقا يبعضهما وبجذع الشّجرة، حتى أصبحتا كتلة واحدة.
قالت إحداهما إلى الأخرى:
- إنه ينظر إلينا، أشعر بالخوف، لكنه وسيم وهذا الشارب يروقني جدّا..
- يروقني أنا أيضا..وشوشت الممسكة بالكاميرا.
- هل نذهب إليه؟
- إخفضي صوتك، أخشى أنّه اكتشف مكاننا !
- هل نطلق ساقينا للريح ونهرب؟
- لا لا تمهّلي. أنظري إنه يجلس من جديد...
تنفّستا الصعداء، ارتخت عضلاتهما بعد أن شدّتا شدّا عظيما. أما هو فقد فكّ الزرّ الأوسط من معطفه الأسود الطويل وعاد ليجلس. راح يمسح على شاربه من منبته في اتجاه نهاياته وهو يرمقه في افتتان. حين شارف على آخره، ندّ عن الشّارب صوت أشبه بخشخشة حزمة من العلف اليابس أو كومة من الحطب المعدّ لإشعال نار. تبع ذلك صوت علبة صفيح وآخر أجود لعلبة مربىّ فارغة. انحني الجالس باحثا عن مصدر تلك الأصوات، ولكم دهشت الفتاتان حين استخرج بأصابعه الطويلة النحيلة قمامة كان يكنسها في سيره فوق الأرصفة التي راكمت كل أنواع القرف. وحين جلس كان كلّ ما كنسه أمامه قد علق بين شاربه وقاعدة الكرسيّ الإسمنتيّ. نظرت إحداهما إلى الأخرى نظرة فزع وقالت:
- أنظري إنه يجمع القمامة، ألم أقل لك أنّه مجنون بائس وجامع قمامة.
- ولماذا لا يكون عامل نظافة؟
- عامل نظافة؟ أتعنين ما تقولين؟
- نعم...
- كفّي عن هذا الهراء !
- ولما لا؟ لقد سمعت أن البلديّات تعمد هذه الأيام إلى استخدام الشوارب واللحى الكثّة بدلا من المكانس. وهي إذاك تصيب هدفين، تزيل الوسخ من الوجوه ومن شوارع المدن.
- حقاّ أنت مجنونة، أنصحك أن لا تردّدي ذلك في حرم الجامعة، ربما تقتلين.
- آه لو يعلم نيتشه ماذا حلّ بشاربه الذي أطلقه لسنين!
- لو عاش نيتشه في عصرنا هذا لما أطلق شاربه. كان سيحلقه كل يوم
- ولماذا كل هذا اليقين؟
- كان سيصيبه القرف من اللحى والشوارب الطويلة مثلما أصابني!
- دعنا من ذلك، قولي ماذا نحن فاعلتان الآن؟
- هاك الخطّة، ستلفّين أنت من تلك الجهة، -وهي تشير إلى فجوة بين أغصان الأشجار والأغصان- وتمرّين أمامه، في مرمى بصره ونرى ردّة فعله.
- رائع، ولماذا لا تقومين أنت بذلك؟
- أنت لك ردفان جميلان، ربما استحثّه ذلك على القيام بردّة فعل على نحو ما
- أنت لست سوى قحبة شاذّة !
ضحكتا بالرغم عنهما. نسيتا أن نيتشه كان يرنو ناحيتهما. أصبحتا هدفه المعلن للتوّ. ابتسم ابتسامة خفيفة غير مرئيّة، كشف عنها تمطّط وجنتيه. كان من المستحيل رؤية شفتيه من تحت ذلك الشارب الستار. فهم أنّ الأمر يتعلّق بفتاتين عابثتين. قرّر أن يعبث معها. لمعت في رأسه فكرة لكنه استطاب مزيدا من اللّهو. فكّر في منحهما وقتا ممتعا قبل الزّحف نحو وجهته. مازال هناك متسع من الوقت لصيد ثمين. ولربمّا استعاض عن ذلك المشوار المضني وهدر المال في الماخور، بهبة من السّماء. منّى نفسه بمضاجعة رائقة مع إحداهن تحت أكمة، ولما لا مع كلتاهما، سيكون ذلك غاية ما يتمنّاه.
- لا لا إنها مجازفة غير محمودة العواقب. اسمعي لديّ فكرة رائعة. ما رأيك أن
نقذفه ببعض الطّوب؟ قالت صاحبة المؤخّرة الرّجراجة.
- هل جننت؟ ألا تعرفين أن المجانين يستثارون حينما يقذفون بالطّوب؟
- قلت لك ألف مرّة أنّه رجل سويّ. تأمّليه جيّدا.. تأمّلي المعطف الأسود المخمليّ، وتسريحة الشعر، والحذاء، إنّه يلمع وجديد. تأمّلي صدغيه القويّين الذكوريّين............ااااااااااااااااااااااااه.
- يالهذا الصباح الاستثنائي! يالعطاء السّماء! يالسخاء الأقدار! ياللسّماء المحتشدة باللّذة!
- ماذا ؟
- أنظري..
حدّقتا في نيتشه العظيم. كان قد ألقى بهامته مسترخيا على ظهر المقعد الحجريّ، وطرفي معطفيه المخمليّ الأسود قد تهدّلا على جانبيه. وكانت عيناه مرتخيتين نصف مغمضتين، وساقاه منفرجتين كضلعي فرجار كبير، بينما كان يعالج بيمناه سارية رومانية نبتت بين فخذيه. حدّق نحوهما في خدر، وشعر ذلك الشارب أصبح نافرا كشوك قنفد. كان يقضم شفتيه ويتأوّه من لذّة كان يشكّل معالمها رويدا رويدا. كانت مفاجأة بالنسبة لهما لكن ذلك لم يمنع ألقا أشعّ في عيونهما وشعور ينمّ عن ارتخاء عذب وخدر. صمتت الفتاتان كليّا، وتسمّرتا كتمثالين من المرمر وانفصلتا عن بعضهما البعض، وزادت كل واحدة التصاقها الفردي والحميميّ بجذع الشجرة وكأن مداعبة نيتشة لعضوه الكبير المنتعض قد أعاد تشكيل عالم كلتيهما المنفرد. انتشلهم المشهد من ذهول ورما بهما إلى ذهول آخر. واصل نيتشه مداعبة أيره الذي انتفخ واحمرّ وعكس لمعانا مشعاّ أشبه بصهد نار مشتعلة. ندّت عن صاحبة المؤخرة الرجراجة نظرة قطة متوثبة، ودون أن تنطق بكلمة، التقطت الأخرى الفكرة المتنمّرة وقالت:
- الأفضل أن ندعوه إلى هنا، المكان أنسب هنا؟
- والواقي؟
وقبل أن تنطق بقيّة الكلمة، حشرت الأخرى إصبعين في حقيبة يدها الجلديّة وأخرجت واقيا ذكريّا، داعبت به أنف صديقتها الأقنى قائلة:
- خذي أنّه من النوع الرّفيع...
- هل تبدئين أو أبدأ؟
- لي مزيّة جلب الأوقية. وضحكت...
- لن تكون مزيّة. أرجّح، بل وأجزم أنّ نيتشة يذخّر نفسه بعدد منها!
- أتراهنين؟
- أراهن...
- هيّا، اكشفي نفسك له وناده.
- أطلّت صاحبة المؤخرة الرجراجة من وراء الشجرة وأومأت لنيتشه بيدها البيضاء الصقيلة. انتصب واقفا كمن هبطت على رأسه صاعقة. ثبّت البنطال متعجلّا إلى جذعه، ونطّ في اتجاهها كحيوان كنغر، لكنه تعثّر في البنطال وسقط على وجهه. ندّت عنه صيحة ألم شرخت هدوء الحديقة إلى نصفين، فقد كانت الكدمة مباشرة في أيره الذي أذاه الحصى المدبّب المنتشر في الممرّ المبلّط.
راقبت الفتاتان وقوف دوريّة شرطة النّجدة التي صادف مرورها في الحديقة. حين انعطفت كان نيتشه يجلس القرفصاء، في الممرّ المرصوف ببلاط ، محاولا الوقوف، وقد قيّده البنطال الذي استقرّ عند مستوى ركبتيه، وحال دونه والفتاتين المختبئتين. ترجّل أحد الشرطيّان. رأياه يبصق على الأرض متقزّزا من رؤية ذلك الفحش، ثم سمعاه يقول مستنكرا:
- هذا أجمل ما يفتتح به صباح...
أما نيتشة فقد ابتسم ابتسامة عريضة، ثم كشّر تكشيرة ضبع، ثم ضحك. ابتسم مرّة أخرى، أخيرا كان يقهقه جذلا. استقام، جرى غير بعيد من الدرّاجة النّارية ثم عاد على أعقابه، ثم أصبح ينطّ وأيره ينطّ معه، مصفّقا أثناء ارتطامه بأسفل بطنه. عاينت الفتاتان ذلك في ذهول.
قال الشرطي:
- مجنون
قال زمليه
- مجنون
قالت صاحبة المؤخرة الرّجراجة:
- ياللخسارة، لقد كان مجنونا !
- قالت صديقتها
- فعلا مجنون
قال نيتشة في سرّه:
- لا أمل، يبدو أنه لا مناص من مشوار الماخور...مجانين..كلّكم مجانين..
( يقال أن نيتشة ذهب إلى الماخور مرّة واحدة في حياته، ولكنه وقف على بابه ولم يلجه، لا أحد يعلم ماذا جال بخاطر نيتشه في تلك اللحظة الفارقة، أو ماذا حصل معه كي يقرّر العودة على أعقابه)



نبيل قديش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى