محمود الخفيف - عفراء الغجرية

كان على صهوة مهره الجميل ذات صباح من إصباح بشنس البهيجة في طريقه إلى حقل من حقول أسرته المترامية البعيدة، وقد برزت الشمس من وراء كلتها الوردية، وأخذ ذوبها العسجدي يرف في ذرى الأغصان وأطراف السعف وأجنحة الطير. وكان نسيم الصباح الني ينفح الناس والشجر والدواب في تلك البطاح المنبسطة التي لم تبق فيها مناجل الحاصدين إلا جذور القمح، والتي تلمح العين فيها على أبعاد، مزارع القطن الخضراء، وقد أخذت تدب القوة في شجيراته الموموقة المصفوفة. . .

وكانت الحقول آهلة بالناس، فهنا وهناك جماعات الحاصدين قد تحلقوا حول الفطير والعسل، أو تمددوا على فرش الحصيد، أو انحنوا فرادى على السنابل الذهبية يجذونها بمناجلهم. . . وهنا وهناك حاملات الفطور بين غاديات ورائحات، ولاقطات السنابل لا يزال بعضهن يلتقطنها؛ بينما يخطر بها الأخريات حزماً على رؤوسهن يزداد بها قوامهن رشاقة وملاحة؛ والطرق إلى القرية تتقاطر فيها الإبل تحمل السنابل ويتغنى خلفها الفلاحون - وهم بين هاتف وزامر - وبينهم بعض البدو ممن يهبطون القرى بجمالهم في هذا الموسم لنقل أحمال الحصيد إلى البيادر. . .

كان كل شيء باعثاً على البهجة، فما ترى العين ولا تسمع الأذن إلا فيض السرور؛ ولكن (حيناً) كان يحس وحده الانقباض وسط هذا المرح الغامر. . . وكم كان يحسد هؤلاء الفلاحين على ما رأى من مظاهر هناءتهم، وكم كان يتمنى لو أتيح له مثل ما يتاح لهم من نعيم، ولو اشتراه بما يملك جميعاً! بل لقد كان يحسد مهره، وقد خيل إليه كأنما طاف به طائف من هذا السرور، فهو يتبختر تبختر النشوان، حتى لو تكلم لباهى بفتوته وجمال غرته، ولام صاحبه على ما يبدو عليه من هم!

وتنهد الفتى، وقد ذكره ذلك السرور شجونه، واستحث مهره يريد أن يصل به سريعاً إلى حيث كان يريد أن يقضي النهار في منعزله، في ذلك الكوخ القائم على ضفة الترعة الكبيرة، بالقرب من أكواخ تلك الأسرة البدوية التي تقيم هناك منذ سنين لحراسة الزراع؛ وما كان يأوي حسين إلى ذلك الكوخ إلا حين كان يضيق بهمه، وتثقل على نفسه الحياة

وانعطف به مهره عند نهاية قناة طويلة تجري وسط مزارع أسرته، فلم يكد يتجه اتجاهه الجديد، حتى وقعت عيناه خلف شجرة كبيرة على بعض أخبية للبدو لم يرها من قبل هناك، ينبعث الدخان من كوانينها، وتنبح الكلاب المارين بها. ونظر، فإذا هو يرى بأحد هذه الأخبية فتاة مضطجعة، عجب لأول وهلة كيف يتأتى وجود مثلها في خباء من الشعر، وهي لولا ملابسها البدوية، وحليها البدوية، لظنها الرائي إحدى غانيات القصور، ففي وجهها الرائع القسمات، وفي بدنها البض، مخايل النعيم والترف، وفي سمتها معاني الكبرياء والأنفة، هذا إلى بياض بشرتها على نحو لا يكون إلا في الناعمات البيض من ربات الجمال. . .

ورشقته الفتاة بنظرة من عينيها الدعجاوين الرائعتين، نظرة فهم بفطرته منها كثيراً من المعاني: ففيها الإغراء والدلال، وفيها الإعجاب به وبمهره الجميل، وفيها الأنفة وعدم المبالاة، وفيها الإقرار بما يبدو عليه من جاه، وفيها الإيحاء إليه بجاهها هي وإن كان من نوع آخر غير جاهه، نوع كم ذل له كل جاه، وكم دانت له من جباه. . . وسار، وقد انطبعت في مخيلته صورة هذه البدوية الجميلة، ورآها بين من أحطن بها كأنها وردة رائعة في بقعة من الشوك. . . وحدثته نفسه وهو من لا يهاب ولا يضطرب أن يرجع، فيجلس ساعة بين هذه الأخبية ليرى مبلغ كبرياء تلك الفتاة، وهو لم ير هناك رجلاً ولا فتى، ولن يضيره أن يحضر الرجال جميعاً، فهم يقيمون في ملكه، ولا يسعهم إلا الإذعان لسلطانه. . . ولكنه ما لبث أن رغب عن ذلك، ومضى في سبيله إلى منعزله. . .

وبلغ كوخه فترجل وأسرع إليه صبى من البدو المقيمين هناك فأخذ المهر إلى مربطه؛ وجلس حسين في الكوخ ينظر إلى الماء في الترعة الساكنة الهادئة ويمني نفسه بيوم هادئ؛ وطافت برأسه أول الأمر طيوف همه، ثم طاف بها خيال تلك البدوية الجميلة، وتمثلت له عيناها الجريئتان الساحرتان، فسرى عنه بعض ما به لحظة أسلمه بعدها إلى وجد عميق إذ تداعت إليه آلام حبه ولواعج قلبه. . . وأفاق من أحلامه على صوت ارتفع من قرب بالتحية. . . ونظر فإذا الشيخ مصطفى مقبل نحوه، وامتعض حسين ولكنه أخفى امتعاضه بابتسامة متكلفة قائلاً: (وعليكم السلام يا عم الشيخ مصطفى. من أين أنت قادم؟) - من عزبة علي بك، حيث كنت أحادثه في شأن الأطيان التي يريد عمك البك استئجارها وقد قضيت الليل عنده

- هنيئاً لعمي ما يملك وما يستأجر. . . أما أنا. . . ولكن ماذا أقول ربنا موجود يا عم الشيخ مصطفى

- يا سي حسين بك دائماً تشكو، قريباً تأخذ ملكك وتتمتع به، المسألة زيادة حرص من سيدنا البك عليك

- قريباً. . . نعم قريباً، بمشيئة الله وبإرادتي أنا لا بإرادة سيدنا البك

وخشي الشيخ مصطفى أن يسمع عن سيده ما لا يحب، فاستأذن ونهض يريد الانصراف، ومد يده إلى حسين فسلم عليه وهو مضطجع والشر يلمع في عينيه وقال له وفي وجهه جذوة الغضب: (قل لسيدنا البك إن حسين لم يعد صغيراً وهو لن يطيق بعد اليوم أن يحيا هذه الحياة وله عندك أكثر من ثلاثمائة فدان. . . كفى. . . كفى أني انقطعت عن التعليم بسبب شحة علي وكنت قريباً من النهاية. . . لا! لا! الصبر بعد اليوم مذلة)

ومضى الشيخ مصطفى، يشيعه، حسين بلعناته، وقد كان هذا الرجل من أبغض الناس إليه، لما عرفه عنه من الملق والمداهنة وشدة المكر، هذا إلى أنه لا يذكره عند عمه إلا بالسوء كأنه يرى في ذلك وجهاً من الزلفى

وتشاءم حسين بمرأى الشيخ مصطفى كاتب زراعة عمه ونائبه في أعماله وزاده مرآه هماً على هم؛ وتذكر أنه ما كان يراه مرة أيام كان طالباً إلا رسب في امتحانه أو أصابه المرض إن لم يعقب مرآه امتحان

والتفت حسين نحو الترعة يريد أ، يغيب في سكونها ثورة نفسه فأبصر تلك البدوية الحسناء وقد حسرت ثوبها عن ساقيها الجميلتين ونزلت في الماء تغترف منه في إناء صغير من الفخار، وتبدت لعينيه كأنها تلك الجنية التي كان يسمع من أوصافها وهو صغير ما كان يخفق له قلبه رعباً. . . ولقد خفق قلبه الآن لمرآها ولكنها اليوم خفقات الإعجاب بهذا المنظر الساحر الفاتن. . .

وكأنما كانت بما تأتيه من حركاتها الرشيقة تدعوه ليحدثها وما كان بحاجة إلى هذه الدعوة فقد خف إليها وحياها في جرأة فردت في فتور وهي تغريه بعينيها وتتكلف الحياء فتشيح بوجهها عنه وهي منحنية على الماء، وسألها عن اسمها فتباطأت لحظة وهي تبسم له ابتسامة نفذت إلى قلبه ثم قالت: (خادمتك عفراء. . .) ووثبت إلى الشاطئ ووضعت الإناء فوق رأسها وهمت معجلة بالانصراف، فاستوقفها فتأبت، فقال: إنه لن يسمح لها بالسير إلا على موعد. فضحكت وقالت: حتى ترى القمر في الضحى؛ وأجاب من فوره: ها قد رأيته، وأشار إلى وجهها الجميل. . .

ولم تكد تخطو حتى مر بالكوخ فتى في نحو الثلاثين كره حسين مرآه، ففي لفتته لفتة الذئب ورآه ينظر نحو عفراء نظرة ملؤها الغضب والغيرة

عاد حسين إلى القرية بعد عشرة أيام قضاها في منعزله على ضفة الترعة، حيث كانت توافيه إليه عفراء كل ليلة فتجلس معه ساعة أو بعض ساعة

ووصل إلى منزل عمه وقد غربت الشمس فوجده جالساً على كرسيه أمام داره وحوله جلساؤه وعلى مقربة منه كاتب زراعته؛ وألقى الفتى إليهم السلام فردوا جميعاً إلا عمه فقد نظر إليه نظرة كريهة لمح فيها لأول مرة إلى جانب البغض ما يشبه التشفي. . . وعجب حسين أن رأى معاني الرثاء واضحة في نظرات من لقيهم من الخدم وقرأ على وجوه الخادمات وبخاصة عزيزة أن كلا منهن تريد أن تفضي إليه بنبأ، فاضطرب قلبه في جوانحه وقد فهم كل شيء. . .

ونادى عزيزة فأقبلت عليه لا تدري كيف تفضي إليه بما تريد من نبأ، فارتسمت على شفتيه ضحكة متكلفة حزينة كأنما يقول لها بها: هيه لا تخافي. وقالت عزيزة (يا سيدي حسين ستي ثريا هانم خطبوها خلاص وكتب الكتاب بعد شهر. . .)

وأحس كأن قلبه يدمي في جوانحه؛ وتقطعت أنفاسه كأنما مسه نصب شديد، ولكنه تجلد ريثما صرفها، ثم أسند ظهره إلى حائط البيت يخشى أن يسقط على الأرض. . . ثم مشى يجر رجليه فأوى إلى مضجعه وجلس في الظلام ساعة. . .

وبث اليأس في قلبه البأس والقسوة فلن يعبأ بعد اليوم بشيء وهو يريد أن يعرف أولا ماذا ترى ابنة عمه فيما أريد لها، ولذلك وثب من مكانه لا يدري أين يذهب ولا من يسأل، وفي مخيلته نظرة عمه وما فيها من معاني التشفي، وفي نفسه وساوس وهواجس ونيات سود فزع حتى في ساعة يأسه منها. . . وما قيمة حرمانه مما يرث إلى جانب حرمانه من أمله الذي لا يرى للحياة معنى من دونه؟ ولم يكد يخطو من منزله إلى منزل إلى منزل عمه حتى رأى عزيزة فناداها وهم بسؤالها ولكنه لم يعرف كيف يدير الحديث إلى غرضه ففهمت ما يريد فقالت في لهجة الواثق: (ما تخافش أبداً يا سيدي حسين أنا عارفه. . .)

- عارفه إيه؟ هل قالت لك حاجة؟ لازم أعرف

- لا ما فيش حاجة إنما أنا عارفة وبكره تشوف وأبقى قول عزيزة قالت لي ولي عندك الحلاوة

وانصرفت عزيزة مخافة أن يراها سيدها، ووقف حسين في مكانه يدير كلامها في عقله متسائلاً هل أتت به من عندها أم سمعت شيئاً من سيدتها ولكنها لا تذكره لأنها لم تؤمر بذكره؟ وفزع بآماله إلى الرأي الثاني فهدأت ثورته قليلاً

مضى حسين إلى (دوار) عمه، وجلس وحده في ركن هناك، وظل يتفكر في همه مطرقاً حتى أحس بيد على كتفه فرفع بصره فإذا هو ابن عمه أحمد، وكان هذا على خلاف أبيه، يبدي المودة لحسين، ويكاشفه بما في نفسه. . . ومال الحديث بين الفتيين أول الأمر إلى الأرض التي يريد أن يستأجرها البك بالقرب من عزبة علي بك، وأظهر أحمد خوفه من عاقبة هذا العمل، ثم أفضى إلى حسين أن علي بك يستأجرها كل عام من البنك، وعلي بك رجل خطر فتاك وبينه وبين أبيه ضغائن وإحن قديمة وليس من الحكمة أن يأتي أبوه هذا العام فيغري البنك بأن يأخذها هو نظير زيادة في الإيجار، وليست به حاجة إليها، بينما يحتاج إليها علي بك أشد الحاجة لأنها تفرج عنه ضائقته التي يعانيها منذ بضع سنين، فضلاً عما في فعل والده من معنى التحدي والتعدي وهو أمر له خطره الشديد عند الأسر

ووثبت إلى ذهن حسين صورة ذلك الفتى الذي مر به غداة ذهب إلى كوخه، والذي كره حسين مرآه ورأى الإجرام واضحاً في وجهه الشبيه بوجه الذئب؛ ولم يدر حسين لم يذكر الآن ذلك الفتى ولم يبعث تذكره في قلبه الرهبة ويشيع في نفسه الكآبة. ورأى حسين في وجه ابن عمه أنه يريد أن يحدثه في أمر، فسبقه حسين إليه وقال ضاحكاً: (مبارك النسب الجديد يا سي أحمد)

- لا دي مسألة وتفوت. عمك يريد معاندتك. . . إحنا كلنا معك، مين يفوت ابن العم ويفضل الغريب - لا تهتم غاية ما في الآمر لا تعاند عمك. وازدادت المحبة في قلب حسين لابن عمه أحمد، وقد تبين في لهجته الجد والصدق

لم ينم حسين ليلته إلا غراراً وقد ذهبت به الهواجس كل مذهب، ولما أخذته سنة رأى في نومه أنهم قد ذهبوا به إلى القبر وأنه فزع من ضمة القبر وظلمته؛ وأنقذته الديكة بتصايحها من حلمه المخيف، فهب، ولكنه تمنى لو كان الحلم حقيقة. . . أنزف ثريا إلى غيره وهو حي؟. . . ثريا ابنة عمه التي ما أحب غيرها وهي منذ الصغر مسماة عليه؟ أكان يفعل عمه ذلك لو كان أبوه حياً؟ وماذا جنى حتى يطعنه عمه تلك الطعنة؟ لا شيء إلا أنه يطالب بحقه. . . وما قيمة الحياة مع هذا الهوان؟

وتمثلت له أيامه الجميلة، أيام سعادته بحب ابنة عمه، أيام كان يناقلها الأحاديث العفة، وهي مطرقة في سذاجة حلوة تستروح نسمات الحب، وتحلم أحلام الحب، وترى في أبن عمها دنيا آمالها، ويرى فيها جنة أحلامه. . .

وعول من فوره أن يذهب إلى منعزله على ضفة الترعة، فما يطيق العيش على مقربة من عمه. . . بل إنه ما يطيق الوجود كله، وامتطى مهره وانطلق بعد أن قابل عزيزة؛ ومر في طريقه بخيام البدو فلم ير عفراء هناك. . . على أنه كان من همه في شغل عنها وعن سالف لهوه معها.

- كيف الحال يا شيخة العرب؟

- الحمد لله. . . ربنا يخليك يا سيدنا البيك

- مين هوه الجدع اللي كان هنا الغريب ده؟

- ربنا يكفينا شره. . . الله يسهل له. . . دا بعيد عنك. . . دا يقتل الرجل بجنيه أو بكيلتين حب

- ولم يأتي عندكم؟

- دا يروح عند أي جماعة من العرب، ما حدش يقدر يكلمه. . . يا ما يأخذ من هنا خبز ولحم وشاي. . .

وكان حسين يعرف الكثير من أحوال هؤلاء الأعراب الذين يحترفون القتل، وليس يدري لم لاح له شبح الجريمة منذ رأى ذلك الأعرابي. . . هل جاء لقتل عمه؟ يفعلها علي بك ولا يبالي. . .

فكر حسين وأطال التفكير، وبينما هو يقلب الأمر على وجوهه، إذ لمح عفراء مقبلة فحيت باسمة ولمحت عيناها السرعتان اللهم في وجهه، فقلت مداعبة:

- أعف البخت وأقرأ الضمير. . . فهل تريد؟

- أين الرمل والودع؟

- لا. . . يكفي هذا الطمي. . . أرمي بياضك

- ودهشت الغجرية أن رأت حسيناً يرمي إليها جنيهاً براقاً كعين الشمس، ولم تصدق أنه لها أول الأمر حتى استيقنت من ذلك فراحت تقول وهي تخطط الطمي بإصبعها:

- عدو جديد. . . أحذره، ولكن الوردة لك لا لغيرك. . . صلي على النبي. . . واحد يكرهك وواحد يوز عليك والباقي يحبونك وأنت منصور. . . شر كبير ولكن يفوت وربنا يسلم

وسكتت العرافة وتلعثم لسانها، وجرت صفرة في وجهها الوردي، واختلجت عيناها واضطربت أصابعها، ثم قالت:

- وفيه وردة ثانية، لكن آه! تعرفك وتتملى نورك، وأنت موش داري

- وفهم ما تريد ولكنه تغابى، ودنت العارفة منه وهمست في أذنه كلاماً دق له قلبه وانطفأت حمرة وجهه وارتعدت مفاصله. . . وانطلقت وبودها لو عرف الوردة الأخرى وشمها شمة. . .

إذاً فقد أصبح الوهم حقيقة. . . فهذا الذئب ما جاء إلا يفتك بعمه، ولكن من أدرى عفراء؟ لعلها سمعته يفضي بسره إلى زميل له من البدو. وماذا يفعل حسين؟ لقد مرت برأسه فكرة ارتاع منها وانتفض لها جسمه. . . لا، كيف يسكت؟ أيطيق أن تفجع ثريا في أبيها؟. . . وهو؟ أليس هو عمه على الرغم من كل شيء؟ ألم ينحدر هو وأبوه من صل واحد فهو بذلك قطعة من أبيه. . .؟ وكيف يلقى الله ودم عمه على يديه؟ وكيف يهنأ بعيشه بعد الجريمة. . . إنه يحس أن سكوته اشتراك بكل معاني الاشتراك ويوسوس له الشيطان فيقول: هبك لم تعلم ومات عمك أفلا تتمتع بملكك وحبيبة قلبك؟ كلا. . . كلا. . . إن الدم لا يهون؛ وهو يعلم ما يبيت لعمه. . . ولكن كيف تزف ثريا إلى غيره ثم لا يحدث ذلك إلا نكاية فيه؟ ويحه ما باله! تنازعه هذه الهواج والأمر بين؟ ماله يلتفت نحو الترعة؟ أيريد أن يعبر إلى العدم لجتها؟

قضى ليلته مشرد اللب خائر البدن تفزعه الرؤى السود وتنهش أحشاءه المخاوف، وات يخشى على نفسه هو، ومن يدريه فلعل ذلك الذئب قد علم من حيث لم يدر هو ولم تدر عفراء، بما أفضت به إليه. . . لعله رآها تهمس في أذنه ومثله من يرتاب في كل شيء ومن يفهم باللمحة الخاطفة، وأغمض جفنه، فرأى وهو ين اليقظة والنوم أنه ماثل أمام أبيه مغلول اليدين والدماء على ملابسه ويديه، وعمه في أكفانه ينظر إليه من كثب ولا يستطيع أن يتكلم. . . ومرت بوجهه أنفاس الفجر الندية فقام وهو لا يكاد يقوى على القيام. . . ثم عقد النية أن يخبر الشيخ مصطفى بما علم وهو الكفيل بأن يقضي على الذئب قبل أن يقضي الذئب على عمه

وأرسل من جاءه بالشيخ مصطفى، وجلس كاتب عمه بين يديه ساكتاً، وسكت حسين لحظة

- تألمت والله يا سيدي حسين لما علمت بنبأ الخطوبة الجديدة

- ليه؟ هذا نسب عال. . .

- على كل حال أنت أولى من الغريب ولكن ما الحيلة؟

- يا سيدي دي قسمة وربنا هو اللي عمل كده. . . هل يكون العقد بعد شهر صحيح؟

- لا، ربما كان قبل ذلك فالبك مستعجل

وأمسك حسين وصمم على كتمان ما علم، ولكنه حار كيف يصرف الشيخ مصطفى. . . واستأذنه لحظة وراح يمشي على ضفة الترعة جيئة وذهاباً وهو ضائق بما كان يبدو له من نظرات التشفي في وجه الشيخ مصطفى وإن بالغ في إظهار تألمه. . . وناداه فأفضى إليه بما علم، ثم صحبه إلى القرية وقد أصبح يخاف من كوخه

وانقضت أيام، أخذ يزداد فيها حسين قرباً من عمه بعد أن كان موضع الريبة والحذر الشديد، فقد اتهمه الشيخ مصطفى عند عمه بتدبير الجريمة، ولكن الشيخ مصطفى ما لبث أن جاء من لدن عفراء بالخبر اليقين. . . وأجل العقد الذي أريد من قبل ليحل محله عد التخلص منه عقد أخر. . . وأخذت الأيام تبتسم لحسين بعد عبوس مخيف طويل، ولم يعد يكدر على الأسرة صفوها إلا خوفها وحذرها البالغ على حياة البك، ذلك الحذر الذي كان يتجلى في إحاطة منزله ليلاً بالحرس الساهرين ولم تحل يقظة الحراس دون أن تفزع الأسرة كلها بعد العشاء ذات ليلة من صوت انطلاق بندقية استقر مقذوفها في كتف البك وهو في مدخل الحارة المؤدية إلى بيته

وهرع إليه ذووه يعتقدون أنه قد فارق الحياة. . . ولكن الله سلم فحالته لا تنذر بالخطر. . . لقد أخطاء الجاني مرماه؛ وشغل الناس هول الفزع عن تعقب المجرم، فتسلل تحت جنح الظلام وهو من يعرف كيف يفلت مهما نصب في طريقه من الفخاخ

ولئن أخطأ الذئب مرماه هنا فلقد أصابه بعد ساعة أو بعضها في مكان آخر؛ فهؤلاء البدو يهبون من خيامهم مذعورين على صوت المقذوف. . . أعقبه صرخة، ونظروا على ضوء مصباح صغير فإذا الدم الحار يتدفق من قلب عفراء، ووجهها الجميل لا تزال عليه بسمة أحلامها وهو متجه إلى السماء. . .


مجلة الرسالة - العدد 351
بتاريخ: 25 - 03 - 1940

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى