نادر رنتيسي - الموت جالساً على كرسيِّ الفرو

زوجتي نائمة بجانبي، مغمضة عينيها الواسعتين بسلام، وشفتاها منفرجتان كأنهما فشلتا بإخفاء ابتسامة، يبدو أنّها ترى حلماً مسلياً، ولم تنتبه قبل نومها الآمن لجلوس الموت هنا على كرسيِّ الفرو أمام مرآة التسريحة، لم تره حتماً مثلما أراه يجلس وعيناه تتحرّكان مثل ذبابتين دائختين، يشرب الشاي المُرَّ، كما يفعل أفراد الحراسة العسكريّة للمحبوسين منزلياً.

ولو أفاقتْ أيضاً فلن تراه، ولن أخبرها بالطبع، حتى لا تبدأ طقوس الحِداد مبكراً، ستشهقُ مثل سيّارة كادت أنْ تتجاوز الإشارة الحمراء، وسيهبُّ جيراننا الفضوليون للفضّ فيما يعتقدون أنه عنف أسري، ومن تحت وسادتها تتناول هاتفها المحمول، تكلمُ أمّها التي يخشاها الموت، وقبل أنْ يضيء الصباح سيملأ أقرباؤها مقاعد البيت. لها عمٌّ بزبيبة على الجبين، سيأتي بمهمّة واضحة، ألاّ أسوِّفَ بالتوبة، وأرضى بالكفاف، ولا أتكاسل في العبادات، أما أنا فأودُّ أنْ أستعجل الموت وأذهَبُ معه، كما يذهب الرجال في الخمسين لتجربة الغيب.

نائمة زوجتي بعمقٍ يستحقُّ الحسد، تبدو مثل حمامة نسيتْ فطرتَها في القلق. هذا إذن وقتٌ مثاليٌّ لأخرج من درج الكوميدينو الدفتر الأسود، وأبدأ بتدوين أول الكلام، وهو أيضاً آخره، وآخر ما سيتاح لي قوله قبل أنْ أغادرَ الدنيا التي وصفَها إمام المسجد المجاور يوم الجمعة الماضية بأنّها ليست سوى “مصعد كهربائي” إلى السماء، ويبدو أنني مطالبٌ الآن بالتوقف في الطابق الخامس، ومن ثمّ الصعود، بزفرة واحدة، واحدة، وبلا عودة.

كتبتُ في الدفتر الأسود: “لستُ حزيناً على اقتراب الموت، بل إنّني أحترمُ حضور مندوب عنه إلى هنا، إلى غرفة النوم، وجلوسه على كرسيِّ الفرو، مثل سجّان مكسور، يتعاطف بنُبْل حتى يكاد يقول بصوت الممثل المحدود الدور في الأفلام المصرية: أنا عبد المأمور. يتمتَّعُ بكياسة هذا الموت، وذوق شديد الرفع، يبدو أنّه انتظم في دورة اتيكيت، وتعلّم أصول الزيارات للعائلات من الطبقة المتوسطة. جالسٌ هو، يغفو ويكاد رأسه أن يسقط في حضنه، ثمّ يهبُّ كمن تخايل عدواً، ولما يتأكد أنه غفا أثناء واجبه الوظيفيِّ ينظرُ إليَّ بخجل، وربما يتذكره مهمته، فيرسل نظرة أخرى بعينيْ أبٍ على جسد ابنه الشهيد. أقسم أنّني سأمشي معه بدون نزاع، سأخرجُ برفقته بعد أنْ أبدّلَ بيجامتي المقلّمة، وأرتدي البدلة الإيطالية التي اشتريتها لخطبة ابنتي البكر نسرين. لن أرجوه أو أستبقيه، هذا موت صبور، يكفي أنّه قد أتاح لي هذا الكلام”.

أعدتُ الدفترَ الأسود إلى درج الكوميدينو الثاني، بعدما أضفتُ تشبيهاً وراء القسم بأن أمشي مع الموت “كالأسير الذي لم يكن يرغب بخوض الحرب”، أخرجتُ سهماً إلى الهامش الأيمن وأضفت الكلمات السبع متتابعة كالدرج. ثمّ حاولتُ النوم، كانت الحادية عشرة، أي بعد نوم زوجتي بساعتين. هي في منتصف الأربعين، وأخبرَتْني أنّها عثرت في مجلة للرشاقة على عشر فوائد للنوم المبكر، والاستيقاظ مع الطيور. تقول دائماً إنّها لن تفعل أيّ شيءٍ لإطالة العُمر بعد الستين، وكنتُ أقول لها إنّ العمرَ مثل المعدة كلما اعتادت على كمية من الطعام، لا تعود للقبول بنصفها. وضعتُ غطاء ورقياً بنياً على الدفتر الأسود، وحاولت النوم مجدداً، لكنّي خشيتُ أنْ يمتدَّ الليل إلى ليلة أخرى.



* نقلا عن موقع هوامش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى