رسائل الادباء : رسالة من شكري فيصل إلى الشيخ علي الطنطاوي

20 - 05 - 1940

إلى أخي الطنطاوي

أخي الأستاذ علي:

الآن أرسلت يدُي بعد أن مسحت بهما دمعتين اثنتين غشيتا عيني وانحدرتا على خدي كقطرات الندى الناعم حين يترقرق على أوراق الزهر الرفاف في ربيع الغوطة الفاتن. . . ولقد أخذت القلم لأكتب لك، وأنا لا أدري أي شيء كانت هاتان الدمعتان. . . أكانتا تطفئان نار الوله والحنين، أم ترثيان لوضع البلد المسكين، أم تترجمان عن فرحة القلب بالأمل المؤيد والنصر المبين؟ وهل كنت أملك إلا هاتين الدمعتين، وإلا هذا القلم أفزع إليه كلما عبث بي الشوق، أو ماجت بي الذكرى، أو استثارني الحب

لقد قرأت زفرتك هذه التي سطرتها بدم قلبك الفائر، وعزم شبابك المضطرم؛ فبعثت في نفسي عالماً كبيراً. . . بكل ذكرياته وأحاديثه. . . ما كان أشد حرصي على أن أدفنه وأنطوي عليه؛ وأثارت في ذهني صور الماضي البعيد بكل ما كان يصطرع فيه من آمال، ويفيض فيه من خواطر. . . ونعمت حيناً بهذا الجو العبق الذي فنيت به، وعشت معك من جديد ساعات تقلبت فيها مع الزمن الدائر، وجريت مع الأيام المتعاقبة، وقرأت هذه الصفحات المشرقة التي خططتها بيديك في كتاب الحياة، وعاودت قراءتها وانغمست في نعيمها حيناً وفي شقائها أحياناً. . . ومضيت مع فرحتها مرة، ومع شكاتها مرات، وخرجت وفي قلبي يقين، وعلى شفتي ابتسامة، وفي عيني بريق من الأمل الضاحك

لقد عرفتَني ناشئاً حين كنت أسير مع أخيك بين المدرسة والبيت. . . صغيرين وادعين. .

لا نعرف آلام الحياة، ولا نفقه مصاعب الدنيا، ولا ندرك من هذا العالم إلا جنة المدرسة ونعيم التلميذة وصفاء القلب. . . فكنت تلقانا بالرعاية، وتصلنا بالعطف، وتفيض علينا ألوانا من الحنان. . . فعرفتُ فيك الأخ البر، وقد حرمتْني الحياة من نعيم الأخوة. . . وأفضيت إليك ذات يوم بكل ما في نفسي. . . بكل ما يموج فيها وما يضطرب عليها. فكنتَ بعدُ كثير السؤال عني إن غبت، كثير العناية بي إن حضرت، واقترنت صورة أخيك في ذهنك إلى صورتي فجعلت منهما إنساناً واحداً تضمر له أنبل الشعور وأصدق العاطفة. . . ثم كانت إرادة الله فانصرفت أنت إلى بغداد، ومضى هو إلى باريس، وسعيت أنا إلى القاهرة. وبقي (ناجي) وحده في دمشق يرعى فيها عهود الصبا ومراتع الأنس، ويمدنا منها بالروح والريحان

وفي خلال هذه السنوات كنت أتعرف إلى نفسك الكبيرة وكان يتفتح لي منها آفاق وعوالم، ولقد أكبرت فيك هذا الجلد وهذا الصبر. . فما بالك تشكو اليوم، وتنفث هذه الشكاة على حين احتملت من قبلُ الأهوال والمشقات، ضاحك السن، منطلق الوجه، لا تأبه ولا تهتم؟ ولكن سامح الله قاسيون، وهذه السهول المنطلقة عند قدميه يدغدغها النسيم فقد شجتك واستثارتك. . .

. . . وهل كانت الأولى هذه العماية عن الأدب، وهذا الإهمال للعلم، وتلك الرعاية للجهلاء؟ وهل كنت تأمل من هؤلاء الذين عاشوا في الظلام أن يدركوا النور، وأن يفتحوا عيونهم له، وأن يغفلوا عن الوحي (الأرض) الذي يسيرهم في كل ناحية، ويمضي بهم في كل اتجاه؟ وماذا كان حديثك لنا حين كنت تبعث فينا حمية الأدب، وعقيدة العلم، إلا أننا سنصادف غداً في معترك الحياة هذا الإنكار وهذا الجحود. وأنه يجب علينا أن نصبر عليه ونصمد له ونمضي في مقاومته، وأننا سنحمل في أيدينا مشاعل الدعوة الكبرى التي تريدنا دمشق أن ننهض بها، وستصيب النار المقدسة من أجسامنا فتكوى أكفنا وتنثر الشر على أجسادنا وتنالنا بما تنال به جنودها المخلصين من الامتحان والابتلاء. . . فلا يجب علينا أن نتخلى عنها، لأنها دعوة الحق والصدق والخير تريد أن تنبعث من جديد في دمشق لتعم الدنيا، وتبهر العالم

إن دنيا الأديب لن تخلو من أنماط من الجحود. . . هكذا قلت لنا. . . وإن رسالته لتصادف ألواناً من الصعوبات، وأصنافاً من المشقات، حتى لكأن الله قد أراد له أن تصهره الشدائد، وأن يصقله الحرمان حتى يكون إنساناً آخر في إحساسه المرهف وشعوره النبيل، وعواطفه المتدفقة

وهل تخلو حياة الأدباء من هذا الصراع العنيف بين النور المتدفق الثر، وبين الجهالة الكابية المعتمة؟ وماذا يريدون منك حين يحولون بينك وبين العدل، ويحاولون أن يقصروك على منصب (الأستاذ المعاون) إلا أن يصرفوك عن الدعوة النبيلة التي قدحت شررها، وأثرت نارها، ونشرتها في كل قلب؟!. . .

نحن لم نخلق لهؤلاء البغاث، وسيذهب أولئك الذين يتخذون منقار النسر وجناحه ومخلبه. وستبقى رسالة دمشق الغالية، وسنتحمل الأذى، وسنذوق مرارة الحرمان اليوم، لنبلغ حلاوة الظفر غداً. وثق أنك لست وحدك في هذا الاضطهاد والحرمان، ولكنها سبيل مرسوم، وسهم مسموم، يقذفون به عباد الله الذين لا يستطيعون هز الرؤوس للممالأة! وحتى الظهور للنفاق، وإلا فما تقول يا سيدي وماذا يقول الناس عنا نحن هنا؟ يبعثون بنا إلى القاهرة: أروع بلدان الشرق وأزخرها بالحياة والنشاط لنمثل مدينة من أكرم المدن، وأمة من أنبل الأمم، ثم يبخلون أن يسووا بيننا وبين البعثات الأخرى التي يوفدونها إلى باريس وغير باريس؛ فيقدمون لنا المرتب - والحياء يعقل لساني عن أن أقولها - جزءاً من خمسة أجزاء من مرتب عضو البعثة. . . كأن القاهرة بلد آخر غير باريس. . . وكأن الطلبة يأكلون هناك ويصومون هنا. . . أجل!. . . ولم لا يصومون؟. . . في جوار الأزهر، وعلى مقربة من سيدنا الحسين ليتضاعف ثوابهم، ويجزل أجرهم؟. . .

وأحسب أن الحرمان سيمتد بك وبإخوانك؛ فما يؤذي هؤلاء في الدنيا أكثر من الصراحة والحق. . . ولكنك لن تني عن (رسالتك)، ولن تتخلى عنها. . . وإذا لم تجد في جماعات الوزارة، ورجالات الديوان، من يمتَّ إليك بسبب، أو ينهض معك في حق. . . فتك إرادة الله أن تكون صفحتك في كتاب الحياة بريئة، إلا من نصرته وتأييده. . . لقد اقتحمت الحياة، وصارعت أمواجها طفلاً ليس معك إلا والدتك عليها رحمة الله. . . ولقد حملت أخواتك على كتفيك في هذا الخصم الهائل، وتعرضت لألوان من الشدة ومن النكد، حتى صعدت بهم إلى هذه المنازل السامية التي ينزلونها. . . وأصبحت بين هاتين المرحلتين ما لا يعلمه إلا الله. . . وإلا هذا العدد اليسير من إخوانك، وتقلبت بين بيروت وبغداد والقاهرة. . . وحفظ لك الناس صورة بارعة تحوطها هالات الإعجاب والإكبار والتقدير، فليهنك هذا. . . وليهنك أنك ساهمت في كل مشروع، وأنك تقدمت لكل عمل منذ كنت يافعاً في الثانوية، وشاباً في الحقوق، وقائداً وخطيباً في لهب الثورة وجحيم الاضطرابات. . . فتاريخك - مع هذه الحفنة الصادقة من الشباب - أبعد من أن تحده بهذه الحدود الضيقة من الوزارة والديوان، وما عليك أن تلقي اليوم هذا الضيقة، وهذا التجاهل. . . فذلك تأريث لعزتك، وإيقاد لشعلتك

أما الشهادات. . . هذه الأوراق السحرية التي يحملونها حين يترجمون نصاً لابن المقنع، أو يميزون بين مضارع (قال)، ومضارع (وعد). . . ويعودون بعدها من أهل العربية. . . فهي ليست أكثر من أن تكون بمثابة (الشيك) على (خزانة الحكومة). . . ولكنها لن تكون قط السبيل إلى قلوب الناس وضمير الزمن وسجل الخلود. . .

لن تظلمك دمشق هذه المدينة الصابرة الوفية. . . ولن تجزيك عن البر بالنكر، وعن الإحسان بالإساءة، فلقد خلدت منها كل صور الجمال، ومواطن الجلال، ومجال العظمة. . . ولقد نشرت على الناس صورتها الرائعة في مآدنها المتألقة، وقبابها الناهضة، ومساجدها المترعة بالنور والفيض، وبساتينها الملأى بالحسن والجمال. . . وغوطتها الضاحكة على رغم هذا الزمن العابس. . . وإن ما تلقاه الآن من أوضاع، وتجده من أذى، لا يتصل بدمشق ولكنه محمول عليها. . . فدمشق مخلصة نبيلة. . . آوت من قبل ألوان البشر، وآلاف العلماء، وفتحت صدرها للناس من كل مكان، تلقاهم بالتحية الضاحكة، وترعاهم بالود الخالص، وتنزلهم منها منزلة الولد والصاحب والرئيس!. . . ولن تنسى أبناءها لأنهم كل ما أبقيت لها يد الزمان الغادر. . . إن قلبها ليرعاهم ويحوطهم، ويهتز لهم هزة الحب. ولئن عميت طائفة عن هؤلاء الأبناء، وعن هذا النور ينسكب من وجوههم وقلوبهم؛ فإن طوائف وطوائف أخرى تتطلع إليهم بأعناقها. . . وإنها لتنظم لهم من حبات القلوب، وأزهار الربيع، وأغصان الغار، تاج الحب. . . وإنها لتوقع لهم مع نسمات الأصائل التي تزخر بالعبق نشيد الإعجاب. وإن أصوات المآذن التي تنادي: الله أكبر، الله أكبر، خمس مرات في اليوم، إنما تنبعث من أعماق قلب هذه المدينة لتهيب بهؤلاء الأبناء أن يمضوا قدماً في دعوتهم وجهادهم لخلاصها من مفاتن الباطل والضلالات

لقد هدأ الليل، وسكن الناس. . . وأخذت أستشعر لهذه النسمات بعض القسوة. . . وليس من حوالي إلا حديث القمر، وهمسات النجوم. . . أحملها كل حنيني لك، وللأخوان السامرين، وللجادة الخامسة. . . وللغوطة الزهراء

. . . وألف تحية وسلام يا دمشق الحبيبة الوفية

(القاهرة)

شكري فيصل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى